وصفي التل .. القائد والزعيم الذي فقدناه


قبل أيام مرت الذكرى الأربعون لاغتيال الشهيد وصفي التل ، ومن واجبنا وحق الشهيد علينا أن نستذكر بعض صفاته ومواقفه وشيء من تاريخه ، لعلها تدفع الآخرين من القادة والزعماء لتقليده والاقتداء بسيرته وسلوكه .
كان يرحمه الله مثال القائد المخلص لامته ووطنه ، حارب في فلسطين مع جيش الإنقاذ في محاولة مخلصة لتحريرها من الغزو الإسرائيلي والتآمر الدولي ، بعد أن عجزت الدول العربية الدفاع عن فلسطين وما بها من شعب ومقدسات ، وبعد تجربته القتالية على الأرض ودراسة التاريخ خلص إلى أن تحرير فلسطين لن يتم عن طريق الدول العربية المخترقة ، وإنما يتم هذا التحرير بحرب فدائية شعبية وعلى الأرض الفلسطينية ..
والغريب أن يقتل وصفي ويستشهد على يد من كان يعمل لمصلحتهم ويسعى لتحرير أرضهم ووطنهم ، بأيد فلسطينية وبمؤامرة عربية ، ساهم بها النظام المصري في ذلك الوقت ، كما ساهم بها نظام المقبور القذافي الذي لم يسلم من تآمره أي نظام عربي خلال تاريخه الملوث الذي امتد أكثر من 43 عاما !..

كان وصفي صادقا مع نفسه وصادقا مع مواطنيه ، مثالا يحتذي للقائد المخلص النظيف والقدوة الحسنة والنموذج الذي لا يبارى في النزاهة والشفافية والسلوك المستقيم ..
كان مزارعا وفلاحا و حراثا يفلح الأرض بنفسه ليكون قدوة للآخرين ، ويحطم عقدة العيب التي كانت تسيطر على الكثيرين و تعيق عمل الرجال في أرضهم وتعدم إنتاجهم !..
عاش فقيرا ، ليس من أصحاب الملايين ، ومات فقيرا مدينا للإقراض الزراعي بعشرات الألوف!..استشهد قبل أن يرى الاستغلال البشع للوظيفة من أصحاب مراكز المسئولية ، استشهد قبل أن يرى الإثراء غير المشروع الذي مارسه المسئولين في السنوات الاخيرة!.. استشهد قبل أن يرى الفساد مستشريا في أجهزة الدولة وأموالها نهبا لكل منحرف !.. والمحسوبية والفزعات الفردية والعشائرية التي تحمي الفساد تنتشر في كل موقع !..
استشهد قبل أن يرى اضمحلال الدولة وقلة هيبتها !.. وتعدي الناس على بعضهم وعلى الأمن والنظام !.. وإذا فُُقد الأمن والنظام في بلد أصيب المواطن بالذعر وفقد الاستقرار ، وارتد ليستقوى بعشيرته وعائلته عندما غابت السلطة عن تامين الحماية له..
وإذا فُقد الأمن هرب رأس المال وخرب الاقتصاد وانتشرت البطالة وعم الفقر وكثرت الجرائم من سرقة ونصب واحتيال!.. واعتقادي لو كان وصفي حيا الآن لمات قهرا مما يرى من ضعف وانحراف وتسلط وفساد !..

ومن الوفاء لذكرى الراحل العظيم أن نذكر بعضا مما أرسى من مبادئ وأفكار كانت تقدمية في ذلك العصر، ولا تزال مطمحا للأجيال الحالية والقادمة .
ففي بداية الستينات وعندما أصبح رئيسا للوزراء رغب في أن يصنع التقدم والتغيير في الدولة والمجتمع ، وكانت أجهزة الدولة تعتمد على الموظفين القدماء بمؤهلات بسيطة لا ترقى إلى مستوى الطموح الذي يسعى إلى تحقيقه ، فتبنى خريجي الجامعات للعمل في جميع أجهزة الدولة وأصبح لهم الأولوية في التعيين باعتبارهم يملكون الكفاءة والمقدرة والتجديد و مفاتيح التغيير نحو الأفضل ، لنقل الأردن إلى مستوى متقدم في الإدارة والسياسة والاقتصاد ..
وكذلك كان ، فقد حل الجامعيون أولا بأول مكان الموظفين التقليديين ، وكانت تدور بين هؤلاء وأولئك معركة صامتة يُتهم فيها الجامعيون بأنهم أغرار بلا خبرة ، ويُتهم بها التقليديون بأنهم روتينيون بلا علم لا يتقنون عملهم ولا يجددون أو يبدعون ، سيما إذا تغيرت أوضاع مكاتبهم التي اعتادوا عليها !..
كان يرحمه الله نظيفا بذمته المالية ، لا يقبل الفساد لنفسه ولا في أجهزة الدولة ، فطهر أجهزة الدولة من الفاسدين،إذ كان يريد دولة قوية في إدارتها المدنية و قوتها العسكرية و اقتصادها المحلي المنتج ، دولة قوية في أخلاق موظفيها ومسئوليها ، يدفعهم حب الوطن والصالح العام للعمل المخلص النظيف البناء .

