مؤشرات زوال الدولة!!


جراسا -

تظل الدولة , دولة شرعية , مادامت هي الاطار الجامع لكل مكوناتها البشرية أفراداً وجماعات . والاطار الحامي لمصالحهم بقوة القانون , وبروح العدل . بهذا فقط وليس غيره يحل الانتماء اليها والولاء , محل الولاءات البدائية والقديمة للأطر الاجتماعية الضيقة والعديدة ,التي كانت تتوزع عليها وفيما بينها ولاءات الأفراد والجماعات في مراحل ما قبل نشوء الدولة وتكونها. ولا تستطيع الدولة أن تقوم بهذه الوظيفة الجامعية , إذا ما وجد الأفراد أنفسهم مضطرين إلى النكوص والعودة إلى ولاءاتهم القديمة كضمان موثوق به أكثر , لحماية مصالحهم وتحقيق حاجاتهم المختلفة الحيوية منها والثانوية . وعليه تصبح السياسات الهادفة إلى اثارة عوامل الفرقة وتناقض المصالح بين الأفراد ضمن الدولة الواحدة , سياسات غير بناءة في جوهرها , بل تعمل على هدم مقومات الدولة بعد أن تعصف بشرعية وجودها , والدولة ليست الوطن , ولا أرض الوطن , حتى تظل ثابتة ولا تزول.

فزوالها حتمي إذا ما فقدت قدرتها على الصهر والاندماج الاجتماعي بين الأفراد والجماعات , على إعتبار ان هؤلاء هم مكوناتها البشرية إذا ما تم اندماجهم الإجتماعي بنجاح , وصار لهم كينونة اجتماعية كلية جامعة تؤهلهم لأن يقولوا عن أنفسهم (نحن).

فوجود الدولة بداية وجود سياسي قانوني بوظائف وشروط محددة , وليس مجرد وجود بشري بمنطقة جغرافية كما قد يظن البعض .

وزوال الدولة له مقدمات , أبرزها , ايقاظ عوامل الفرقة والتمييز بين مواطنيها , ثم تطبيق سياسات تشعر الضعيف بأنه ضعيف , والقوي بأنه قوي.

فذاك جوهر قاتل لجوهر الدولة بقدر ما هو قاتل لوظائفها , وأركانها الأساسية وأبرزها (القانون) فما قيمة القانون إذن , إذا ما لم يشعر مواطنوا الدولة بأنهم سواسية أمامه ؟ فالأصل في القانون أن لا يتيح المجال لأن يُستغل الضعيف لضعفه , ولا يغتر القوي بقوته , فالقوي ضعيف أمامه حتى يُؤخذ منه الحق, والضعيف قوي أمامه حتى يُؤخذ له الحق ... هكذا يتساوى الأفراد , وهكذا تسود القوانين فتحترم , فيصير الانتماء الى الدولة قوة , ومن هذا الانتماء تستمد الدولة شرعيتها و مبرر وجودها , ويصير الانتماء إليها أولى ولا يساويه انتماء آخر .



ومن مقدمات الزوال :

أن تستأثر فئة من الناس بالدولة دون باقي الفئات , فذلك إن حصل معناه أن باقي الفئات ستصبح محل استغلال حيث يُنظر اليهم على أنهم (اشياء) من حق من استأثر بالدولة – سلطة وامتيازات – أن يتعامل معهم وكأنهم أدوات أو وسائل يمكن تسخيرها لخدمة مصالحه فقط . أما مصالح تلك الفئات المُستغلة (بفتح الغين) فلا تعود بذات قيمة بنظر القلة القوية , ولا تحقيق لها إلا من خلال خدمة تلك الفئات لمصالح تلك القلّة ومن خلال هذه الحالة تتولد مشكلات عديدة أبرزها الرشوة , والاختلاس غير المباشر , والسرقة, والاستبداد , والتسلط , والتذلل , والتملق , والتزلف , والنفاق.


