وَدَاعٌ .. وَشَدُّ رِحَالٍ


أزفُّ إليكم نبأ رحيلَ هذا العام ، فها هو يطوي بساطه ، ويشدُّ رِحاله ، ويلفظُ أنفاسه ، يودِّعُنا إلى الدَّار الآخرة ، وخزائنُ بَعْضِنا َمَلأى بما له من أعمالِ الخير ، وخزائن بعضنا ملأى بما له من أعمال الشر . قال سيدُنا عليّ – رضي الله عنه - : ( ارتحلتْ الدنيا مدبرةً ، وارتحلتْ الآخرةُ مقبلةً ، ولكلٍ منها بنون ، فكونوا أبناءَ الآخرة ، ولا تكونوا أبناءَ الدنيا ، فإنَّ اليومَ عملٌ ولا حساب ، وغدًا حسابٌ ولا عمل)
فلنعملْ للدنيا بقدر بقائنا فيها ، ولنعمل للآخرة بقدر بقائنا فيها ، فالدنيا دارُ عبور ، وجسرُ مرور ، والآخرةُ هي دار القرار . وصدق الله العظيم إذ يقول : (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَلْتَنْظُرْ نَفْسٌ مَا قَدَّمَتْ لِغَدٍ وَاتَّقُوا اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ خَبِيرٌ بِمَا تعملون)
وصدق رسول الله – صلى الله عليه وسلم – إذ يقول : ( وكلُّ النَّاسِ يغْدو فبائعٌ نفسُه فمعتِقُها أو مُوبِقُها ) .
وها نحنُ في آخرِ جمعةٍ من هذا العامِ ، وقدْ ذهبَ عامُكم شاهدًا لكم ، أو عليكم ، ولن تُفَتَح صَحيْفَتِه إلى يومِ القيامةِ ، وستبدؤن بعد أيامٍ قلائلَ عامًا جديدًا , فكمْ شَقِيَ في العام الماضي مِنْ أناسٍ ، وكمْ سَعِدَ فيه من آخرين ، كمْ من طفلٍ فيه يُتِّم ، وكمْ من امرأةٍ قد ترمَّلتْ وكمْ متأهلٍ فيه قد تزوج ، وكمْ منْ مريضٍ قومٍ قد تعافى ، وسليمِ قومٍ قد توارى ، وكمْ من حبيبٍ فيه فارقنا ، وكم اختبارٍ وبلاءٍ فيهِ واجهنا ، وكمْ من سيئاتٍ فيه اجترحنا ، وكم من عزيزٍ فيه أمسى ذليلاًّ ، وكمْ من غنيًّ أضحى فقيرًا ، ولكنْ أينَ أين المعتبرون ؟!
وهكذا حال الدنيا ، إذا حَلَتْ أَوحَلَت ، وإذا كَسَتْ أوكَسَتْ ، وإذا جَفَتْ أوجَفَتْ ، وإذا أينَعَتْ نَعَتْ ، وإذا أوجَلَتْ جَلَتْ ، وكمْ مِنْ قبورٍ تُبْنَى وما تُبْنَا ... وكمْ مِنْ مَريضٍ عُدْنا وما عُدْنَا ، وكمْ مِن ملكٍ رُفِعَتْ له علامات ، فلما عَلا مَـــات، عن ابن عمر – رضي الله عنهما – قالَ : ( أخذَ رسولُ اللهِ – صلَّى اللهُ عليهِ وسلَّمَ – بمنكبي وقال : ( كُنْ في الدُنيا غَريبًا أو عابرَ سبيلٍ ) وكان ابنُ عمرَ – رضي الله عنهُما – يقول : ( إذا أمسيْتَ فلا تنتظر الصباحَ ، وإذا أصبحت فلا تنتظر المساء ، وخذ من صحتك لمرضك ، ومن حياتك لموتك ) أخرجه البخاري . وعن ابن عباس - رضي الله عنهما - قال : حدثني عمرُ بنُ الخطاب قال: دخلت على رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وهو على حصير ، قال: فجلست فإذا عليه إزاره ، وليس عليه غيره ، وإذا الحصيرُ قد أثر في جنبه ، وإذا أنا بقبضةٍ من شعير نحو الصاع ، وقرظ في ناحية في الغرفة ، وإذا إهابٌ معلَّق ، فابتدرتْ عينايَّ، فقال: ما يُبْكِيكَ يا ابن الخطاب ، فقال : يا نبي الله ، وما لي لا أبكي وهذا الحصير قد أثر في جنبك ، وهذه خزانتك لا أرى فيها إلا ما أرى ! وذاك كسرى وقيصر في الثمار والأنهار، وأنت نبي الله وصفوته وهذه خزانتك ، قال : يا ابن الخطاب ؛ أما ترضى أن تكون لنا الآخرة ولهم الدنيا ؟ قلت: بلى . رواه ابن ماجه بإسناد صحيح والحاكم وقال: صحيح على شرط مسلم.
ما أحوجنا أيها الأخوة والأخوات لمثل هذه الوصايا ، إننا نعيش في عصر طغت فيه الماديات والشهوات ، وانشغل فيه الناس عن لقاء رب الأرض والسموات .
فكثير من الناس الآن يذكر بقول الله فلا يتذكر ، ويذكَّرُ بقول رسول الله – صلى الله عليه وسلم – فلا يتحركُ قلبُه ، وكأنَّ القلوبَ قد تحوَّلت إلى حجارةٍ ، وصدق الله العظيم إذ يقول:( ثمَّ قَسَتْ قُلُوُبُكُمْ فَهِي كالحِجَارَةِ أو أشَدُّ قَسْوَةً )
إنَّ كثيرًا من الناس من لا يدري أبدأ العام أم انتهى ، وإنْ دَرَى لا يلقي لذلك بالاً ، وما دَرَى ذلك المِسْكِين ، أنَّ هذا العامَ وغيرَه مِن الأعوامِ محسوبةٌ من عُمُرِه ، وأنَّه مسؤولٌ عن ذلك بين يديِّ اللهِ يومِ القيامة .
قال رسول الله – صلى الله عليه وسلم - : (عَنِ ابْنِ مَسْعُودٍ ، عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ , قَالَ : " لا تَزُولُ قَدَمَا الْعَبْدِ يَوْمَ الْقِيَامَةِ حَتَّى يُسْأَلَ عَنْ أَرْبَعٍ : عَنْ عُمْرِهِ فِيمَا أَفْنَاهُ , وَعَنْ شَبَابِهِ فِيمَا أَبْلاهُ , وَعَنْ مَالِهِ مِنْ أَيْنَ اكْتَسَبَهُ وَفِيمَا أَنْفَقَهُ , وَعَنْ عِلْمِهِ مَاذَا عَمِلَ فِيهِ).
فالعمرُ هو البضاعة الحقيقيةُ ، وهو رأس المال ، فمن ضاعت بضاعتُه ، وانتهى رأس ماله دون أن يحقِّق الربحَ المنشود ، فهو من الخاسرين ، فهل حَسِبْتَ أخي وأختي في الله ، أنَّ هذا العمر وأنَّ هذه السنوات التي تمضي ونحن لا نشعر بها لن يسألنا الله عنها ، لا وألف لا ، تدبَّر قول الحق جل جلاله (أَفَحَسِبْتُمْ أَنَّمَا خَلَقْنَاكُمْ عَبَثاً وَأَنَّكُمْ إِلَيْنَا لا تُرْجَعُونَ )
