الخوف من المجهول: الإسلاميون والحكم والمستقبل


المجهول لا يتمثل في ارتقاء الحركات الإسلامية سدة الحكم بل فيما سيترتب على ذلك الارتقاء. إن استحضار أرواح الماضي لقراءة معالم المستقبل أمر قد نشاهده في الحقبة المقبلة وقد يتلازم مع تبلور حزمة من التطورات السلبية. ومع أن واقع الحال لا يوحي بوجود مخاطر حثيثة، إلا أن النوايا السلبية والأنانية العقائدية والحزبية قد تجعل من المخاطر أمراً حتمياً. ما نحن فيه وما نحن بصدده هو في معظمه من صنع أيادينا، ونحن بالتالي نحمل خطيئة أعمالنا وقراراتنا أولاً وأخيراً.

لغة الحوار مفقودة بين العرب وكذلك بين معظم المسلمين. فاللغة الدارجة هي إما لغة القهر، أو لغة الطاعة والإذلال أو لغة الخوف والتخويف أو لغة الشك والتشكيك أو لغة الاتهام، وأي من هذه اللغات لا تصلح لبدء حوار منتج أو لتفعيل مجتمع أو لبناء مستقبل.

كل ما نفعله الآن هو استحضار التاريخ لتصفية الحسابات وليس لتعلم الدروس. فالقوميون حاقدون على الإسلاميين ودورهم التاريخي في معاداة الحركات القومية وقتالها والتآمر عليها، وكذا اليساريون. والإسلاميون حاقدون على كلا الطرفين باعتبارهما جزءاً من القوى التي حاربتهم وساعدت على اضطهادهم منذ منتصف القرن الماضي. إن استحضار شياطين الماضي لن يساعد في بناء المستقبل. فالإسلاميون يعتقدون أن دورهم قد حان الآن لتولي السلطة كونهم القوة الصاعدة سياسياً ، وأن هذا حقهم الذي صبروا وقاسوا من أجله عقوداً طويلة خصوصاً وأن باقي الأطراف يشهدون حقبة أفول سياسي، أو هكذا يعتقد الإسلاميون. ولذا فإن الإسلاميين يعتبرون أن مطالب الابتعاد عن الاصطفاف والاحتقان المستند إلى تجارب تاريخية هو أمر مجحف كونه يفترض طلب التضحية من جهة واحدة وهم الإسلاميون وليس من جميع الأطراف بشكل متساوي .

دعونا ننظر إلى الأمور بروية واعتدال محاولين استشراف نقاط الاتفاق ، والابتعاد ما أمكن عن القضايا الخلافية، في محاولة جدية ومخلصة لوضع أرجلنا على بداية طريق الوفاق والتفاهم. من المفترض الآن أن يكون لكل الأطراف المطالبين بالإصلاح والتغيير عدو واحد مشترك . فالأنظمة القابضة على مقاليد السلطة والقابعة على كراسي الحكم تحاول ما أمكن تلافي السقوط، وإذا ما نجحت في ذلك فمن المؤكد عندها أن تعمل على تلافي الانزلاق في هاوية التنازلات. وهي بذلك تعتبر كل قوى الإصلاح والتغيير معادية لها ولمصالحها، وهذا يضع الحركات الإسلامية والقومية واليسارية والقوى الوطنية في خندق واحد في مطالبها الإصلاحية العريضة وكذلك في مجابهة عدو تلك المطالب متمثلاً بالأنظمة القابضة على مقاليد السلطة.

