أيها الوطن


أيها الوطن كيف تسكن في أعماقي ولا تحس بي ..من الملفت للنظر أن الناس جميعا أصبحوا يتهاتفون للعزف على نغمة واحدة .. ألا وهي سيمفونية الوطن .. ولم أكن عنهم ببعيد ، فقد كنت مثلهم أستلهم أشعاري ومقالاتي وأسخر قيثارتي لأغني للوطن كما يغنون ، لاعتقادي بأن النوطن يسمعني ، وكنت أنتظر بعد كل معزوفة وطنية أن يهرول إلي الوطن فاتحا ذراعيه .. ليضمني ويطبع قبلة كاللهب على جبيني .. وعندما بحَّ صوتي .. ولم أجد أي رد فعل من الوطن أو أنه يتعامى عن سيمفونيتي ولم يفعل لي شيئا .. حينها فقط قررت أن أتوقف عن العزف والغناء للوطن .. ورحت أغرد وحدي خارج السرب على لحن معزوفة أخرى ليس لها أدنى علاقة بالوطن لا من قريب ولا من بعيد ..
فلما لا أفعل ذلك ؟ .. مع أنني سأجابه احتجاج كثير من الناس المخلصين للوطن الذين ما زالوا يتوسدون قيثاراتهم تحسبا واستعدادا لعزف لحن جديد ، يكون أشد سخونة وبايقاع طربي متميز أكثر جعجة وفوضى ، كالذي نسمعه عادة في طوابير مدارسنا الصباحية ، وفي الاحتفالات الوطنية الملتهبة والتي أصبحت من الكثرة بحيث لم يعد بوسعنا التمييز بين مناسبة ومناسبة ..
بل سأفعل .. أي سأتوقف عن عزف أي لحن له علاقة بالوطن .. مع أنني أشعر بفراغ كبير ..وربما وحدة دقت خوازيقها في حياتي منذ زمن بعيد ..
نعم .. أنا على حق ... ولن ألتفت أبدا لقول من يقول غير هذا .. لأنني أصلا أؤمن بحرية الإنسان ، ولكل إنسان الحق في أن يقول ما رييد ، إلا التعدي على كرامات الناس ، أو أن يسلبهم إراداتهم أو يقيد حرياتهم أو أيديهم أو يخرس ألسنتهم سواء بالقول أون بالفعل ...
في العام الماضي وأثناء آخر زيارة لجلالة الملك عبدالله الثاني بن الحسين إلى محافظة عجلون ، ارتديت حلة جديدة وتأنقت وتطيبت بأحسن العطور ، وقلت في نفسي لعلي أكون من المحظوظين ، وأصافح جلالة الملك صدفة عند مروره بإحدى الشوارع ، لأنني على يقين بأنني لن أتمكن من مقابلته في السرادق المعدة لجلوسه ، أو مصافحته بسبب عدم جدولة اسمي على قائمة الشخصيات المهمة التي يحق لها استقبال جلالة الملك أو السلام عليه .. بل فلئن وقفت على جانبي الشارع ، فسوف تلكمني مئات الأيدي أو الهراوات تصوب إلى صدري لتدفعني بعيدا عن أطراف الشارع ..
وحقيقة لا أدر كيف يتم انتقاء الناس الذين يحق لهم مصافحة أي شخصية من العائلة المالكة وهم رمزنا ونحن أهلهم وعزوتهم .. ونحن من أكثر الناس اخلاصا ووفاء لهم ، ونحن شعب أردني ليس من عادته الخيانة أو الغدر ، والتاريخ شاهد على ذلك منذ الأزل .. ولكن الأغرب أنني لاحظت أشخاصا قد أعتبرهم من سقط المتاع ، بالفعل شاركوا باستقبال جلالة الملك وصافحوه ..