ستسألُ عن كل لحظةٍ من عمرِك ، فيمَ أفنيت هذا العمر ؟ رُوي أنَّ سُفيانَ الثوري – رحمه الله – قال لأحد أصدقائه – جعفر بن سليمان - : ( هلُمَّ إلى المؤدبةِ رابعةَ العدويةِ – رحمها الله – فلَّما دخلوا فِنَاءَ الدَّارِ ، رفع سفيان يديه الى السماء ، وقال : " اللهم إني أسالك السلامة " - ليؤذن له بالدخول - ، فما كان من رابعةَ حينَ سمِعَتْ هذا الدعاءَ ، إلا أنْ بكت .. فتعجَّبَ سفيانُ من بكائها فسألها : ما يُبكيك يا رابعةُ ؟ فقالت : أنت السبب .. لقد عرضتَنِي للبكاءِ .. أمَا علمت يا سفيانُ : أنَّ السلامةَ من الدنيا ترك ما فيها .. فكيف وأنت متلطِّخٌ بها ؟ قال سفيان : وا حزناه .. فقالت رابعةُ : لا تكذبْ .. قلْ : وا قلَّةَ حُزْناه .. لو كنتَ محزونًا لما شغلتك الدنيا يا سفيان .. ثم قالت : تعظه : يا سفيانُ .. إنَّما أنت أيامٌ معدودةٌ .. فإذا ذهبَ يومٌ ذهب بعضك ، ويوشكُ أنْ يذهبَ البعضُ ، أن يذهبَ الكلُ وأنتَ تعلمُ فاعمل ).
وروي عن الحسن البصري – رحمه الله – أنه قال : ( ما مِن يومٌ تطلعُ فيه الشمسُ إلا وينادي بلسان الحالِ ويقولُ : ( يا ابنَ آدمَ أنا خلقٌ جديدٌ ، على عملك شهيد ، فاغتنمني فإني لا أعودُ إلى يومِ القيامةِ ) وقال أيضا : ( يا ابنَ آدمَ ، اليومَ ضيفُكَ ، والضيفُ مرتحلٌ، يحمدك أو يذمك ، وكذلك ليلتك ) وكان عبدُ الله بن مسعود – رضي الله عنه – يقول : ( واللهِ ما ندمتُ على شيءٍ ، كندمي على يومٍ طلَعَتْ شمسُه ، نقصَ فيه أجلي ولم يزدد عملي )
مِن سلفنا الصالح رجل يُقال له : توبة بن الصِّمة – رحمه الله - حَسِبَ سنَّه - عمره - ذات يوم، فإذا هو ابن ستين سنة، فحسب أيامها فإذا هي نحو "22" ألف يوم، فتَصوَّر هول الحساب والعقاب ، على ما اقترفه من ذنوب ، مع أنه كان مراقبا لربه على الدوام ، فصرخ وقال : يا ويلتي : ألقى ربي باثنين وعشرين ألف ذنب، إذا كنتُ قد أذنبت في كل يوم ذنبا واحدا، فكيف إذا كانت ذنوبي لا تحصى ولا تعد ؟ ثم تضرَّع وتأوَّه وقال : عمَرتُ دنيايَّ وخرَّبت أخراي ، وعصيت مولاي الوهَّاب، ثم لا أشتهي النقلة ، من دار العمران إلى دار الخراب ، وكيف أقدِم يوم الحساب، على الكتاب والعذاب ، بلا عمل ولا ثواب ، ثم من شدة تصوره لفظاعة الموقف بين يدي الله، شهَق شَهقَةً عظيمة، ووقع على الأرض مغشيًا عليه فحركة الناس، فإذا هو ميِّت - رحمه الله - وصدق الله العظيم إذ يقول : ( إنّا إليّْنا إيابَهم ثمَّ إنّا علينا حِسَابَهم ).
إنَّ أعجبَ الأشياءِ ، ممن يفرحُ ويُسرُّ بانقضاء عام من عمره ، ويقيم حفلا لذلك ويتبادلون الهدايا ، ويرقصون ويغنون ويضيئون الشموع بهذه المناسبة ، وهو ما يسمى " بعيد الميلاد " مقلدِّين فيه النصارى واليهود .
لا أدري كيف يفرح هؤلاء ؟ والموت من ورائهم ، والقبر من أمامهم ، والقيامة موعدهم ، وعلى جهنَّمَ طريقُهم ، وبين يدي ربهم موقفهم . لا أدري كيف يفرحُ في هذه الدنيا ؟ من يومه يهدم شهره ، وشهره يهدم سنته ، وسنته تهدم عمره ، كيف يفرح من عمره يقوده إلى أجله ، وحياته تقوده إلى مماته .