تمتاز حركة الإصلاح والتغيير العربية بتعدديتها وابتعادها عن التحزب السياسي. وهذا ما ساهم إلى درجة كبيرة في حشد أعداد كبيرة من المؤيدين لها من مختلف الأصول والمشارب السياسية والاقتصادية، ومَكَنَّها بالتالي من اختراق حاجز الأجيال والحواجز السياسية والطبقية الاجتماعية منها أو العلمية، وساهم بالنتيجة في نجاحها وإن كان بدرجات متفاوتة. إن محاولة إعادة إدخال مارد الإصلاح والتغيير في قمقم الحزبية هو مسار انتحاري سوف يؤدي بالنتيجة إلى تفكيك الدعم الشعبي لحركات الإصلاح والتغيير ، وتحويلها من تيار شعبي جارف إلى تيار سياسي محدود وقد يكون متناحراً. ولكن من يريد هذا؟ الأنظمة بالطبع تريد هذا حفاظاً على بقائها وعلى سلطاتها ، ولكن الأنانية والتحزب بين مكونات حركة الإصلاح والتغيير قد يدفع الأمور في هذا الاتجاه أيضاً. وهنا يكمن المحظور والذي يتطلب وعياً سياسياً مرناً وارتقاءً فوق الحزبية الضيقة.

تعتقد الحركات الإسلامية مخطئة بأن نجاحها في الانتخابات النيابية هو تفويض لها بإعادة تشكيل المجتمع وإعادة تكييف الدولة المدنية لتجسد برنامج تلك الحركات ورؤيتها. وفي دفاعها عن مثل هذا الاعتقاد الخاطىء، تسوق الحركات الإسلامية أمثلة على دور بعض الحركات القومية في تدمير الحياة السياسية في بعض الدول العربية وخصوصاً الأنظمة الدكتاتورية التي سادت في المنطقة منذ منتصف القرن الماضي. لقد فشلت الحركات الإسلامية عند تبني هذا الطرح في التمييز بين الفكر القومي والأنظمة الدكتاتورية العسكرية الانقلابية التي سادت في تلك الحقبة سواء ما كان منها انعكاساً لفكر قومي واضح مثل العراق وسوريا، أو من أدعى تبني فكر قومي مثل ليبيا تحت حكم القذافي، أو تلك التي استندت إلى التراث القومي الناصري مثل مصر في حقبة السادات ومبارك، أو التي اكتفت بمحاربة الإسلاميين مثل تونس والجزائر. إذاً، الأنظمة التي حاربت الحركات الإسلامية لم تكن بالضرورة قومية أو يسارية ولكنها كانت في مجموعها ذات سمة مشتركة واحدة كونها أنظمة حكم دكتاتورية . وهذا يعني أن العدو الحقيقي للحركات الإسلامية لم يكن القوميين واليساريين، وإنما كان أساساً الأنظمة الدكتاتورية ورؤيتها السياسية ومصالحها الخاصة. وهكذا، فإن عداء الحركات الإسلامية التاريخي أو العقائدي يجب أن ينصب على الدكتاتورية نفسها وليس على الحركات القومية أو اليسارية. وإذا كان الأمر كذلك، فلماذا تحاول الحركات الإسلامية أن تعيد الكره وأن تعصف بباقي القوى السياسية كما فعلت تلك الأنظمة الديكتاتورية من خلال تغيير معالم المجتمع والدولة. يستطيع البعض أن يتفهم إذا ما قامت أي حركة إسلامية بفرض برنامجها الاجتماعي على أعضائها وأعضاء التنظيمات التابعة لها لأن ذلك يكون، عندها، خيار أولئك الأعضاء. أما أن تقوم تلك الحركات بفرض برنامجها الاجتماعي ورؤيتها الخاصة على المجتمع قاطبة فهذا يعكس نظرة شمولية تتغذى على إلغاء الآخرين والقضاء على التعددية من خلال توحيد رؤيا الناس ونمط حياتهم. وهنا لا داعي للتذكير بأن " لا إكراه في الدين" وأن موضوع "الحساب والثواب"، والذي يفترض درجة من التعددية الإيمانية بين أبناء الطائفة الواحدة، يبقى في صلب الإسلام وكافة الشرائع المعترف بها سواء السماوية منها أو الوضعية . التعددية داخل أي مجتمع هي بمثابة الروح وإلغاؤها سيؤدي بالضرورة إلى موت المجتمع وقتل قوى الإبداع داخله. من يريد أن يعيش في مجتمع نمطي يستبدل سيداً سابقاً بسيد لاحق حتى وإن كان اللاحق يمتشق حسام الدين؟