سألتني زوجتي لدى عودتي للبيت بعد انقضاء الزيارة الملكية إلى محافة عجلون ، إن كنت قد حظيت بالسلام على جلالة الملك بعد كل هذا التأنق والاستعداد .. فتهربت من الجواب .. وقلت لها ربما في المستقبل .. لأن المحافظ هو الشخص الوحيد الذي يقرر من يقابل جلالة الملك ، والمحافظ هو الحاكم الإداري الذي لا يعرف جميع الأطياف في المحافظة إلا من خلال تقارير وترتيبات تصله من أشخاص بعينهم .. أو نتيجة زيارات رتيبة تتم من قبلهم لمكتب المحافظ ، وأما أنا فلست مثابرا على زيارة المحافظ ، لأنني ليس لدي ما أقوله للمحافظ ، ولا أحب أن أحشر نفسي بزيارة ربما تثقل على كاهل المحافظ نفلسه ، أو ربما يضيق بها ذرعا مدير مكتبه الذي يرينا من الكبرياء والأنفة والعظمة مالم نلمسه من أي مسئول آخر في الدنيا ، وليعذرني مدير مكتب المحافظ ،، فأنا أقصد إنسانا ربما لم يعد له وجود بمكتب المحافظ ..
أحس بأنني كأردني ليس من حق أحد أن يحول بيني وبين مصافحة جلالة الملك أو أن أقابله حتى وإن كنت غير مدعوم ، لكن الحقيقة هي أنه يحال بيني وبين مصافحة جلالة الملك ، إلا بترتيبات خاصة ومسبقة من أناس على مستوى عال يمكنهم القيام بترتيب هذه المكرمة ليتأتى لي رؤية جلالته وجها لوجه والحديث معه ومصافحته ..
والأغرب من ذلك أنني ذهبت أنا وصديق لي لاستقبال جلالة الملكة رانيا في أحدى زياراتها إلى قرية راسوت قبل حوالي سنتين ، ولدى وصولنا إلى المكان ، قابلنا شخص هناك وأصدر لنا أوامره وأومأ لنا باصبعه أن نغادر إلى مكان بعيد ، كان مكانا ليس به ظل وتحت لهيب الشمس الحارقة ، وعلينا أن ننتظر هناك .. فقلنا له إننا قادمان لاستقبال جلالة الملكة كوننا من جهة سياحية في محافظة عجلون ، ونحن نريدها أن ترى كيف أن العجلونيين يحبونها ويحبون لقاءها ، وكان هذا الشعور فعليا شعور نحس به كأناس مخلصين لاتتسع قلوبهم لفرحة أكبر من تلك الفرحة ، في حال مقابلة جلالة الملكة رانيا ، أو جلالة الملك المعظم ..
حاولنا أن نوضح لهم بأن تاريخنا مشرف ، وأن صحائفنا بيضاء ناصعة ، لكن لأنهم لا يملكون لنا ملفات شخصية يدققون فيها أصروا على إبعادنا ..
فكان اليأس والقنوط حليفنا ولم نستطع اقناع ذلك الشخص وشخص آخر استنجدنا به ليساعدنا فانقلب ضدنا ، ولم نستطع اقناعهما بأننا أناس مخلصون وإن أكبر همنا أن نكون باستقبال جلالة الملكة .. فغادرنا المكان كلية وفي نفوسنا شوقا لرؤياها .. ما زال عالقا بأذهاننا إلى الآن ..
لكني مع ذلك ما زلت أعيش على ذكرى قديمة ، كوني تشرفت بمصافحة جلالة والده الملك الحسين بن طلال المعظم ثلاث مرات ، ومرة كنت قد ألقيت كلمة هادفة بين يدي جلالته ، وبالفعل لقت الكلمة أذنا صاغية من لدن جلالته ، وكان رده عليها إيجابيا وفعليا إلى حد لم يتوقعه أحد .. ولو تكلمت عن فعله ذلك بإيضاح لأيقن كل الأردنيون أن ذلك واقع لا شك فيه ..
وشرف آخرحظيت به ، هو أنني صافحت سمو الأمير الحسن بن طلال عندما كان وليا للعهد وقضينا معه أكثر من عدة ساعات ، وتعرف علي وسألني عن أحوالي ، ولقيت منه احتراما شديدا ، إلى أبعد الحدود ..