إن الدولة العربية , منذ عهد ما سمى بالاستقلال . دخلت متاهة قاسية , يمكن أن نسميها متاهة التناقض , ففي الوقت الذي عمل فيه النظام الرسمي العربي على تأسيس الدولة بمنطوق المزاعم والادعاءات , عمل في الوقت نفسه على تقويض أركان هذه الدولة من الأساس ..فقلة فقط من انتبهت إلى ضرورة تحقيق الاندماج الاجتماعي , بدليل أن غالبية الدول أبقت على مظاهر انتماءات ما قبل الدولة قائمة , وابسطها القبول بالأسماء المزورة للأفراد .

فالفرد يقدم نفسه ليس على أنه فلان بن فلان , بل فلان المنتمي إلى المجموعة الفلانية وهو انتماء وهمي وقد لا يكون حقيقي فتكون الاسماء مزورة . قد يبدوا الأمر بسيطاً للوهلة الأولى , لكنه إسفين في جسم الدولة وفي شرعية وجودها , وعائق كبير أمام الإندماج الاجتماعي وارتباط الفرد بالدولة وولائه لها , بل أن الكثير من فلاسفة السياسة يرون في ذلك دليل واضح على زوال الدولة كدولة لأنها ما اغنت عن الفرد أن يظل مرتبطاً بولاءاته السابقة على وجودها , وما دام الأمر كذلك , فالدولة في مثل هذه الحالة تكون موجودة وغير موجوده في الوقت نفسه .


وجودها محسوس بنظر البعض وبخاصه الأقوياء , وغير محسوس ولا تجسد حقيقي لها بنظر الغالبية المنحازة لولاءاتها التقليدية والبدائية .

ومن مقدمات زوال الدولة أيضاً , أن تشكل الدولة خطورة على مصالح الافراد , بمعنى أنها بدلاً من أن تكون عنصر إسعاد ورفاهية وحماية لهم , تتحول الى عنصر شقاء وإتعاس , وخوف . وهذا يتمظهر بعدة أشكال منها :

أن تنافس الدولة مواطينها في أرزاقهم ومصادر أرزاقهم , فيجتمع للبعض فيها الإمارة مع التجارة .

ثم يتطور الحال الى العمل على افقارهم بدل من اثرائهم .

وهذا يكون بزيادة الضرائب والتحصيل المالي منهم لمواجهة المتطلبات العامة المتزايدة وكلما زادت الضرائب زادت الفجوة والهوة بين الدولة ومواطنيها , ويحل العداء المفترض محل التعاون المفقود , فإذا ما خافت القلّة القوية , وفقدت الإحساس بالاطمئنان والثقة بالمواطنين وهم الأكثرية تضطر الى طلب عون الغرباء , وهؤلاء لا يعينون بدون ثمن , فتضاعف الدولة الضرائب على المواطنين لكي تتمكن من دفع الثمن , وبخاصة إذا كان الغرباء جيوش من المرتزقة الأجانب فيتزايد بالمقابل عداء المواطنين , وبذلك تكون الدولة قد أدخلت نفسها بالدائرة الشيطانية التي لابد أن تنتهي بإزالة معالم الدولة القائمة , من الوجود بوسيلة أو بأخرى , وغالباَ ما تكون دموية حسب ما يعلمنا تاريخ الدول في تجارب الإنسانية.

ا. د. ادريس عزام



تعليقات القراء

اربدي
وين السحيجة وجماعة الامن والامان اندااااااااري
14-06-2012 03:37 PM
الحويطي
مقال غايه في الروعه وتحليل لواقعنا المرير
14-06-2012 03:51 PM
الرسالة .
والله انّي أرى زوالها في وجوه المتعبين!!!!!!
14-06-2012 04:20 PM
لصوصية
وهذا ما يحدث بزبط في الاردن واكاد اجزم انه ممنهج لافقار البلد لتنفيذ مخططات لا يعلمها الا الله ويا حسرتي على

سنوات الوهم التي عشناها بعد ان سرقو منا الارض ورمونا في احضان العوز والقلة

يا حسرتي على وطن ضائع تسلمه اشباه رجال لصوص حرامية
14-06-2012 04:26 PM
رابعة الشناق
مقدمة ابن خلدون :الفصل الثالث والأربعون في أن الظلم مؤذن بخراب العمران

