ماذا سيكتب عنّا التاريخ ؟؟ الحلقة الثانية


استجواب في عالم الآخرة
قلت في المقالة السابقة (( السؤال كبير جدا والإجابة عليه قد تتلخص بفقرة واحدة هي : " بدأت يقظة العرب في أواخر القرن التاسع عشر الميلادي فحاولوا النهوض طيلة النصف الأول من القرن العشرين فأخفقوا ,فاستعاضوا عن طريق الرفعة والنهوض بالدربكة والطربقة والضجيج والعجيج وهم سكارى , وليتهم إذ أخفقوا قد عادوا لسباتهم الأزلي فأراحوا العالم من دربكتهم وطربقتهم وضجيجهم " ربما هذا ما سيكتبه المؤرخ المشغول بجمع إنجازات الإنسانية عبر التاريخ , فلا يرى أن يثقل كتابه بغير هذه الفقرة , فمن لم يزد على الدنيا كان زائدا عليها على حد تعبير الرافعي , والزائد لا مكان له فيها .
لن يكتب عنّا المؤرخون شيئا إلاّ على سبيل التفكّه والتسلية لأننا نمارس حياة لا تخضع للسنن الكونية التي تحكم سير المجتمعات الإنسانية , وربما جاء متفلسف فكتب عنّا باعتبارنا ظاهرة فريدة في كوكب الأرض تبحث بدافع حبّ الاستطلاع , وحمد الله على نعمة المعافاة من الابتلاء )).
إذن نحن أمام تحد حقيقي بين أن يكتب عنّا أو لا يكتب , فمن الأحسن أن نكتب نحن على لسان مؤرخي المستقبل , ونمزج كلامهم بكلامنا ليكون لنا مساحة لائقة بمقامنا في التاريخ فلا بأس من أن يستجوبني مؤرخ يعيش في عام 2150 م , وإليكم صورة هذا الاستجواب :
جاءني شاب في الثلاثين من العمر يلبس بدلة فوتيك , أسمر البشرة , خفيف العارضين , لامع العينين , أجزم بأنّه عربي قحطاني , فأيقظني من قبري , وأخبرني أنّه باحث في التاريخ وأنّ أطروحته عن عرب النكسة ودخول الألفية الثالثة , وشكا لي أنّه اختار هذه الأطروحة وظنّها في متناول اليد , وعندما دخل في الميدان شعر أنّه وقع في ورطة كبرى لا مخرج منها وأنّه عاجز عن كتابة سطر واحد , فقلت له : يا بني لقد ظلمت نفسك باختيارك هذه الحقبة التي تغطي أكثر من خمسين عاما , فموضوع واحدا مثل " قمة الخرطوم ذات اللاءات الثلاث ) يكفي لأكثر من عشر أطروحات دكتوراة منها على سبيل المثال : فلسفة اللاء في دفع البلاء , وتحليل الخطاب العربي في تلك القمة , إعراب خطبة سيادة الرئيس جمال عبد الناصر , لباس القادة العرب في قمة الخرطوم , تحليل البيان الختامي للقمة , نوعية الوجبات التي تناولها القادة العرب في القمة وقيمتها الغذائية , أثر حرارة السودان على مباحثات ونتائج القمة , موقف الشعب العربي من القمة , النتائج الموضوعية للقمة ........ الخ , فبدأ الذهول على الباحث وقال ماذا تقول ؟؟ آحمل شهادة دكتوراة وتخصصي هو مثل هذه العناوين ؟؟ إنني أخجل من القول أنني متخصص في فترة من التاريخ لا تتجاوز الخمسين عاما وزملائي تخصصوا في مئات السنين ففلان أستاذ التاريخ العباسي , وفلان أستاذ التاريخ الجاهلي وصدر الإسلام ويعرف عن أحوال الروم والفرس والصين في ذلك الزمن ما لا يعرفه ذلك أصحاب ذلك الزمن أنفسهم . فقلت : يظهر لي أنّ نظامكم الجامعي يختلف عن عصرنا , فنحن في عصرنا نؤمن بالتخصص فالأطباء مثلا هناك من هو مختص بالأذن والأنف والحنجرة وكنّا نراه مظلوما لأنّه متخصص في ثلاثة أشياء , وغيره يختص بالقلب ولا شأن له بالرئة , وذاك متخصص بالجهاز الهضمي