في حقل الإدارة المحلية كانت له نظرة ثاقبة للمستقبل ، فقد اتجه في التشريعات الجديدة إلى الأخذ بالنظام اللامركزي ، فقد أحدثت المحافظات لأول مرة في عهده ، عندما قسمت الأردن إلى أربع محافظات :عمان ويتبعها الزرقاء والسلط ، واربد ويتبعها عجلون وجرش والمفرق ، والكرك ويتبعها الطفيلة ، ومعان ويتبعها العقبة .
ولم يرد لهذه المحافظات أن تكون هياكل شكلية بدون صلاحيات ،وإنما أراد لها أن تكون أدوات تنمية فاعلة في مناطقها ، فاصدر نظام التشكيلات الإدارية رقم 1 لسنة 1966 ، وفي المادة الرابعة من هذا النظام (الجديد) فقد اتجه نحو اللامركزية في الإدارة المحلية ، و نص على أن للمحافظة شخصية معنوية ، لها موازنة مستقلة إيرادها من مخصصاتها في موازنة الدولة التي تحول إليها بعد تصديق الموازنة العامة، وما تفرضه المحافظة وتجبيه من ضرائب محلية ورسوم ومن الهبات والتبرعات ، ويكون المحافظ هو آمرا الصرف ومدير المالية في المحافظة هو آمر الدفع .

ولكم أن تتصوروا ما حدث لهذا التوجه بعد ثلاثين أو أربعين عاما على بداية غرسه ، هل نما وترعرع هذا التوجه واستطال وأينع ؟.. أم تخلفنا و تم التراجع عنه وقضي عليه ؟!..
والمؤسف أيها الأخوة بدلا من التقدم والتطوير في هذا المجال تم التراجع عن هذا التوجه و السياسة والمبادئ الإصلاحية التقدمية !.. وألغت الدولة في عام 1995ما ورد بذلك النظام ، وسُلب من المحافظة شخصيتها المعنوية وموازنتها المستقلة ، وحرمت من تحويل المخصصات المرصودة لها في الموازنة العامة ، كما حرمت من أن تفرض الرسوم أو تقترض ولا أن ترفع عليها الدعاوي أو تقام منها الدعاوي !.. وهكذا نزعم أننا نتقدم .. ولكننا نتراجع إلى الوراء !..

والتوجه نحو اللامركزية هو ما طلبه وأمر به جلالة الملك عبد الله الثاني من حكومته في عام 2..5 وطلب منها الاتجاه نحو الأقاليم ، وشكل لذلك لجنة ملكية أوصت بتقسيم الأردن إلى أقاليم ثلاث لم ترضي الناس وأثارت مخاوفهم وكنت واحدا من هؤلاء ، عندما استجاب جلالة الملك للتعديلات المطلوبة واعتبر كل محافظة من المحافظات إقليما مستقلا بذاته ، مع مجالس محلية منتخبة للمحافظات برئيس منتخب أيضا تقف إلى جانب المجالس التنفيذية برئاسة المحافظ ، ولكن للأسف فقد ذهبت هذه التوصيات والتوجيهات والدراسات أدراج الرياح ولم تنفذ الحكومات المتعاقبة أي منها،وكأنها تقول للملك : ( وجه كما تريد ..ونحن نفعل ما نريد !.. ) وبقينا كما نحن نشكو من المركزية الشديدة التركيز التي لا تصلح للحياة في هذه الأيام !!..
رحمك الله يا وصفي :
إذ لم تكن تعطل يوم السبت في دوائر الدولة ووزاراتها ،حرصا منك على العمل وزيادة الإنتاجية والانجاز ، لا بل فرضت العودة إلى الدوام والعمل لمدة ساعتين يوميا بعد الظهر لجميع الدوائر والمؤسسات ، كنت تكسب الوقت وكأنك تشعر أن أيامك معدودة وان أجلك قريب ، وعليك أن تكسب الوقت في العمل والانجاز لا لشخصك وإنما لأهلك وشعبك ومواطنيك..
كنت تنجز المشاريع للوطن ، و تصنع سيرة حميدة وقدوة حسنة للقادة والمسئولين !..