[]اعلم أن العمران على الناس في أموالهم ذاهب بآمالهم في تحصيلها واكتسابها لما يرونه حينئذ من أن غايتها ومصيرها انتهابها من أيديهم وإذا ذهبت آمالهم في اكتسابها وتحصيلها انقبضت أيديهم عن السعي في ذلك‏.‏ وعلى قدر الاعتداء ونسبته يكون انقباض الرعايا عن السعي في الاكتساب فإذا كان الاعتداء كثيراً عاماً في جميع أبواب المعاش كان القعود عن الكسب كذلك لذهابه بالأمال جملة بدخوله من جميع أبوابها‏.‏ وإن كان الاعتداء يسيراً كان الانقباض عن الكسب على نسبته‏.‏ والعمران ووفوره ونفاق أسواقه إنما هو بالأعمال وسعي الناس في المصالح والمكاسب ذاهبين وجائين‏.‏ فإذا قعد الناس عن المعاش وانقبضت أيديهم عن المكاسب كسدت أسواق العمران وانتقضت الأحوال وابذعر الناس في الأفاق من غير تلك الإيالة في طلب الرزق فيما خرج عن نطاقها فخف ساكن القطر وخلت دياره وخربت أمصارة واختل باختلاله حال الدولة والسلطان لما أنها صورة للعمران تفسد بفساد مادتها ضرورة‏.‏

و يقول ابن خلدون في نهاية الفصل

‏ هذا ما كان بأمثال هذه الذرائع والأسباب إلى أخذ الأموال وأما أخذها مجاناً والعدوان على الناس في أموالهم وحرمهم ودمائهم وأسرارهم وأعراضهم فهو يفضي إلى الخلل والفساد دفعة وتنتقض الدولة سريعاً بما ينشأ عنه من الهرج المفضي إلى الانتقاض‏.‏ ومن أجل هذه المفاسد حظر الشرع ذلك كله وشرع المكايسة في البيع والشراء وحظر أكل واعلم أن الداعي لذلك كله إنما هو حاجة الدولة والسلطان إلى الإكثار من المال بما يعرض لهم من الترف في الأحوال فتكثر نفقاتهم ويعظم الخرج ولا يفي به الدخل على القوانين المعتادة فيستحدثون ألقاباً ووجوهاً يوسعون بها الجباية ليفي لهم الدخل بالخرج‏.‏ ثم لا يزال الترف يزيد والخرج بسببه يكثر والحاجة إلى أموال الناس تشتد ونطاق الدولة بذلك يزيد إلى أن تنمحي دائرتها ويذهب رسمها ويغلبها طالبها‏.‏ والله أعلم‏.‏
انتهى كلام ابن خلدونفحال الدولة المصرية الآن مشابه للمرحلة الأخيرة من سيطرة الظلم و الفساد على الدولة و التي تؤدي إلى إضعافها تدريجيا حتى تسقط نهائيا.

فالدولة المصرية الآن في شيخوختها بسبب ضعف ذاتها و ضعف حلفائها من العرب و العجم بسبب الثورات و الحروب و و بسبب استفحال الظلم و الجور و الذي يهدد بزوال الدولة هذا ما يتطلب ظهور قوة أخرى قادرة على الانقضاض على هذه الدولة و السيطرة على مقاليد الأمور و نشر العدل و إقامة الدين بين الناس .

