تسعة وعشرون عاما مرت على دخولي "القفص الذهبي" .. !!


أليوم هو اليوم الثالث من عيد الأضحى المبارك, وكالعادة أقضي اجازة العيد في المستشفيات التي أعمل بها بحكم طبيعة عملي, فالعيد بالنسبة لي كباقي أيام السنة..الفرق الوحيد بين أيام العيد وغيرها من الأيام هو أن هذه الأيام تحمل مجازا أسما هو"أيام العيد", وهنا لا بد لي من أن استذكر ما قاله طيب الذكر أبو الطيب المتنبي:"عيد بأية حال عدت يا عيد**بما مضى أم لأمر فيك تجديد"؟. وهذا اليوم ليس كباقي الأيام, ففي مثل هذا اليوم ولكن قبل تسعة وعشرين عاما دخلت ما يسمونه"القفص الذهبي"..لا أعلم لماذا أطلقوا عليه هذا الأسم؟, ولا أعرف من قام بتسميته بهذا الاسم, فلو كنت اعرف من هو؟ , لقلت له على الأقل بأنه منافق من الطراز الأول, ولقمت باطلاق النار عليه..ولماذا لم يسمى بالقفص الحديدي مثلا؟..القفص بالنسبة لي عبارة عن سجن مغلق باحكام, من المستحيل فتحه, تماما كما هي سجون الباستيل الصهيونية, فقط ارادة الشعب الفلسطيني بمقاومته الباسلة"ليست الحالية" هي الوحيدة التي بامكانها فتح هذه السجون لينطلق القادة ويعيدوا الوطن المسلوب من بحره الى نهره. يقول الفنان الرائع ابن سوريا الأبية جورج وسوف في أحد مواويله الرائعة:"انا مريض وحمتي واحد..وربعي بحسن ولف عن دربي..انا مريض وحمتي واحد وربعي..بحسن ولف عن دربي قال..ربع عمري بالمصايب قال..ربع عمري بالمصايب وربعين شقى وتعتير والباقي عذاب"..وليعذرني الفنان أبو وديع, لأنني أقول بأن حياتي ثلاثة أثلاث وليست أربعة أرباع: الثلث الأول, ويبدأ منذ ولادتي وكنت يومها تحت الاحتلال الأردني وينتهي هذا الثلث باحتلال ما تبقى من أراضي وطني في عام يسمونه عام النكسة..في هذا الثلث ورغم صغر سني الا أنني شاهدت كيف يقمع جيش البادية الأردني الهمجي الأمي شباب وشابات شعبي أثناء المظاهرات التي طالبت بأمور كثيرة أهمها الانفصال عن النظام الأردني, ولا زلت أذكر بعض الهتافات ومنها"يا شقيري بدنا سلاح". الثلث الثاني, ويبدأ منذ الاحتلال الصهيوني للقدس والضفة الغربية وغزة وينتهي بانهائي لدراسة الطب في رومانيا في عام 1983 , لا داعي لشرح مفصل عن طبيعة الاحتلال لكنني أقول:اللعنة كل اللعنة على من ساهم وتواطئ في احتلال ما تبقى من الوطن.."ومن استلم البلاد بغير عنف**يهون عليه تسليم البلاد"..تخلصنا من احتلال لندخل في احتلال اخر..سبعة أعوام في رومانيا, وأعتبرها أجمل أيام عمري, فحياة الدراسة الجامعية وخاصة اذا كانت في الغربة هي الأجمل, في هذه الفترة تعرفت على الكثيرين من الطلاب من كافة دول العالم. الثلث الثالث, ويبدأ بيوم زواجي عام 1983 وما زال مستمرا حتى كتابة هذه السطور..وما يميزه هو أنني لا زلت أعيش تحت الاحتلال وما زلت في هذا القفص اللعين..باختصار لا أزال أعيش في سجنين:سجن الاحتلال وسجن الزواج. وهنا لا بد لي من أن استذكر ما قاله شاعرنا العظيم مظفر النواب في قصيدته الرائعة"في الحانة القديمة":فَما أخرُجُ مِنْ حانَتِكَ الكُبرى إلا مُنتشئً سَكْرَانْ..أصغَرُ شيءٍ يُسْكُرُني في الخَلْقِ فَكَيّفَ الإنسانْ؟..سُبحانَكَ كُلُّ الأشّيَاءُ رَضيتُ سِوى الذُّلْ, وَأنْ يُوضَعَ قَلبِيَ في قَفَصٍ في بَيْتِ السُلطانْ
وَقَنِعْتُ يَكونُ نَصيبي في الدُنيا.. كَنَصيبِ الطيرْ..ولكنْ سُبحانَكَ حتى الطيرُ لها أوطانْ, وتَعوْدُ إليها....وأنا ما زِلّتُ أَطير... فهذا الوَّطَنُ المُّمّتَدُ مِنَ البَحْرِ إلى البَحْر, سُجُوْنٌ مُتَلاصِقَة.. سَجانٌ يُمْسِكُ سَجان.!. الحياة الزوجية رائعة اذا تم فهمها, وأنا شخصيا يكفيني بأن محصلتها بنتان وابن وحفيدة..وهنا أطرح السؤال:كيف يمكن انجاب الأطفال بدون الارتباط بحياة زوجية؟, ومن سيوجد طريقة مثلى فسيكون مأواه الجنة ويستحق جائزة "نوبل". لا أريد أن يفهمني البعض بأنني عشت تعيسا طوال حياتي الزوجية , ولكن لا أنكر أنها مرت ببعض الهزات والعواصف, تمكنا من الخروج من بعضها وكان الفشل حليفنا في في البعض الاخر..