ولا علاقة له بالقلب , وذاك متخصص بالأعصاب ولا علاقة له بالشرايين هذا في مجال الطب أمّا في الأدب فهذا متخصص في أدب طه حسين , وهذا متخصص في شعر الشنفرى , وذاك متخصص في رفع الفاعل في النحو ولا علاقة لأصحاب اختصاص إلاّ باختصاصه فقط , فلا يجوز أن نسأل المتخصص برفع الفاعل عمّا يتعلق بالمفعول به , وهكذا ..... إنّه الاختصاص الدقيق يا بني الذي يولد الإبداع , وبه يشمخ البنيان وتشمخ الأنوف , ونحوز على الألقاب .
أطرق مليّا ثمّ قال : إنّ أدوات البحث عندنا خاصّة في التاريخ غير معروفة لديكم فنحن ندخل المعلومات في مختبر خاصّ لعلم التاريخ ثمّ يقوم بفرزها ويبين زائفها من صحيحها وباطلها من معقولها . فقلت : أخبرني عن هذا المختبر العجيب . فقال : نحن اكتشفنا القوانين العلمية التي تحكم سير المجتمعات والشعوب والدول والأفراد , وأدخلناها على الحواسيب , وعند البحث نجمع معلومات العصر المراد دراسته , وندخلها على الحاسوب ثمّ نخضعها لبرنامج تلك القوانين فتظهر النتائج في ثوان كاشفة ما هو حقيقي ومعقول أو ما هو كذب وزيف , وهذه نتائج علمية خاضعة لقانون علمي أصمّ تعالجه مادّة صمّاء لا مدخل فيهما للعواطف والهوى فقفّ شعري , وجفّ ريقي , وامتقع لوني , وارتجفت أطرافي , فقال لي : ما بك ؟ قلت : بصوت أقرب للنحيب : إذن كشفتم المستور ؟؟ فقال : ماذا ؟ قلت : لا شيء , أبارك لكم هذا الاكتشاف المذهل , فأرجو أن تحدثني عمّا اكتشفتم عنّا . فقال : عندما ندخل المعلومات للحاسوب المبرمج , ونعالجها فإننا النتائج تأتي كالتالي : معقول أو غير معقول , صحيح أو زائف , ومعقول وغير معقول تتعلق في بحث الأحداث , وصحيح وزائف تتعلّق في بحث الصور وكلمة معقول لا تعني صحّة الحدث المذكور ولكنها تعني أنّه يتفق مع القوانين العلمية فقد يكون صحيحا وقد يكون كذبا , أمّا غير معقول فمعناه أنّ الحدث لم يحصل ويستحيل أن يحصل..... قلت : لقد زدتني حيرة فوضّح لي هذا الغموض . قال : سأضرب لك مثلا فقد جاء في التاريخ أنّ بريطانيا كانت ضيقة المساحة , قليلة السكان إلاّ أنّها استطاعت بحكمتها وحنكتها وعلمها أن تحكم بلادا تزيد مساحتها عشرات أضعاف مساحة تلك الجزيرة , وشعوبا بمئات الملايين , ولدى إدخالها الحاسوب المبرمج جاءت النتيجة " معقول " , وجاء في التاريخ أنّ جمال عبد الناصر زعيم عملاق غير وجه التاريخ , فعولجت هذه المعلومة فكانت النتيجة غير معقول ........
قلت : إذن حدثني عمّا وصلتم إليه بشأن تاريخ فترتنا , قال : لا مكذبة , لقد وجدنا كمّا هائلا من الكتب والصحف , والمجلات , والصور , وأشرطة الفيديو وجمعناها في منطقة تسمّى "قاع مغار " فشكلت جبالا من الورق , وأدخلناها لذلك الحاسوب فجاءت النتيجة غير معقول وزائف فقلت في نفسي : هذا ما كنت أخشاه ثمّ صرخت في وجهه وقلت : أيها المفتري هب أنّ المكتوب غير معقول , فكيف تكون الصور زائفة ؟؟ فقال : يا جدّاه شرح هذا الأمر يتجاوز قدراتك العقلية !! فقلت : لابدّ أن تشرح لي عن زيف الصور على الأقل . فقال : صدق من قال (جيت أبو المعين يعينني , وإذا أبو المعين يعان ) . فقلت : لا عليك , أشرح لي هذا الأمر وأعدك بألاّ أبخل عليك بما تريده من معلومات . فقال : أمّا الآن فنعم , فيا حضرة الجدّ المحترم تعلم أننا نبحث عن صور المشاهير من سادة وقادة وعظماء , ولدى معالجة هذه الصور اكتشفنا أنّها زائفة لأحد سببين : أولهما أن بعض أصحاب الصور مجرد واجهات والمخرج الحقيقي يختفي خلف الستار , وثانيهما أنّ تلك الصور ممكيجة , وعلى كلا الحالتين فالصورة تصنّف على أنّها زائفة ...... فقلت دعنا من هؤلاء , ألم تجدوا في صورنا نحن الرعاع ما هو حقيقي فقال لا , وجدنا صورا لكم وأحدكم يتظاهر بالرزانة والوقار أمام الكاميرا وهو من داخله يضطرب سفاهة وخفّة , ووجدنا صورا لكم وأنتم تبكون وباطنكم يقول بمثل هذه الدموع نمارس الخداع , ووجدنا صورا لكم وأنتم تبتسمون وباطنكم يقول بمثل هذه الابتسامة نخفي الأحقاد والبغضاء وجدنا ........ فقلت كفى كفى , لا بارك الله فيك خلفا ........ قال : يا جدي السابع أحبّ أن أزيدك علما , فأصمد قليلا . فقلت : وماذا بقي إلاّ أن تقول أنكم تعرفون سرائرنا . فقال هو ذاك فقلت : كيف ؟ قال : إن اختراعنا العجيب في معالجة الصور يكشف طبائع النفوس , فنضع صورتك في الحاسوب ثمّ نضغط على أحد الأزرار فيعطينا الخيارات التالية : صورة الجسد , صورة النفس , فنطلب صورة النفس فتظهر صورة من عالم الحيوان أو النبات فقد تكون صورة ذئب أو قرد أو أفعى أو عقرب أو ثعلب أو نخلة أو شجيرة حنظل ...... الخ , وهذه الصورة تكشف الطبيعة الحقيقية لصاحب الصورة , فإذا فحصنا صورة أحدهم النفسية فظهرت صورة ذئب مثلا فحينئذ نعلم أنّ صاحب الصورة جبان أمام الأقوياء , وظالم للضعفاء , وعديم وفاء وهكذا .
وقفت مذهولا أمام هذا الاكتشاف المذهل ولكنني كنت متشككا , فقلت : إنني لا أزال متشككا , وبما أنني أعرف نفسي جيدا فأخبرني عمّا اكتشفته عنّي , فقال : أخشى غضبك ولا أريد جرح شعورك . فقلت دعك من هذا فأنا أريد البرهان على ما تقول . فقال : انظر إلى حاسوبي , فشاهدت صورتي الجسدية كما هي , ثمّ وضع خيار البحث عن الصورة النفسية فظهرت صورة للكائن الذي كان يعيش بداخلي , والذي لن أسمح للقرّاء بمعرفته , فقلت في نفسي ربما كان ذاك مجرد صدفة , فبدأت أسأل عن صور من أعرف نفوسهم , فجاءت النتائج متطابقة بنسبة 95% مما كان في تصوري عنهم , فأيقنت أنّ القوم فعلا يملكون هذا العلم المرعب الفاضح .
التفت إليّ وقال : لقد وعدتني بأن تساعدني , وفي المثل " أنجز حرّ ما وعد " فقلت : قصدك " أنجز تيس ما وعد " ولكن بما أنكم تملكون هذا العلم الهائل فما الذي تريده منّي ؟؟ قال : نحن نملك هذا العلم , ولكننا لم نستطع أن نعرف لكم فعلا واحدا حقيقيا , فماذا فعلتم ؟؟ قلت : يا بني إنّ آثارنا تشهد علينا , ألم تشاهد ما بنيناه من صروح وقصور وقلاع ؟؟ ألم تشاهد ما فتحناه من طرق تخترق الجبال ؟؟ ألم تشاهد ما كتبناه من كتب ؟ ألم تشاهد تلك المزارع والبساتين والجنان ؟؟ ألم ترى أننا استخرجنا الماء من أعماق الأرض فأحييناها به ؟؟ أما رأيت مصانعنا وصناعاتنا ؟؟ ألم يلفت نظرك كم لدينا من المشاهير والعظماء قياسا مع الأمريكان مثلا ؟؟ فمن عام 1967م إلى عام 2000م فقط كم منهم حمل لقب رئيس دولة قياسا معنا نحن أجدادك الكرام ؟؟ ألم تقف عند ظاهرة الفشل المتتابع لحكام أمريكا فأكثرهم كفاءة لا يستطيع أن يصمد في منصبه أكثر من ثمانية أعوام ثمّ يفشل , ويهرب , وينزوي , والعربي يبقى في السلطة عشرات السنين فإن توفّاه الأجل شيعناه بالدموع دلالة على أننا لم نكن نرضى به بدلا لكنّ البقاء لله ؟؟