وفي عام 7. عندما سيطرت الغوغاء على الشارع وأسأت للمواطنين واعتدت على جنود القوات المسلحة ، وضاع الأمن وفُقد النظام ،وتحولت شوارع عمان إلى عصابات تسعى إلى تغيير النظام ، لم نجد إلا وصفي يعيد الأمور إلى نصابها ويفرض هيبة الدولة ويعيد الاستقرار والهدوء إلى نفوس المواطنين ..
وخلال فترة رئاسته احتضن القوات المسلحة وسخرها للعمل في المشاريع العامة المنتجة سيما سلاح الهندسة ، في استخرج وأعمار الآثار ورفع الأعمدة سيما في جرش ، وتدريب الطلبة على الأعمال العامة في معسكرات الحسين ، وغرس المواقع الجرداء بالأشجار الحرجية والتي أصبحت غابات غناء بعد حين من الزمن..

رحمك الله يا وصفي : فنحن بحاجة إليك اليوم ليقتدي بسلوكك القادة والزعماء ، بحاجة إليك لترمم علاقة المواطن بالدولة وتعيد الثقة المفقودة بينهما ، بحاجة إليك لتعيد هيبة الدولة وتفرض الأمن والنظام وتحمي الضعفاء من تغول الأقوياء ، نحن بحاجة إليك لتحاسب المرتشين وتضع حدا للفساد الذي ساد واستشرى ، بحاجة إليك لتحمي الأموال العامة من النهب ، ومشاريع الدولة العامة من السرقة !..
بحاجة إليك لاسترجاع الأموال المنهوبة من جراء الخصخصة ، ولتحاسب الذين اثروا بالملايين والمليارات على حساب الشعب ، نهبوا خيرات الوطن وأنكروا فضله وغادروه عندما جد الجد للحاق بأرصدتهم ،أو حزموا حقائبهم تمهيدا للرحيل!..

يا وصفي : كلما جد الجد نفتقد الرجال أصحاب القرار وأنت في طليعتهم ، نحن بحاجة إليك اليوم أو إلى صفاتك لتعيد التوازن إلى سلطات الدولة حتى لا تعتدي ولا تتغول سلطة على أخرى ،وحتى تعرف كل سلطة حدودها وتلتزم بها ولا تتجاوزها !..وحتى لا يطمع من في قلبه مرض !..
كنت بدرا سطع ثم اغتيل بخسة وجبن !.. ونحن نعيش في هذه الأيام بليل دامس نتمنى أن نجد له نهاية وآخر !.. وفي الليلة الظلماء يفتقد البدر !..

وصفي : يرحمك الله رحمة واسعة ، وأسكنك فسيح جناته ، وإنا لله وإنا إليه راجعون، ولا حول ولا قوة إلا بالله .
حسن المومني





تعليقات القراء

هذلول
(وصفي : يرحمك الله رحمة واسعة ، وأسكنك فسيح جناته ، وإنا لله وإنا إليه راجعون، ولا حول ولا قوة إلا بالله . )

26-12-2011 02:44 PM
ألوذ بصمتي
أستاذي العزيز..
الوطن بحاجة ماسة إلى من هم مثلك ومثل الشهيد وصفي التل وإلى هزاع المجالي... الأردن كدولة و حكومة بأمس الحاجة إلى رجال رجال!!! وليس إلى ذكور فقط!!!رجل مسؤول وصادق ونظيف!!! همه وطنة وشعبة واستقرار بلاده، وليس حسابه البنكي المكدس بأموال ليس من حقه سرقها من عرق الأشقياء وجهدهم المضني!!
سلمت وسلمت يداك وقلبك !! أتحفنا بمقالاتك دوما ولاتبخل علينا بدررك رجاءاً !!
مع جزيل الشكر والعرفان لمعاليك
26-12-2011 03:45 PM

أكتب تعليقا

تنويه :
تتم مراجعة كافة التعليقات ،وتنشر في حال الموافقة عليها فقط.
ويحتفظ موقع وكالة جراسا الاخبارية بحق حذف أي تعليق في أي وقت ،ولأي سبب كان،ولن ينشر أي تعليق يتضمن اساءة أوخروجا عن الموضوع المطروح ،او ان يتضمن اسماء اية شخصيات او يتناول اثارة للنعرات الطائفية والمذهبية او العنصرية آملين التقيد بمستوى راقي بالتعليقات حيث انها تعبر عن مدى تقدم وثقافة زوار موقع وكالة جراسا الاخبارية علما ان التعليقات تعبر عن أصحابها فقط ولا تعبر عن رأي الموقع والقائمين عليه.

- يمكنك تسجيل اسمك المستعار الخاص بك لإستخدامه في تعليقاتك داخل الموقع
الاسم :
البريد الالكتروني :
اظهار البريد الالكتروني
التعليق :
رمز التحقق : تحديث الرمز
أكتب الرمز :

إقرأ أيضاً

رياضة وشباب

محليات