بعد عام•• الربيع العربي في الميزان


مر عام على اندلاع ثورات الربيع العربي التي انطلقت شرارتها الاولى من تونس الخضراء، حينما اعطى الشاب الكادح محمد بوعزيزي جسده للحريق، واختار الموت الزؤام بديلاً لحياة لا تساوي ثمن عربة الخضار التي كان يعتاش من ريعها، وتعرض بسببها الى صفعة مهينة من شرطية غبية لم تكن تعلم وهي تهوي بكفها على وجهه، انها قد مهدت لتهاوي نظام بن علي باكمله•
لم يكن هذا البوعزيزي الكادح والمكافح يحلم ان يتحول فعله الملتهب الى "قوة الهام" تجتاح الشباب العربي من المحيط الى الخليج، وان يتحول جسده المحترق الى "صاعق تفجير" يشعل الحرائق الثورية لامد مازال مرشحاً للاستمرار، وان يتحول اسمه المبني للمجهول الى "اسم علم" تسير به الركبان ووسائل الاعلام في كل انحاء الارض، ويفسح له التاريخ مكاناً مرموقاً الى جانب اعلام الامة العربية، وكبار رموز الحرية ودعاة العدالة الاجتماعية•
مات بوعزيزي دفاعاً عن حقه وحق الفقراء في لقمة الخبز والعيش الكريم، ولم يمت ابتغاء وجه الليبرالية والثورات البرتقالية، ولم يكن من شباب الفيس بوك، وتمكين المرأة، والتمويل الاجنبي، والاستقواء بحلف الناتو ومشيخات الرجعية النفطية، كما ان نجاح شرارته في حرق السهل العربي كله، لم يكن بتأثير فضائيات الفتنة والتضليل الخليجية، بل لان البيئة العربية كانت اكثر من جاهزة للتفاعل مع مثل هذا الحدث الدرامي، بعدما اوغل الحكام العرب في خطيئة الفساد والاستبداد والاستكبار والاستهانة بالشعوب حد الالغاء•
بعد عام من عمر هذا الربيع العربي، آن لنا ان نغادر الحالة الرومانسية التي عشناها على ايقاع الانفعال الثوري الجميل، وآن لنا ان نباشر قراءة دفتر الاحوال العربية الراهنة بعيون مفتوحة وعقول ناقدة ومقاييس واقعية، فليس كل ما يلمع ذهباً، وليس كل من ادعى الثورية ثورياً، وليس كل من رفع راية الحرية تحررياً، خصوصاً بعدما اختلط الحابل بالنابل، واتخذ المنافق هيئة الصادق، وتحول حلف الناتو الى رافعة ثورية، وتصدر مشايخ الدويلات النفطية والجماعات السلفية صفوف القوى الطليعية والتقدمية والراديكالية•
من خلال القراءة الرشيدة للانتفاضات العربية سوف نميز بين الغث والثمين، وبين المفتعل والاصيل، وبين المصنوع في الخارج والنابع من الداخل، وبين الحق الذي يتوخى الحق والحقيقة، والحق الذي يراد به باطل، وبين الحراك الشعبي الهادف الى التغيير والتطوير والتقدم، والحراك الذي يراد به الفوضى والتخريب والنكوص الى الخلف•• ذلك لان هذه الثورات ليست من صنف المثلثات او المربعات المتساوية الاضلاع، بل هي مختلفة كل الاختلاف في الكثير من اسبابها وغاياتها ونواظمها ومحركاتها، والقوى التي تقف خلفها، والانظمة التي تستهدفها•
لقد دخل الكثير من القوى والعواصم والاجهزة والاموال والاعلاميات على خط هذه الثورات والتحركات الاحتجاجية، بغية اختطافها واخراجها من فطرتها الوطنية، وطبيعتها التحررية، واهدافها الاستقلالية، ومن ثم ادخالها في متاهات عبثية، وتجييرها لحساب اجندات رجعية واستعمارية مشبوهة، وتوظيفها بعكس حقيقة مراميها ومصالح جمهورها واقطارها، عبر تحويلها الى "حصان طروادة" او "طابور خامس" مهمته التفجير بدل التغيير، والتخريب عوض الاصلاح والتصويب•
وليس من شك ان الحريصين فقط على نقاء هذه الثورات والانتفاضات الشعبية الباسلة وطهارتها ووطنيتها وديمومتها وسلامة توجهاتها، هم الذين يرفعون الصوت عالياً بالدعوة الى ضرورة قراءتها قراءة عقلانية وواقعية هادئة، بعد مرور عام على انطلاقتها، حتى لا تصب آخر المطاف في صالح اعداء العرب والعروبة، وتغدو عنصر هدم وتقسيم لا عامل بناء وتوحيد، وتصبح مثل "المُنبتّ الذي لا ارضاً قطع، ولا ظهراً ابقى"•
ولعل القراءة النقدية المتأنية لواقع هذه الثورات والحراكات الشعبية سوف تكشف لنا بجلاء جملة من الحقائق والشواهد والمعطيات، نجمل ابرزها في هذا المقال، وسنعود الى البقية في وقت قريب••