قال : أريد أن أسألك عن الملاحظة الأخيرة وأعني بها قصّة الحكام عند العرب والأمريكان فنحن شاهدنا أمرا عجيبا عجزنا عن تفسيره فأنتم راضون بحكامكم الذين يبقون مدى الحياة , وإن وافاهم الأجل ودعتموهم بالدموع , ومع هذا لا تطيقون بقاء فئتين : المجالس البلدية والنيابية , فاليوم تشاركون في الانتخابات وغدا تبدأون تطالبون بحلّ تلك المجالس , وتتهمون الفائزين بالتقصير وعدم الأهلية , والغريب أنّ هؤلاء جاءوا بأصواتكم المباشرة , وأولئك ليسوا كذلك ؟؟ فهل تستطيع أن تفسّر لي هذا السلوك العجيب ؟؟
قلت : إنّ هذا الأمر لا يحتاج إلى تفكير أو تفسير , فنحن نؤمن إيمانا قاطعا بأنّ الله يرفع من يشاء , ويخفض من يشاء , ولذلك نحن دائما ندعو الله " أن يولينا الصالحين " = يولي علينا الصالحين , فنحن لا نولي أحدا سلطة أو مكانة أو منصبا وإنما ذلك فعل الله , وهذه العقيدة مترسخة في وجداننا , وعقلنا الباطن , ولا يمكن أن تزلزلها جميع الأفكار التي تناقضها وإن كانت مستمدة من القرآن العظيم , فالأقدار تختار لنا , والخيرة فيما تختاره لنا , فإن كان ولي الأمر صالحا شكرنا , وإن كان غير ذلك كان عقوبة لنا على ذنوبنا فيجب علينا أن نصبر , هذا فيما يتعلق بالصنف الأول , أمّا الصنف الثاني فهو قد جاء برغبتنا واختيارنا , ونحن لا نرى في نفوسنا الأهلية لاختيار الصواب ولا اتخاذ القرار , فنحن منذ أن وجدنا على هذه الأرض ونحن نسمع ونطيع , وننتظر الأمر لنتقدم , ولسنا كتلك الشعوب الهمجية المغامرة التي لا توقّر كبارها , ويسابق شبابها (شيابها ) وتسابق نساؤها رجالها , وتصل فيها الوقاحة إلى رفع شعار first" lady " ؛ لكلّ ذلك فأننا لعدم ثقتنا باختيارنا نفعل ما نفعل , ونحن إنما نمارس الانتخاب لا عن قناعة أو رغبة فيه , ولكن استجابة لمطالب أولياء الأمر الذين يصرّون على أن نقوم باختيار ممثلين لنا في المجالس النيابية والبلدية , وكم نتمنى أن يقوم ولي الأمر بتعيينهم ليريحنا من هذا الامتحان العسير الذي لن ننجح به أبدا إلاّ إذا نجح من ولد أعمى بإدراك بهجة الألوان .
قال الباحث : إنّ هذه نقطة تسجّل لكم , أمّا ما ذكرته عن الآثار المادية فليس لكم منها شيء ولا يسجّل لكم فيها فضل لأنّ الآلات التي نفذتم بها تلك الأشياء مستوردة , والأجساد التي استخدمتموها في التنفيذ بنيت من أغذية مستوردة , أمّا ما يتعلق بشؤون الحكم فأمر يشارككم فيه غالبية البشر في أفريقيا وآسيا فلا أستطيع أن أصنفه تحت " ماركة الجمل " إذ يشارك فيه "الفيل الهندي " , والقرد الأفريقي , والحصان الآسيوي والدب الروسي , فهل تستطيع أن تدلني على ميزة تمتازون بها عن الأمم والشعوب لأجعلها علامة مميزة لكم ؟؟ وأنا أتوسل إليك لعلك تجدها لأنّ اكتشافها يعني حصولي على الدرجة العلمية التي أسعى إليها , وهذا أمر يهمك جدّا فأنا من أحفادك وأنت جدي السابع . وناولني ورقة مصدقة حسب الأصول تحمل اسم الباحث , وإذ أنا جدّه السابع , ففرحت جدّا وشعرت بالفخر الممزوج بالخجل بسبب صورتي النفسية التي ظهرت في حاسوبه , واستجمعت أفكاري , وطلبت منه أن يمنحني نصف ساعة للتفكير , فوافق , وأطرقت أفكّر , فقطع تفكيري صوت جاري " مظفّر النواب " وهو ينشد بصوته الجهوري المتألم : "قمم قمم معزى على غنم " فصحت مقلدا نيوتن : " وجدتها وجدتها " فجفل حفيدي علقمة وقال مابك ؟ أجاءتك نوبة جنونك يا جدّي العزيز ؟ فصدمت من هذه التهمة , وقلت من قال لك أنني مجنون قال : هذا ما وجدته في أرشيف عائلتنا الكريمة , وهو مكتوب بخط حفيدك عائض بن الحارث فقلت : وماذا كتب ؟ فناولي الورقة , فوجدت فيها " جدّي .... من المخضرمين الذين عاشوا في القرن العشرين والقرن الحادي عشر , كان يعاني من لوثة في عقله , وجنون مطبق , وكان مما يروى عنه أنّه كان يزرع أشجار " الدفلى " ويطعّمها ببراعم النخل ويقول أنّها ستصبح نخلا سامق القامة , يثمر رطبا جنيّا , وكان يطعم الخراف الصغيرة اللحم ويقول أريد أن أحولها إلى فهود للصيد , وكان يربي الأفاعي في أعشاش الحمام لتصبح مسالمة , ونام تحت شجرة دفلى وهو يحلم بأن يستيقظ وهي تساقط عليه رطبا جنيا , فسقطت عليه أفعى من تلك الشجرة فلدغته فكانت القاضية " انتهى , فصدمت من هذا النصّ , وقلت هذا كلّ ما تعرفه عنّي قال : إنّ ذلك كاف , فالكتاب يقرأ من عنوانه . قلت : ما دمت مجنونا في نظرك أنت وآبائك فلماذا تزعجني , وتوقظني من قبري , وماذا عساك ستجد عند مجنون ؟؟ قال : تؤخذ الحكمة من أفواه المجانين " , فقلت في نفسي لقد مضى على ذلك زمن طويل , ولم أعد أتذكّر فربما كان ذلك صحيحا فأنكره فيعدّني كاذبا , وأسقط من عينه زيادة على ذلك السقوط , فقلت : دعنا من هذا فأحفادي أدرى بي من نفسي , ودعنا نعود لموضوعنا , فأين وصلنا ؟؟ قال : لا أدري ولكنك كنت تقول وجدتها وجدتها قلت آه نعم لقد وجدتها , وهاجمني النسيان فلم أعد أدري ما التي وجدتها !! فنعق مظفّر مرّة أخرى قـــــــــــــــــــــــــــــــمم قـــــــــــــــــــــــــــــمم فتذكرت , وقلت يا بني إنّ الميزة التي نمتاز بها عن جميع البشر أننا جميعا رؤوس فإن أردت ترسم لنا ماركة مسجّلة من عالم النبات فأرسم صورة " كيس بصل " وإن أردتها من عالم الحيوان فأرسم صورة كائن ضعيف تنبت منه رؤوس تغطي جميع أجزاء جسده من جميع جوانبه , وكلّ رأس يشدّ الجسد إلى جهة مخالفة لما حوله من الرؤوس , ويظلّ هذا الكائن يتقلب في مكانه بسبب قوى الشدّ والشدّ العكسي والشدّ العلوي والسفلي والأيمن والأشأم , والأفقي , والرأسي والمحوري , ولهذا السبب فنحن كما كنّا منذ أيام جدّك العظيم يشْجُب بن يَعْرُب بن قَحْطان ومرورا بجدّك العظيم مُزَيْقيا بن ماء السماء صاحب سدّ مأرب وانتهاء بجدك العظيم صاحب الدفلى , وأخشى أن تكونوا مثلنا .
قال : رائع فأنتم ذلك الكائن الذي يقلب بطنا على ظهر ثمّ يستند ثم ينقلب بنفس المكان ونفس الهيئة والشكل منذ الأزل , ولكن لاحظنا تغييرا نوعا ما في حياتكم فجيلك يختلف اختلافا جوهريا عن أجيال أجدادك الذين ظلوا يكررون نفس الأنموذج طيلة عشرات القرون فما هو سرّ هذا التغيير , فقلت : اتفقنا على حقيقة أننا ذلك الكائن ذو الرؤوس المليونية التي تمنعه من الحركة ؟؟ قال : نعم . قلت : إذن ابحث عن مصدر خارجي دفع هذا الجسد أو جرّه من ذلك المكان , وربما قام بقطع كثير من الرؤوس أو إضعافها لتتمكن بقية الرؤوس من جرّ الجسد جرّا وئيدا كسير جمال زنوبيا حيث تقول :