لِـكُلِّ شَـيءٍ إِذا مـا تَمّ نُقصانُ :: فَـلا يُـغَر بِـطيبِ العَيشِ إِنسانُ
هِـيَ الأُمُـورُ كَما شاهَدتُها دُوَلٌ :: مَـن سَـرّهُ زَمَـن سـاءَتهُ أَزمانُ
وَهَـذِهِ الـدارُ لا تُبقي عَلى أَحَدٍ ::وَلا يَـدُومُ عَـلى حـالٍ لَها شانُ
يُـمَزِّقُ الـدَهرُ حَـتماً كُلَّ سابِغَةٍ :: إِذا نَـبَت مَـشرَفِيّات وَخـرصانُ
وَيَـنتَضي كُـلَّ سَيفٍ للفَناء وَلَو:: كـانَ ابنَ ذي يَزَن وَالغِمد غمدانُ
أَيـنَ المُلوكُ ذَوي التيجانِ مِن يَمَنٍ:: وَأَيـنَ مِـنهُم أَكـالِيلٌ وَتـيجَانُ
وَأَيـنَ مـا شـادَهُ شَـدّادُ في إِرَمٍ :: وَأيـنَ ما ساسَه في الفُرسِ ساسانُ
وَأَيـنَ مـا حازَهُ قارونُ من ذَهَبٍ:: وَأَيـنَ عـادٌ وَشـدّادٌ وَقَـحطانُ
أَتـى عَـلى الـكُلِّ أَمرٌ لا مَرَدّ لَهُ:: حَـتّى قَضوا فَكَأنّ القَوم ما كانُوا
وَصـارَ ما كانَ مِن مُلكٍ وَمِن مَلكٍ :: كَما حَكى عَن خَيالِ الطَيفِ وَسنانُ
دارَ الـزَمانُ عَـلى دارا وَقـاتِلِهِ:: وَأَمَّ كِـسرى فَـما آواهُ إِيـوانُ
كَـأَنَّما الصَعبُ لَم يَسهُل لَهُ سببٌ:: يَـوماً وَلا مَـلَكَ الـدُنيا سُلَيمانُ
14-06-2012 05:00 PM
سعود حسان الشيفي
مقال في قمة الروعة . ولكني تمنيت أن يكون مفصلا اكثر .

اشكر الكاتب . أشكر جراسا
14-06-2012 06:01 PM
الباشق
مقال مميز جدا ويستحق كل الاحترام
14-06-2012 09:05 PM
قارء متمعن
فيجتمع للبعض فيها الإمارة مع التجارة .

ثم يتطور الحال الى العمل على افقارهم بدل من اثرائهم .
14-06-2012 09:06 PM
د.المراشدة
تحية الى الاستاذ الدكتور ادريس العزام استاذي
لقد كتبت فابدعت دكتورنا
15-06-2012 10:52 AM
د.المراشدة
ياريت دائما تكتب دكتور لان الواقع يجعلنا بحاجة الى من يكتب الواقع لعل وعسى ان تصل الرسائل الى اصحاب القرار
تحياتي استاذي ومعلمنا ا.د ادريس
15-06-2012 10:54 AM
مواطن عايف حاله من الطفر
هذا الوضع موجود بالاردن بالتمام والكمال رجال استئثرو بالسلطة وكرسوها لمصالحهم الشخصية ولا استطيع القول الا ان الاردن امامه في اعناقنا ويجب انه ندافع عنه بجميع الوسائل المتاحه وخصوصا من الحرامية والفاسدين والسحيجة فهؤلاء هم عبارة عن حشرة السوس التي تنخر وطننا ويجب علينا انه ندافع عن بأرواحنا ونرش عليهم مبيد الحشرات
15-06-2012 02:27 PM
laila
this report should be taught in the schools instead of the .... the government force our children to learn and memorize
15-06-2012 10:01 PM

أكتب تعليقا

تنويه :
تتم مراجعة كافة التعليقات ،وتنشر في حال الموافقة عليها فقط.
ويحتفظ موقع وكالة جراسا الاخبارية بحق حذف أي تعليق في أي وقت ،ولأي سبب كان،ولن ينشر أي تعليق يتضمن اساءة أوخروجا عن الموضوع المطروح ،او ان يتضمن اسماء اية شخصيات او يتناول اثارة للنعرات الطائفية والمذهبية او العنصرية آملين التقيد بمستوى راقي بالتعليقات حيث انها تعبر عن مدى تقدم وثقافة زوار موقع وكالة جراسا الاخبارية علما ان التعليقات تعبر عن أصحابها فقط ولا تعبر عن رأي الموقع والقائمين عليه.

- يمكنك تسجيل اسمك المستعار الخاص بك لإستخدامه في تعليقاتك داخل الموقع
الاسم :
البريد الالكتروني :
اظهار البريد الالكتروني
التعليق :
رمز التحقق : تحديث الرمز
أكتب الرمز :

إقرأ أيضاً

رياضة وشباب

محليات