إن أي محاولة للإيحاء بضرورة وحتمية الالتزام بالبرنامج الاجتماعي للحركات الإسلامية لمجرد فوزها في أي انتخابات أمر لا يمكن التسليم به وقبوله دون نقاش. فإدعاء الحركات الإسلامية الالتزام الدقيق بتعاليم الدين فيما يتعلق بالبرنامج الاجتماعي لا يقابله التزام مماثل فيما يتعلق بالبرنامج السياسي. فالحركات الإسلامية قد أثبتت أنها أكثر مرونة سياسياً مما يعتقده الكثيرون. فحركة حماس، مثلاً، سارعت إلى فك ارتباطها بشكل هامس وتدريجي مع مكونات الحلف السوري- الإيراني مروراً بحزب الله في لبنان عشية اندلاع الثورة في سوريا. والتزام حركة حماس وحزب الله بوقف إطلاق النار مع العدو الإسرائيلي عقب انتهاء حرب غزة وحرب 2006 قي لبنان كان وما زال واضحاً . إن هذا لا يقلل من التاريخ الجهادي والنضالي لكلتا الحركتين وإن كان لا ينفي في الوقت نفسه التزامهما الدقيق بوقف الأعمال الجهادية ضد العدو الإسرائيلي. وقفز حركة حماس من الحاضنة السورية إلى الحاضنة القطرية والمصرية أمر يدفع العديدين إلى التساؤل عن مدى جدية البرنامج السياسي للحركة؟ ومسارعة حركة الأخوان المسلمين في مصر إلى الإعلان عن التزاماتها بالاتفاقات الدولية لنظام حسني مبارك يهدف إلى طمأنة أمريكا وإسرائيل على التزام تلك الحركة باتفاقات كامب ديفيد. ونفس الشيء يجب توقعه من حركة الأخوان المسلمين وحزب جبهة العمل الإسلامي في الأردن عند توليهم مسؤولية الحكم وذلك فيما يتعلق باتفاقات وادي عربة.

إن التصرف بدرجات متفاوتة من البراغماتية السياسية هو أمر متعارف عليه في السياسة. ولكن الكيل بمكيالين هو ما نحن بصدد الحديث عنه . فإذا كانت الحركات الإسلامية قادرة على استيعاب أصول العلاقات الدولية وأصول اللعبة السياسية ، فالأولى أن تستوعب مستلزمات السلم الاجتماعي في أوطانها ومتطلبات حقبة التحول الديمقراطي ونجاحها واستمراريتها. إن الدفع باتجاه فرض وجهة نظر واحدة على المجتمع وإلغاء التعددية داخل المجتمع الواحد أمر مرفوض ولا يمكن القبول به ويجب على الحركات الإسلامية أن تعطي من الالتزامات العلنية والملزمة ما يكفي لطمأنة الجميع حيث أن جُل ما صدر عنها حتى الآن هو إشارات وتصريحات وهمهمات لا تكفي لتهدئة النفوس وطمأنة الناس.

إن إصرار الحركات الإسلامية على التحدث عن ما هو ممنوع في الإسلام أكثر من الحديث عن ما هو غير ممنوع والتركيز على شق العبادات في الإسلام أكثر من التركيز على الجوانب الإنسانية والاجتماعية للإسلام وعن ما يقدمه الإسلام من منظومة العدالة والتكافل الاجتماعي واحترام خصوصية الإنسان وحرمة البيوت وأن "لا إكراه في الدين" إلى غير ذلك من العديد من المظاهر الايجابية، قد يكون مسؤولاً عن الموقف السلبي تجاه البرنامج الاجتماعي لتلك الحركات من قبل العديد من قوى وأفراد المجتمع المدني والطوائف الغير إسلامية. فالتجارب التي خاضتها العديد من الطوائف في ايران الإسلامية والعراق بعد صدام حسين لا تترك الكثير للخيال. والمراقب لمجريات الأمور الآن يرى التطورات في المنطقة تقترب تدريجياً ولكن بثبات من ذلك المسار الخطر.