وكي أكون منصفا, فأنا السبب في هذه الهزات وليس غيري, فقد كنت متمردا على الواقع الذي أعيشه منذ طفولتي وبداية ادراكي ووعيي ولا أزال..فأنا أكره القيود والروتين القاتل, والعيش بدون مبادئ, وأكره كذلك أشباه الرجال وأنصاف المواقف وأستميت من أجل التغيير, فهذا التغيير يمنح الحياة جمالا تفتقده اذا حافظنا على نمط معين ولم نغيره..ومرة أخرى وكما قال مظفر النواب:"المشربُ ليس بعيدا..ما جدوى ذلكَ، فأنتَ كما الاسفنجةِ, تمتصُ الحاناتِ ولا تسكر..يحزنُكَ المتبقي من عمرِ الليلِ بكاساتِ الثَملينَ..لِماذا تَركوها ؟ هل كانوا عشاقاً ؟ هل كانو لوطيين بمحضِ إرادَتِهمْ كلقاءاتِ القمة؟..هل كانت بغي ليس لها أحد في هذي الدنيا الرثة؟..وَهَمستَ بدفء برئتيها الباردتين..أيقتلكِ البردُ؟..انا..يقتلني نِصفُ الدفئِ.. وَنِصفُ المَوقِفِ اكثر..سيدتي نحن بغايا مثلكِ.. يزني القهر بنا..والدينُ الكاذِبُ.. والفكرُ الكاذبُ..والخبزُ الكاذبُ". ولدت وأبصرت عيناي الاحتلال لأخرج من احتلال وأدخل في احتلال اخر, بالاضافة الى هذا القفص"السجن", ولم أتحمل ذلك, مرة أخرى لا ألوم الا نفسي , فشريكة حياتي والحق يقال, بذلت المستحيل من أجل انجاح حياتنا الزوجية وربت أطفالنا خير تربية, ولكن ما كان بوسعها أن تفعل اذا كان شريكها متمردا على كل شيئ؟,وسأبقى متمردا حتى يتم تحرير وطني كاملا وتحرير الانسان أيضا من عقليته المتخلفة الرجعية, وان لم يتم ذلك خلال حياتي فاني على ثقة بأن أولادي سيحتفلون بهذه اللحظة التاريخية, وفي الختام أتقدم بشكري العميق الى من تحملتني طيلة قرابة الثلاثة عقود متمنيا لها ولأولادي ولحفيدتي الصحة والعافية, والنجاح الباهر في كل أمور هذه الحياة. فلسطين ستتحرر ولكن قبل ذلك يجب تحرير عقولنا وتحرير بلادنا العربية والاسلامية من المحيط الى الخليج من الحكام الرجعيين المتخلفين والانبطاحيين, وما بعد الليل الا بزوغ الفجر, وأنهي بكلمات مظفر النواب:"نخبك .... نخبك سيدتي..لمْ يَتَلَوَّثْ مِنْكِ سِوى اللَّحْمِ الفَاني, فالبعضُ يَبيعُ اليَابِسَ والأخضر, ويدافِعُ عَنْ كُلِّ قَضايا الكَوْنِ, وَيَهْرَبُ مِنْ وَجهِ قَضِيَّتِهِ..سَأبولُ عَليهِ وأسكرْ.. ثُمَّ أبولُ عَليهِ وَأَسكر..ثُمَّ تَبولينَ عليهِ ونسكرْ........والنادِلُ أَطْفَأَ ضَوْءَ الحَانَةِ عِدَّةَ مَراتٍ لِتُغادِرَ ,كَمْ أَنْتَ تُحِبُ الخَمْرَةَ.... وَاللُّغَةَ العَرَبِيَّةَ...... وَالدُنيا..لِتُوَازِنَ بَينَ العِشْقِ وَبَينَ الرُمْانْ..هات الكأسُ وَأترُكُ حانَتِكَ المَسحورَةَ ..يا نادِلُ, لا تَغضَبْ... فالعاشِقُ نَشّوَانْ..إمْلأها حَتى تَتَفايَضَ فَوْقَ الخَشَبِ البُّنِّيِ, فَما أدراكَ لمِاذا هَذي اللوحةُ .. للخَمْرِ... وَتِلّكَ لِصُنْعِ النَعْشِ.. وأُخْرى للإعلانْ...!. ولكن ورغم كل ما أسلفت,"على هذه الأرض, سيدة الأرض, ما يستحق الحياة"..الشاعر العظيم الراحل ابن البروة الفلسطينية محمود درويش. 



تعليقات القراء

لا يوجد تعليقات


أكتب تعليقا

تنويه :
تتم مراجعة كافة التعليقات ،وتنشر في حال الموافقة عليها فقط.
ويحتفظ موقع وكالة جراسا الاخبارية بحق حذف أي تعليق في أي وقت ،ولأي سبب كان،ولن ينشر أي تعليق يتضمن اساءة أوخروجا عن الموضوع المطروح ،او ان يتضمن اسماء اية شخصيات او يتناول اثارة للنعرات الطائفية والمذهبية او العنصرية آملين التقيد بمستوى راقي بالتعليقات حيث انها تعبر عن مدى تقدم وثقافة زوار موقع وكالة جراسا الاخبارية علما ان التعليقات تعبر عن أصحابها فقط ولا تعبر عن رأي الموقع والقائمين عليه.

- يمكنك تسجيل اسمك المستعار الخاص بك لإستخدامه في تعليقاتك داخل الموقع
الاسم :
البريد الالكتروني :
اظهار البريد الالكتروني
التعليق :
رمز التحقق : تحديث الرمز
أكتب الرمز :

إقرأ أيضاً

رياضة وشباب

محليات