الليلُ والنهارُ يعملان في هدم الحياة ، ونقصِ الأعمارِ، وتقريبِ الآجالِ ، الليلُ يُسلمُنا إلى النهار، والنهارُ يُسلمنا إلى الليل ، ونحن بينهما على سفر، وكلاهما يُفضي بنا إلى الآخرة.. ومَن كان الليل والنهار مطيَّته فهو يُسار بهم وإن لم يَسِر ، وهو سائرٌ إلى الموتِ لا محالة .
سأل الفُضَيْل بن عياض رجلاً : كم عُمُرُكَ ؟ فقالَ له: ستون سنةً. قال له: إذن فأنت منذُ ستين عامًا ، وأنت تسيرُ إلى ربِّك ، فيوشك أنْ تبلغَ . فقال الرجلُ : إنَّا لله وإنَّا إليه راجعون. فقال له الفضيل : أتدري معنى ما تقول ؟ قال : نعم . أني لله عبد وأني إليه راجع ، قال : مَن علِم أنَّه لله عبدٌ، وأنَّه إليه راجع ، فليعلم أنَّه بين يدي الله موقوف، ومَن علم أنَّه موقوفٌ، فليعلمْ أنَّه مسئول ، ومَن عَلِمَ أنَّه مسئول ، فليُعدَّ للسؤالِ جوابًا . فقال الرجلُ : وما النجاةُ ؟ وما الحيلةُ ؟ فقال الفضيلُ : أن تُحسن فيما بقيَ ، يُغفر لك ما مضى، وإن لم تُحسن فيما بقىَ، أُخذت بما مضى وبما بقيَ .كلُّنا مسافرون.. ننتظرُ قطارَ الموت ، ننتظرُ هذا المركب ، ليوصلُنا إلى الله ، إنْ اليومَ أو غدًا أو بعدَ غدٍ . كلُّ يومٍ ينقضي من حياتنا ، إنَّما هو جزء من عمرنا ، يذهب وينطوي .
إنـــــا لنفرح بالأيـــــــام نقطعــــــــها كل يوم مضى يُدني من الأجل
فاعمل لنفسك قبل الموت مُجتهدًا إنما الربح والخسران في العمل
اللهم لا تجعل الدنيا أكبر همنا ولا مبلغ علمنا ولا الى النار مسيرنا واجعل الجنة دارنا وقرارنا يا رب العالمين


Montaser1956@hotmail.com



تعليقات القراء

لا يوجد تعليقات


أكتب تعليقا

تنويه :
تتم مراجعة كافة التعليقات ،وتنشر في حال الموافقة عليها فقط.
ويحتفظ موقع وكالة جراسا الاخبارية بحق حذف أي تعليق في أي وقت ،ولأي سبب كان،ولن ينشر أي تعليق يتضمن اساءة أوخروجا عن الموضوع المطروح ،او ان يتضمن اسماء اية شخصيات او يتناول اثارة للنعرات الطائفية والمذهبية او العنصرية آملين التقيد بمستوى راقي بالتعليقات حيث انها تعبر عن مدى تقدم وثقافة زوار موقع وكالة جراسا الاخبارية علما ان التعليقات تعبر عن أصحابها فقط ولا تعبر عن رأي الموقع والقائمين عليه.

- يمكنك تسجيل اسمك المستعار الخاص بك لإستخدامه في تعليقاتك داخل الموقع
الاسم :
البريد الالكتروني :
اظهار البريد الالكتروني
التعليق :
رمز التحقق : تحديث الرمز
أكتب الرمز :

إقرأ أيضاً

رياضة وشباب

محليات