ما للجمال مشيها وئيداً ... أجندلا يحملن أو حديدا
قال : أفهم من ذلك أنّ الجسد العربي لا يتحرك إلاّ بمحرّك خارجي ؟؟ قلت : نعم , لا لقصور فينا معشر العرب , ولكن لأننا جميعا سلاطين فنحن ما بين سلطان أو مشروع سلطان رئيس أو مشروع رئيس , ولا نقبل الخضوع لأبناء جنسنا مطلقا إلاّ بقوّة قاهرة , لا مانع عندنا أن نصنف مجرد شيوخ عشائر عند باب كسرى وقيصر , أو الباب العالي في الأستانة , أو المندوب السامي البريطاني , ولكننا نرفض أن نكون وزراء وقادة في ظلّ قيادة عربية , ولهذا السبب فإنّ جميع دعاة وحدة العرب كانوا يلجأون لأسلوب القوة القسرية على مرّ التاريخ .
أحمرّ وجه أبي هبنقة أعني حفيدي علقمة , فسرت قشعريرة في جسدي , وأيقنت أن القوم على حال من التشرذم والتفكك أسوأ من حالنا , فقلت : ألا حدثتني عن أحوالكم وهل حققتم حلمنا الذي كان يمثّله نشيدنا ونحن أطفال :" بلاد العرب أوطاني " فقال أتقصد قول الشاعر إبراهيم الأسود :
بكى شارون من ضحكٍ على عشرين شيطانِ
و غنّى بين أظهُرنا ( بلاد العُرب أوطاني )!
فقلت : سوّد الله وجهك بالقار والشنار والعارّ أنت وهذا الأسود , نشيدنا كان :
بلاد العرب أوطاني من الشام لبغدان
ومن نجد إلى يمن إلى مصر فتطواني
قال لا أفهم عمّا تتحدث , إنّ هذه الأسماء لم أسمع بها قط , آه لا بل تذكرت تلك الشامة على خد تلك الفتاة التي أحببتها وهي من عشيرة كذا وسمّى عشيرة من العشائر التي ألتقي معها في الجدّ الثاني عشر , فقلت : وهل تزوجتها ؟؟ فتنهد بحسرة , وقال : لا . قلت ما السبب ؟؟ أرفضتك أو رفض أهلها ؟؟ قال : لا هذا ولا ذاك , ولكن ساءت العلاقات بين دولتينا , ونظرا لأنّ والدي كان من قادة الانفصال الذي شطر دولة العامرية إلى ثلاث دول فأنا ممنوع من دخول تلك الدولة , ونحن نتابع الجهود الدبلوماسية التي يقودها وزير خارجيتنا برعاية كريمة من مدير عام شركة ( مارتي ملط ) لإصلاح العلاقات بين الجارتين الشقيقتين . قلت : هكذا إذن ؟؟ قبحك الله وقبح قومك , وماذا تريد من تاريخنا ؟؟ قال نريد أن ننهض ونعود موحدين كما كنتم وأخرج خريطة للعالم العربي على ورق أصفر , وقال : أتعرف هذه , فقلت نعم , لقد حفظتها أيام التوجيهي على الرغم من بغضي لها بسبب تلك الخطوط التي تمزّق أقطارها ..... قال : مهلا مهلا يا جدّي العزيز , سأريك خريطتنا اليوم , فأخرج خريطة مساحتها عشرة أمتار مربعة وحاول بسطها فلم يستطع لضيق قبري , فقلت لنذهب لقبر ( فلان ) فإنّه واسع , فدخلنا فلم يرحب بنا , وإنما كان ينظر لنا ببلاهة كما كان في الدنيا , فبسط حفيدي الخريطة , فنظرت فلم أفهم شيئا , وإنما رأيتها مقسمة إلى وحدات ذات أشكال مختلفة ما بين مربع , ومستطيل ومعين ومفلطح ومخشرم , ومجلقم , وهذه الوحدات أكثر من مائتي ألف وحدة , فقلت : ما هذا قال : هذه دولنا معشر العرب , وأما تلك المستطيلات الكبيرة نوعا ما فهي محميات وشركات وقواعد أصدقاءنا من الأوربيين , والصينيين , واليابانيين , والكوريين , والهنود , والروس والأمريكان والبنغال , والاستراليين , والنجيريين , والأسكيمو , وهؤلاء الأصدقاء أفضل لنا من بعضنا , وهم دائما يتدخلون لمنع الحروب بيننا .