إذن فلتعذرني أيها الوطن .. فلطالما لم أر جلالة الملك إلا عبر شاشات التلفاز ، وقد أمضيت سني عمري في خدمة الوطن .. وتوجتها بغربة زادت عن العشرين عاما خارج حدود هذا الوطن ، الذي لم يسأل عني طيلة غربتي أبدا .. بل لم يستطع هذا الوطن الدفاع عني عندما تعرضت لضغوطات شديدة ابان حرب الخليج الأولى ، حينما كنت أسمع شتائم جلالة الملك حسين يرحمه الله ، وكنت أتصدى لأولئك الأنذال .. مما اضطرني إلى مراجعة سفارتنا هناك ، فطلبت مقابلة السفير لأشرح له الظروف ، ولكي أضعه بالصورة الحقيقية للوضع الذي أنا فيه بحيث أضع العلم لديهم ليساعدوني في حال اعتقالي .. أو إذا ما تم أسري لأي سبب أو تهمة قد يلفقونها ضدي ، إلا أنني لم أستطع مقابلة السفير لعدم وجوده ، لكني تمكنت من مقابلة الملحق العسكري وعلى ما أذكر كان اسمه (جمال بلقر) كان نادرا واسع الأفق دمث الأخلاق رائعا ، وبعد أن شرحت له الموقف ، نصحني بأن أكون حذرا ، وقال لي بصراحة إن قوات الأمن في تلك الدولة قد حاصروا السفير الأردني وهو سعادة الأستاذ ناصر البطاينة ، في منزله لأكثر من ثلاثة أيام ولم يسمحوا له بالذهاب إلى السفارة من أجل مزاولة عمله الرسمي ..
كما قال لي الملحق نفسه قصة أخرى مفادها ، إن ابن عمه أو قريب له اعتقل من قبل قوات الأمن في تلك الدولة ، قال : حينما ذهبت إلى مكان اعتقاله .. قابله هناك ضابط برتبة ملازم .. قال فعرفته على نفسي ، وقلت له أنا الملحق العسكري الأردني في السفارة الأردنية .. فلم يلتفت إلييَّ الملازم إلا بكل احتقار .. قائلا وإن كنت السفير نفسه ، فماذا تريد ، وبقي جالسا على كرسيه دون أن يبدي أي احترام كان .. فشرحت له القضية باقتضاب .. لكنه وكأنه لم يسمع شيئا .. فعدت إدراجي إلى عملي ، وأنا أجر أذيال الخيبة ،
وإذا أتيحت الفرصة للأستاذ جمال بلقر قراءة مقالي هذا فمن المؤكد أنه سيبحث عني فقط ليسلم علي ، ويستذكر معي تلك الأيام العصيبة التي عشناها مع الأشقاء العرب هناك ..
إذن أنا قدمت روحي ونذرت نفسي من أجل الوطن .. فماذا قدم لي الوطن .. ؟؟ ولما أستمر بالعزف على قيثارة مشروخة بنغمها النشاز ...؟



تعليقات القراء

لا يوجد تعليقات


أكتب تعليقا

تنويه :
تتم مراجعة كافة التعليقات ،وتنشر في حال الموافقة عليها فقط.
ويحتفظ موقع وكالة جراسا الاخبارية بحق حذف أي تعليق في أي وقت ،ولأي سبب كان،ولن ينشر أي تعليق يتضمن اساءة أوخروجا عن الموضوع المطروح ،او ان يتضمن اسماء اية شخصيات او يتناول اثارة للنعرات الطائفية والمذهبية او العنصرية آملين التقيد بمستوى راقي بالتعليقات حيث انها تعبر عن مدى تقدم وثقافة زوار موقع وكالة جراسا الاخبارية علما ان التعليقات تعبر عن أصحابها فقط ولا تعبر عن رأي الموقع والقائمين عليه.

- يمكنك تسجيل اسمك المستعار الخاص بك لإستخدامه في تعليقاتك داخل الموقع
الاسم :
البريد الالكتروني :
اظهار البريد الالكتروني
التعليق :
رمز التحقق : تحديث الرمز
أكتب الرمز :

إقرأ أيضاً

رياضة وشباب

محليات