1 - لقد بدأت هذه الانتفاضات عفوية وانفعالية وارتجالية مؤسسة على رد الفعل على تسلط الحكام العرب واستبدادهم وفسادهم الذي جاوز كل حد•• بدأت بلا خطة او برنامج او قيادة واضحة ومحددة، وبقدر ما شكلت هذه البداية ومضة عبقرية، ومفاجأة الامة لذاتها، بقدر ما مثلت نقطة ضعف، او "ثغرة دفر سوار" تسلل منها الكثير من اعداء الامة، وركاب الموجة، ومختطفي الثورات الذين انتدبوا انفسهم لقيادة الركب الثوري العربي، وتوجيه مساراته، ووضع برامجه ومخططاته، وحرفه بالتالي عن انبل اهدافه وطموحاته، كلما امكن لهم ذلك، واستطاعوا الى ذلك سبيلاً•
2- منذ لحظة البداية، كان جمهور هذه الثورات والانتفاضات يعرف بدقة ما يرفض، او ما لا يريد•• فهو يرفض انظمة القمع والفساد والاستكبار، ولا يريد استمرار هذه الوضعية القهرية والحالة الذليلة الى الابد، ولكنه بالمقابل لم يكن يعرف بالضبط ما يريد، فالرغبات والشعارات الطنانة بخصوص الخبز والحرية والديموقراطية لا تعني الكثير في موازين العمل السياسي، مادامت القيادات المحنكة والبرامج الواضحة والمحددة غائبة عن هذا الحراك الشعبي الهائل والمتعدد الولاءات والفلسفات والتوجهات•• ولعل هذا ما دفع القوى المعادية للدخول على الخط، ومحاولة تنصيب قيادات مشبوهة، ورسم خطط وبرامج مسمومة•
3- لقد اندلعت هذه الثورات ضد انظمة التعسف والتخلف والفساد، وليس ضد الدول التي تحكمها هذه الانظمة، فشتان بين الدولة بما هي شعب ووطن وسيادة لا يجوز العبث بها، وبين النظام الحاكم بما هو مجرد سلطة آمره يمكن اسقاطها وانتزاع سلطاتها في اي وقت•• ولكن القوى المعادية التي دخلت على خط هذه الثورات عمدت، بكل همة واصرار، الى مماهاة النظام بالدولة، وحاولت دفع الجمهور العربي الثوري الى هدم الدولة، وتقويض اركانها، وتقسيم سكانها، تحت شعار التغيير، وبدعوى اسقاط النظام الحاكم•
4 - المفروض ان الشعوب العربية اكثر عداءً للدول الاستعمارية والكيان الصهيوني من انظمة الحكم التي كثيراً ما نأخذ عليها تبعيتها الذليلة للعواصم الاوروبية والامريكية،وقد كان من المأمول والمعقول ان تجأر ثورات الربيع العربي بالويل والثبور لقوى الصهيونية والاستعمار والتجزئة، الى جانب الجأر بالشجب والتنديد بالانظمة العربية المستبدة•• غير ان دخول القوى المعادية على الخط ادى الى حصر حالة الغضب الثوري داخل البيت المحلي، وقصرها على القضايا الذاتية والهموم الداخلية، بعيداً عن العمق الوطني والقومي والوحدوي، بل وبالضد منها حيث رأينا كيف تحالف "ثوار" ليبيا مع حلف الناتو، وكيف يتحالف "ثوار" سوريا الآن مع امريكا وتركيا وامبراطورية قطر•
5 - لقد شكل الشباب والطلاب والكادحون غير المؤطرين غالباً في هيئات وجماعات حزبية ونقابية واصولية منظمة، طليعة الثورات العربية واداتها ووقودها، وقد استهدفوا من وراء هذه الثورات، بما هي كذلك، اشاعة الحرية والتقدم والعدل الاجتماعي الذي يوفر الخبز للجميع•• غير ان دخول القوى الرجعية والسلفية المتحالفة مجدداً مع المراكز الامبريالية، سرعان ما ادى الى سرقة هذه الثورات، واعتلاء موجتها، ومسخ تقدميتها، من خلال العودة بالامة الى الماضي بدل التقدم نحو المستقبل، واستئثار الجماعات الاصولية والسلفية - على البارد المستريح - بصناديق الاقتراع، بدل القوى الشبابية والشعبية التي دفعت الدم، وفجرت صواعق الثورات، ولكنها خرجت من المولد بلا حمص !!



تعليقات القراء

لا يوجد تعليقات


أكتب تعليقا

تنويه :
تتم مراجعة كافة التعليقات ،وتنشر في حال الموافقة عليها فقط.
ويحتفظ موقع وكالة جراسا الاخبارية بحق حذف أي تعليق في أي وقت ،ولأي سبب كان،ولن ينشر أي تعليق يتضمن اساءة أوخروجا عن الموضوع المطروح ،او ان يتضمن اسماء اية شخصيات او يتناول اثارة للنعرات الطائفية والمذهبية او العنصرية آملين التقيد بمستوى راقي بالتعليقات حيث انها تعبر عن مدى تقدم وثقافة زوار موقع وكالة جراسا الاخبارية علما ان التعليقات تعبر عن أصحابها فقط ولا تعبر عن رأي الموقع والقائمين عليه.

- يمكنك تسجيل اسمك المستعار الخاص بك لإستخدامه في تعليقاتك داخل الموقع
الاسم :
البريد الالكتروني :
اظهار البريد الالكتروني
التعليق :
رمز التحقق : تحديث الرمز
أكتب الرمز :

إقرأ أيضاً

رياضة وشباب

محليات