عندما يكون الإغتراب أحبُّ من البقاء في الوطن


تزوج معاوية بن ابي سفيان من ميسون البحدلية و كانت بديعة في جمالها فاسكنها قصرا في الغوطة الشامية منعمةَ مكرمة و لكنها اشتاقت إلى حياتها في البادية فقالت :
لبيت تخفق الأرياح فيه - أحب إليّ من قصر منيف
فما الذي جعل ميسون تعشق الرجوع الى حياة البادية وتُفضّلها على حياة القصور والخدم والحشم لا شك انه حب الوطن الذي رحلت منه لتتبع زوجها برغم النعيم الذي رأته مع معاوية في البعد عن اهلها وما الذي جعل معاوية عندما سمعها تقول
وخرق من بني عمي نحيف أحب إلي من علج علوف
ان يطلّقها ثلاثا ويرسلها لاهلها في نجد وهي حامل بيزيد حيث ولدته في البادية واعادته لابيه بعد سنتين .
فسبب ضجر ميسون هو شعورها بفقدان كرامتها بعيدا عن اهلها في البادية وان معاوية لم يترك لها مجالا للتعبير فاستغنت عن كل العز والرفاهية التي تملكها وحقيقة شوقها لوطنها دفعها للعودة ولكن بثمن كبير حيث خسرت زوجها ولاحقا ابنها .
وما الذي ازعج معاوية لهذه الدرجة وهو الذي كان يعبد ميسون بعد الله لجمالها ورقّتها هو بالتأكيد شعوره ان ميسون جرحت كرامته عندما إعتبرته علجا علوفا فلم يعد يُطيق وجودها معه في نفس المنزل فطلّقها .
في مقال سابق إعتبرت ذلك البيت من الشعر اصدق ما يكون تعبيرا عن حب الارض والوطن وهو كذلك ولكن الان آخذه كمثال للعلاقة التي تربط الكرامة بمكان الاقامة لما اراه من حب المغتربين البقاء في بلاد الاغتراب وعدم الرغبة في العودة لقضاء الاجازة بين الاهل وعلى تراب الوطن فما السبب يا تُرى ؟؟ وهنا نربط الكرامة بحب الوطن والاقامة به فإذا فُقدت كرامة المواطن اينما كان اصبح البقاء في المكان مستحيلا .
وحيث ان الكرامة هي تلبية الحاجيات الطبيعية والضرورية للإنسان، ومنها: الحاجيات العضوية كالتغذية والشرب والصحة...، والحاجيات الاجتماعية كالسكن والشغل والتعليم...، والحاجيات الفكرية كحرية التعبير والتفكير... والروحية كحرية التدين والاعتقاد فهي الحياة لاي شخص .
انا اجزم ان نسبة كبيرة من المغتربين يملكون او يُقيمون في بيوت في الوطن افضل تصميما ومساحة من البيوت التي يسكنوها في بلاد الإغتراب وانهم يملكون معارف واهل وجيران اكثر مما يعرفون في بلاد الغربة وان لهم إختلاطا بمعارفهم اكثر وأنّ اجواء اللعب لاطفالهم هي اوسع مجالا وامتع اوقاتا ولمن يجد عملا قد يكون الدخل مساويا لما يدخل عليه في الغربة أو على الاقل ذو مجال للادخار منه قليلا فما السبب في عزوف المغترب احيانا عن وطنه ؟؟؟
انّ سيادة المال والمصالح على كل القيم والعلاقات بين الناس جعل العلاقة بين الفرد واخيه او صديقه تُقيّم حسب تأثير تلك العلاقة بين الاثنين ماليا ومعنويا وتتغير العلاقة بناء عليه فلذلك اضحى الاغتراب في الوطن هو اقسى من الغربة خارج الوطن فيلجأ المواطن الى الاسهل حالما تُتاح له فرصة الغربة والعيش خارج قفص الوطن الذي تُحشر فيه احلام المواطن وآماله .
ولو حكمنا على الاوطان لا نجد منها اي تقصير فهي الكلمة التي تُعشق والراية التي تخفق كذلك الارض تُعطي ولا تشكو .
العنصر الآخرهو المواطن الانسان الاردني الذي يُحبّب اويكرّه اكان مسؤولا ام محكوما إمرأة ام رجلا وهو الذي يشجّع المغترب على العودة ام يُشجّعه على الابتعاد فالمسؤول الذي يُريد المغترب أخرسا أعمى يعرف التصفيق والابتسام الكاذب فقط هو المسؤول لا يريد للمغترب العودة فقط يريد ان يكلّف احدا من اقاربه ليسجّل في قوائم الانتخابات .
أمّا المواطن المقيم فيريد ان يعرف تفاصيل وضع المغترب في الغربة لكي يبتعد عنه ان كان يواجه صعوبات مالية في غربته او يريد معونة من بلده كما يراقب ما المناسبات التي يشارك فيها والاخرى التي يمتنع عنها وغير ذلك من تفاهات ليس لها قيمة .
وأما المرأة التي تهتم ماذا اشرت قريبتها واين تذهب في المناسبات التي تصادف وجودها وماذا تلبس من ملابس وذهب وخلافه اضافة الى النميمة عن فلانة وغير ذلك من حديث ليس ذو جدوى وطبعا ليس كل الشعب كذلك ولكن تلك الفئة مهما قلّ عددها فانها تشكل جرحا للمغترب
تذمّر المرأة ميسون هو الذي تسبّب في طلاقها من معاوية الذي لم تهن عليه كرامته للحظة ما
فالمغترب الذي يجد في وطن اغترابه حياة ميسرة بعيدة عن النفاق والتملّق والزيف والخداع لماذا يعود لوطن زوّرت انتخاباته وسُلبت مكارمه ومُسحت طبقته المتوسطة وأُطعم فقرائه لفاسديه وطُمست معالم مفاسده كبائرها وصغائرها وأمّا من لايجد له مكانا في زاوية غربة وإن كانت مُعتمة عليه العودة لوطن كان يتغنّى به فبل ان تطير به الغربان وعليه ان يلقى المصير الذي طالما توقّعه له الاهل مادام يكتب للتوعية بالفساد ومحاربة الفاسدين لان حبّه يكون قد اتى للطاحونة ؟؟؟
وانا لا اقول ذلك من خلال تجربة شخصية فقط وانما من خلال الكثير من القصص واحاديث مغتربين كثر فمنهم من لا يحب ان يعود كامل اجازته او كلّها للوطن ومنهم من يذهب له كمعبر لسياحة خارجية ومنهم من لا يطيق قضاء شهر رمضان او العيد في الوطن ليس بخلا لانه يصل الأرحام بطريقته مُسبقا ومنهم من يرسل عائلته في الاجازة ويبقى هو في عمله ......
فلله كيف كان الوطن يُفتدى بالإقامة بالقصور ورغد العيش وكيف كانت الكرامة تُفتدى بالزوجة الجميلة ام العيال اما الان فالوطن ومن بقي عليه في وضع مختلف وطن تغيب عنه العدالة ويملئه الفساد يعيش فاسدوه واغنياؤه في نعيم وبقية ناسه في نفاق وجحيم فمتى يشعر المغتربون ان هناك وطنا نظيفا تملؤه العدالة والانصاف والكرامة ويحارب الظلم والاجحاف تشعر بالمساواة للجميع والاّ كيف يهرب بعض الوافدين السوريون من جحيم بلادهم الى مخيمات اللجوء ومن ثم يهربون من تلك المخيمات للعودة لجحيم بلادهم لأنهم زعموا ان لا كرامة لهم في تلك المخيمات .
اذن هناك قيم رئيسة تلعب دورا في سعي المواطن للهجرة والاغتراب عن بلده وعدم الرغبة بالعودة اليها في ايام الاجازة ومن تلك القيم الكرامة والعدالة والمساواة وبعكسها عندما تسود المذلّة والظلم وعدم المساواة والفساد والشللية يعود ذلك على جميع المواطنين والبلد يالدمار سواء هاجروا او صمدوا في الوطن .
وكما قالت الشاعرة الليبية ردينةالفيلاني في اخر قصيدتها
فأجبت بأني أعبد ربي بكل الأديان السماوية
فأعاد لي أوراقي وحقيبتي وبطاقتي الشخصية