وقفت مبهوتا مدهوشا مصدوما مذهولا , وقلت : وعلام تتقاتلون ؟؟ قال : نتقاتل على مخلفات مزارع هؤلاء الأصدقاء لنعلفها مواشينا , ومنتجات المصانع التي يتلفونها لأنّها غير صالحة للتصدير فنطعمها لأولادنا , وكذلك المشاجرات التي تقع بين العمال في تلك المصانع , فمثلا هذا المصنع يقع بين هاتين الدولتين فيأخذ عمالا من هذه وتلك , والعمال من الجنسين , فقد يتحرش أحد رعايا هذه الدولة بفتاة من الدولة الثانية فتعلن الحرب , ولولا تدخل مدير عام المصنع فإنّ الحرب ستهلك الطرفين .
قلت : بخ بخ يا بني , وأبوك كان من قادة الانفصال , وانفصلتم بدولة مستقلة ؟؟ قال : نعم واسمها سلطنة الزميلة الاشتراكية الديمقراطية الشعبية الثورية الحرّة العظمى . قلت : عظيم مهيب مفخرة , حدثني عن هذه الدولة العظمى , حدودها , سكانها , جيشها , فقال : يحدها من الغرب والجنوب وادي شابك , ومن الشمال وادي القدرة , ومن الشرق جمهورية خان الزبيب الشعبية , ويبلغ عدد سكانها عشرة آلاف نسمة , ويبلغ تعداد قواتها المسلحة مائة مقاتل جميعهم مسلحون بخراطيش من ذات الفوهتين , وشباري دقّ هوشان , فقلت : أمعك شيء من سلاحهم . فأنتفخ بتعاظم وفخر وأستل شبرية طول نصلها خمسة وعشرين سم وقال هذه لا يسمح بنقلها إلاّ لعلية القوم , فقلت أعطني انظر إليها , فناولني إياها فعاجلته بطعنة سريعة في نحره وأنا أقول : أنا الناحر والزاجر فسقط يتشحط بدمائه وهو يقول أضعت عليّ فرصة تقسيم الزميلة , وصاح صاحب القبر مرعوبا فقلت اسكت وإلاّ أقتلك . قال : لن تستطيع لأنني ميت . ركلته بقدمي وقذفت بالشبرية على جثّة الحفيد وخرجت .
تمددت بقبري , وأشعلت غليوني , وأخذت منه نفسا عميقا , وبدأت ثورتي تهدأ , ثمّ عدت لنفسي , وبدأت أفكر فيما فعلت , فادركت الخطأ الفادح الذي ارتكبته بحقّ هذا الحفيد المسكين فانهمرت دموعي , وأكل فؤادي الندم ....... أتدرون لماذا ؟؟ لأنّ الواقع الذي حدثني عنه حفيدي السابع , والذي أثار غضبي وثورتي , ودفعني لسفك دمه قبل أن يظفر بحبيبته ذات الشامة _ إنّ ذلك الواقع المشؤوم هو ما نؤسس له نحن اليوم , أتدرون كيف ؟ أترك الجواب للقرّاء ولكنني أودّ أن أشير إلى أنّ الدارس لماضي العرب وحاضرهم يكتشف أنهم يعانون من "نرجسية" رهيبة حالت دون تشكل مجتمع مدني ذي مؤسسات راسخة , ونتيجة لهذا المرض النفسي فإن العربي يتخذ الفكر لباسا وزينة ولا مكان له في عقله ووجدانه ، فلا يتخذه رسالة حياة أو قضية يناضل من أجلها إلا إذا أقتنع أنه يخدم طموحه الشخصي ومصالحه الخاصة ؛ فكانت محاولات إنهاض "النرجسيين" هي ضرب من العبث ؛ مما أضطر الواقعيين لأن يعترفوا بأنه لن يصلح الشرق إلا "مستبد عادل" ...... حاولت أن أكون واقعيا مثلهم إلا أنني لم أستطع فبقيت أعبث مع العابثين إيمانا منّي بقدرة الإنسان على إصلاح نفسه وتغييرها , وأنّ الله ما أنزل من داء إلاّ وأنزل له الدواء , فالمطلوب من بني الإنسان البحث لاكتشاف الدواء ومعرفة طريقة استخدامه .



