عمّان، لا كورنيش ولا دوار


الإنسان كائن إجتماعي يسعى للعيش في مجموعات لتبادل المنفعة، وقد لجأ الإنسان الأول إلى الكهوف بحثا عن الحماية الفردية، وعندما تعذر وجود كهوف بعدد كافي لجأ الإنسان الى تشكيل مجموعات إجتماعية تقاسم فيها الأفراد واجبات العمل والحماية. وقد وجدت هذه المجموعات البشرية بأنه يمكن حماية مناطق نفوذها بالأسيجة للتقليل من مدة وشدة الحراسة اللازمة لدرء الخطر المتأتي من الحيوانات أو حتى من الأفراد أو المجموعات البشرية الأخرى. وبالتالي كانت الأسيجة لحماية الداخل من الخطر المتأتي من الخارج.
ومع إزدياد السكّان والإستيطان بالقرب من مصادر الغذاء والماء ومع التطور البشري، إزداد عدد هذه التجمعات التي يمكن تخيلها بالدوائر التي تحتوي كل منها على مجموعة أو عائلة، وكثرت الدوائر لتبقى متباعدة في البداية تاركة فراغات فيما بينها تستعمل من قبل العموم وهي ما يعرف بالفراغات الحضرية المخصصة للعموم Public Space. وقد استخدمت هذه الفراغات كأسواق ومن ثم كممرات وبالتالي طرق بعد إختراع العجلة للعربات ومن ثم السيارات. وبذلك أخذت المناطق المسيّجة بالإنفتاح لتذوب مع الأماكن العامة لضمان سريان خطوط النقل فيما بينها.
وقد يبدو هذا السرد بديهيا للكثيرين ولكنه ضروري لتذكير بأهمية الأماكن العامة وخاصة في المدن فهي فراغات ثلاثية الأبعاد حاضرة لفرض حجم خالي من (أو قليل) البناء لأداء وظيفة تقتضيها التشكيلة الحضرية لمنطقة ما. وعند تطبيق هذا المفهوم على عمّان الحديثة التي تشكلت قسرا" لحل مشاكل سياسية منذ إستيطان الشركس فيها في أوائل القرن الماضي مرورا بموجات النزوح من فلسطين بعد حروب 1948 و 1967 وما تلاها من زيادة سكانية بعد حرب الخليج الثانية بما زاد من أعبائها ولا سيما لعدم تمتعها بميزة مكانية كالقرب من الأنهار أو السواحل لا بل على العكس، فقد شكلت الجبال التي نمت عليها عمّان عائقا إضافيا زاد من مشاكل الربط المروري بين أحيائها وأصبح مجرد التفكير في سكة الحديد أو الباص السريع ضربا" من الخيال.
ومع تبنى الدولة لسياسات معادية للملكية العامة والسعي لتفتيتها، انعكست هذه السياسة على محدودية، لا بل أدت لإستحالة توفير أماكن عامة كتلك التي نجدها في المدن العالمية، فغالبية أراضي عمّان قطع صغيرة مساحتها بحدود واحد دونم وأصغر. واذا ما جمعنا المشكلة الاساسية التي تعاني منها عمّان وهي إنعدام وجود المسطحات المائية الى الطبيعة الجبلية ومن ثم صغر مساحة الأراضي المفروزة فإننا نجد أنفسنا أمام كارثة تخطيطية من الصعب التعايش معها لأمد طويل.
لقد أعطت الدواير لعمّان في السبعينات بعضا من الفسحة لإبعاد الكتل المبنية بعضها عن بعض وكان أولها على ما أذكر دوار مكسيم في جبل الحسين والذي شكل مقصدا للمتنزهين من كل حدب وصوب بإتجاه الدوار للتلاقي وقضاء بعض الوقت في المفتوح من الفراغ الحضري، إلا أن سوء التنظيم أضطر المهندسين للتخلي عن الدوار لصالح الإشارات الضوئية مما أفقد هذه المنطقة مركزها وحولها من فضاء مفتوح للعموم الى مسارات مخصصة للسيارات. أما الدواوير الأول حتى الثامن فقد أضحت شريان نقل مروري مقسم لعقد Node توزع الحركة باتجاهات مختلفة لدرجة فقدت معها الدواوير صفة المكان العام المخصص للمشاة مما يبشر بإزالتها وتطبيق المبدأ المعتمد على إمتداد شارع الملك حسين (السلط) من وسط البلد مرورا بوادي صقرة فالحدائق فشارع مكة، وهو مبدأ الشريان المروي مع العقد (عند الإشارات) بدلا من الدواوير متعددة الإستخدامات. وسيزيد الوضع المروري المتأزم أصلا في عمّان في حال إعتماد مخطط للتكثيف العمراني على عشرة محاور رئيسية بدون مراعاة ضيق عرض الشوارع المتوفرة ومدى استيعابها لخدمة المساحات العامودية الإضافية.
نعم، عمّان كانت، وظلت، وستكون معضلة تخطيطية لن يفيدها التضييق على إمكانية وصول الناس إلى الأماكن العامة على قلتها لإستعمالها لأي غرض كان، وما تسييج هذه الأماكن كما حدث مع الدوار الرابع إلا لدليل إضافي على التخبط التخطيطي في البلد الذي سيزيد من الإحتقان المجتمعي، فلا كورنيش للتنزه في عمّان ولا دوار للهتاف عليه.



تعليقات القراء

لا يوجد تعليقات


أكتب تعليقا

تنويه :
تتم مراجعة كافة التعليقات ،وتنشر في حال الموافقة عليها فقط.
ويحتفظ موقع وكالة جراسا الاخبارية بحق حذف أي تعليق في أي وقت ،ولأي سبب كان،ولن ينشر أي تعليق يتضمن اساءة أوخروجا عن الموضوع المطروح ،او ان يتضمن اسماء اية شخصيات او يتناول اثارة للنعرات الطائفية والمذهبية او العنصرية آملين التقيد بمستوى راقي بالتعليقات حيث انها تعبر عن مدى تقدم وثقافة زوار موقع وكالة جراسا الاخبارية علما ان التعليقات تعبر عن أصحابها فقط ولا تعبر عن رأي الموقع والقائمين عليه.

- يمكنك تسجيل اسمك المستعار الخاص بك لإستخدامه في تعليقاتك داخل الموقع
الاسم :
البريد الالكتروني :
اظهار البريد الالكتروني
التعليق :
رمز التحقق : تحديث الرمز
أكتب الرمز :

إقرأ أيضاً

رياضة وشباب

محليات