إن ما نمر به الآن هو في غالبه من صنع أيادينا، و لا يجوز أن نلوم أحداً غير أنفسنا. وهنا علينا أن نذكر أن لجوء الشعب إلى التصويت الاحتجاجي (Protest Vote) كرد على ممارسات تعسفية وسيئة لا يشكل تفويضاً مفتوحاً للقوى المستفيدة من هذا التصويت لفعل ما تريد وكيفما تريد . وأكبر مثل على ذلك ما جرى في قطاع غزة ، حيث أدى الفوز المفاجئ لحركة حماس في الانتخابات - كنتيجة مباشرة للتصويت الاحتجاجي ضد حركة فتح وممارساتها وفسادها- إلى تقسيم الأراضي الفلسطينية المحتلة بين فتح في الضفة الغربية وحماس في قطاع غزة، كما أدى إلى احتلال حماس للمجتمع في قطاع غزة بشكل تدريجي تمهيداً إلى أسلمته.

إن محاولة أي حزب سياسي الالتصاق بالدين ومن ثم زعم احتكار الحقيقة يشكل خطورة مؤكدة على تعددية المجتمع ومدنية الدولة والمسار الديمقراطي الذي قد يختار أن يعزل حزباً ما عن السلطة أو أن يضع حزباً آخر في السلطة . ايران، مثلاً، أعادت صياغة الدولة لتجعلها إسلامية ولتحصر تداول السلطة بين الأحزاب الدينية فقط. والعراق يقف عاجزاً أمام سطوة وجبروت حكومة المالكي بغض النظر عن نتائج الانتخابات، وتونس ومصر تقترب من ذلك المسار، وليبيا ما زالت تبحث عن نفسها ولكن في نفس الاتجاه، وسوريا تتأرجح بين أحزاب دينية انتقامية وحركات مدنية ضعيفة ومفككة أمام جبروت نظام لا يرحم أحداً. ترى هل ستكون النتيجة أن نغرق جميعاً في مياه ضحلة آسنة من صنعنا وإن كان بتشجيع غيرنا؟ لنأمل أن يكون الجواب بالنفي، ولنأمل أن يكون لدى الحركات الإسلامية القدرة على القفز فوق واقعها الحزبي والعقائدي، والارتقاء إلى مصاف الحركات السياسية القائدة والرائدة، والسمو فوق العقائدية الضيقة.



تعليقات القراء

احمد الازايده
يا لبيب انت اكثر محبة وانتماء ووعي وحب للديار يا محتار لازم يقع عليك الاختيار لانه انت ما وزعت دين على الجيران ومديت الابدين للشرق والغرب تدور الصدقه والدين الشعارات سمعناها من سنين خط خمسية مصبحه وممسّيه شبعنا شعارات وامثلت البلد ثارات حتى الجامعات اترك لغيرك المجال بس يكفي
05-03-2012 09:10 PM

أكتب تعليقا

تنويه :
تتم مراجعة كافة التعليقات ،وتنشر في حال الموافقة عليها فقط.
ويحتفظ موقع وكالة جراسا الاخبارية بحق حذف أي تعليق في أي وقت ،ولأي سبب كان،ولن ينشر أي تعليق يتضمن اساءة أوخروجا عن الموضوع المطروح ،او ان يتضمن اسماء اية شخصيات او يتناول اثارة للنعرات الطائفية والمذهبية او العنصرية آملين التقيد بمستوى راقي بالتعليقات حيث انها تعبر عن مدى تقدم وثقافة زوار موقع وكالة جراسا الاخبارية علما ان التعليقات تعبر عن أصحابها فقط ولا تعبر عن رأي الموقع والقائمين عليه.

- يمكنك تسجيل اسمك المستعار الخاص بك لإستخدامه في تعليقاتك داخل الموقع
الاسم :
البريد الالكتروني :
اظهار البريد الالكتروني
التعليق :
رمز التحقق : تحديث الرمز
أكتب الرمز :

إقرأ أيضاً

رياضة وشباب

محليات