تعليقات القراء

هذلول
.........
رد من المحرر:
نعتذر.......
29-12-2011 10:46 AM
هذلول
الكاتب و المبدع الكريم

السيد فلاح بني صخر

لقد علقت بعده صفحات و النتيجه كما ترى اعلاه

ارسل بريدك الالكتروني لاعادة ارسال التعليق عسى ان يكون مساعدا لفك طلاسم تصرفات هذا الشعب الكريم

او صفحتك على الفيس بوك

مع احترامي
29-12-2011 12:18 PM
فلاح أديهم المسلم
أخي هذلول بريدي هو......وصفحة الفيس المسلمي الصخري اضطررت لهذا الاسم لأن الفيس رفض قبول اسمي وشكرا
29-12-2011 01:02 PM
هذلول
الكريم و المبدع

فلاح أديهم المسلم

وصلت الرساله

مع عظيم احترامي
29-12-2011 01:52 PM

أكتب تعليقا

تنويه :
تتم مراجعة كافة التعليقات ،وتنشر في حال الموافقة عليها فقط.
ويحتفظ موقع وكالة جراسا الاخبارية بحق حذف أي تعليق في أي وقت ،ولأي سبب كان،ولن ينشر أي تعليق يتضمن اساءة أوخروجا عن الموضوع المطروح ،او ان يتضمن اسماء اية شخصيات او يتناول اثارة للنعرات الطائفية والمذهبية او العنصرية آملين التقيد بمستوى راقي بالتعليقات حيث انها تعبر عن مدى تقدم وثقافة زوار موقع وكالة جراسا الاخبارية علما ان التعليقات تعبر عن أصحابها فقط ولا تعبر عن رأي الموقع والقائمين عليه.

- يمكنك تسجيل اسمك المستعار الخاص بك لإستخدامه في تعليقاتك داخل الموقع
الاسم :
البريد الالكتروني :
اظهار البريد الالكتروني
التعليق :
رمز التحقق : تحديث الرمز
أكتب الرمز :

إقرأ أيضاً

رياضة وشباب

محليات