وقال عودي من حيث أتيت
فبلادي لا تستقبل الحرية
احمد محمود سعيد
30/8/2012



تعليقات القراء

ابو باسل
شكرا للكاتب الا ان هناك خلط بين الغربة والاغتراب فالاغتراب ان تشعر بالغربة وانت قي وطنك
30-08-2012 09:58 PM
مزراب
الغنى في الغربه وطن و الفقر في الوطن غربه
31-08-2012 10:21 AM

أكتب تعليقا

تنويه :
تتم مراجعة كافة التعليقات ،وتنشر في حال الموافقة عليها فقط.
ويحتفظ موقع وكالة جراسا الاخبارية بحق حذف أي تعليق في أي وقت ،ولأي سبب كان،ولن ينشر أي تعليق يتضمن اساءة أوخروجا عن الموضوع المطروح ،او ان يتضمن اسماء اية شخصيات او يتناول اثارة للنعرات الطائفية والمذهبية او العنصرية آملين التقيد بمستوى راقي بالتعليقات حيث انها تعبر عن مدى تقدم وثقافة زوار موقع وكالة جراسا الاخبارية علما ان التعليقات تعبر عن أصحابها فقط ولا تعبر عن رأي الموقع والقائمين عليه.

- يمكنك تسجيل اسمك المستعار الخاص بك لإستخدامه في تعليقاتك داخل الموقع
الاسم :
البريد الالكتروني :
اظهار البريد الالكتروني
التعليق :
رمز التحقق : تحديث الرمز
أكتب الرمز :

إقرأ أيضاً

رياضة وشباب

محليات