هيكلة رواتب الموظفين


يبدو أن هذه الحكومة والتي يرأسها رجل قانون مشهود له بالكفاءة والنزاهة جادة في إعادة هيكلة رواتب الموظفين, حيث أن هيكلة الرواتب هي من إحدى الأدوات لتحقيق الإصلاح الإداري بالدولة قولاً وفعلاً, ولكن أتمنى أن تكون معالجة الحكومة لهذه الاختلالات والتشوهات في الحقوق الوظيفية للموظف والتي من بينها الراتب أن تكون معالجة ناجعة وعادلة وليست معالجة وقتية تعود مستقبلاً من جديد إلى مربعها الأول وفي هذا السياق لا بد من الإشارة إلى أن الراتب هو حق للموظف العامل وليس صدقة ومن أهم حقوقه المالية ويُدفع للشيخ لقاء ما قدَّم وادَّخرَ لدى الدولة في شبابه, وحقٌّ للطفل كقرضٍ في حاضره يُوفِيه في مستقبله وحق للعاجز يدفع بمقتضى صناديق التقاعد والتأمينات الاجتماعية.
إن من بين أهم واجبات الدولة أن يكون لديها معادلة وأسس معتمدة لتحديد الرواتب, ولا يتحقق ذلك إلا من خلال الارتقاء بمستوى الرواتب والحوافز والمكافآت الأخرى وتصرف للموظفين وفق أسس وضوابط محددة, بحيث يكون الراتب كافٍ للوفاء بالحاجات الضرورية المعيشية والذي هو ليس ضرورة فقط, بل هو مطلب إنساني لتوفير الطمأنينة والاستقرار للموظف بما ينعكس أثرة على أدائه لعمله, كما أنه مطلب إداري لتحقيق الوقاية للموظف وذلك بتحصينه من الانحرافات والأمراض الوظيفية, بالإضافة إلى فاعليته وتأثيره على الإصلاح الإداري والاجتماعي والاقتصادي.
إن تحديد الرواتب وإعادة النظر فيها يتطلب أن يكون وفق أسس ومعايير علمية واقعية وعملية وواضحة, لا يترتب عليها فوارق بين طوائف الموظفين المختلفة, إلا إذا كان ذلك يستند إلى تشريع ومؤسس على معايير مقنعة ومحققة العدالة للجميع, ولا تترك وفق أهواء ونزوات القائمين على إدارات الدولة المختلفة, كما يجب أن يتم تحديد الرواتب وفق سياسة حكومية واضحة عادلة وشفافة يشترك الموظفون في إعدادها والاستئناس أيضاً بآراء ومشورة المتخصصين في هذا المجال, وأن تكون هذه السياسة مرنة وقابلة للتعديل وفقاً للأوضاع الاقتصادية وحاجات الموظف المختلفة وقابلة للمراجعة من حين إلى آخر بما يضمن الدور الاجتماعي للراتب وتأثيره على فاعلية مرافق الدولة المختلفة وانعكاساته الإيجابية على الأسواق المحلية.
إن وضع سياسات واضحة المعالم للرواتب, يتوجب أن تكون مستمدة من الواقع, وأن تتم بعد إجراء الدراسات والمسوحات الميدانية الحاضرة والخطط المستقبلية اللازمة لكافة شرائح الموظفين وكوادرهم وطوائفهم المختلفة وقيمة الكلفة المعيشية للمواطن بما في ذلك نسبة التضخم والنمو الاقتصادي وغيرها, بحيث يستطيع الموظف تحقيق العيش الكريم, فيحافظ من خلال راتبه على نفسه وعلى أفراد أسرته المعيشية والصحية والتعليمية وغيرها وأن هذا من شانه إزالة التشوهات والاختلالات والاختلافات بين رواتب الموظفين بطوائفهم المختلفة, حيث يتوجب أن لا توجد هذه الفروقات إلا إذا كانت وظيفة الموظف ومسئولياتها ومخاطرها تختلف عن وظيفة أقرانه من الموظفين.
وتحقيقاً لذلك, فإن الإدارة الراشدة والحصيفة, لا محيص لها للنهوض بمسئولياتها وواجباتها إلا بالتدخل من وقت لآخر لرفع قيمة رواتب الموظفين وذلك تبعاً لارتفاع أو انخفاض القوة الشرائية للراتب وأن تعمل بكل ما أوتيت من قدرات لإشباع حاجات الموظف, تبعاً لازدياد المتطلبات المعيشية له ولأفراد أسرته, والعمل على تحقيق مكاسب أخرى لهم على كافة الصعد الصحية والتعليمية والاجتماعية وغيرها, مع الأخذ في عين الاعتبار إمكانيات الدولة وقدراتها المالية.
وبما أن الراتب يتوجب أن يكفي الموظف ليتمكن من خلاله وبه إشباع حاجاته ومتطلبات أفراد أسرته, فإنه يولد لديه الشعور بالثقة والاطمئنان ويعطيه مناعة وحصانة من انتقال الأمراض الوظيفية إليه, حيث أن زيادة الراتب ترفع الروح المعنوية والراحة النفسية للموظف ويولد لديه الأمن الوظيفي وعدم التفكير في أية انحرافات وظيفية ويتفرغ للقيام بأداء مهامه وواجباته الوظيفية بتفانٍ وإخلاص, وأن رضى الموظف بوظيفته يمتد أثره إلى أسرته والتي توفر له الراحة النفسية وينعكس إيجاباً على عمله, كما يتوجب على الإدارة عند وضع سياسة عامة للراتب التوفيق بين مصلحتين وهما مصلحة الوطن ومصلحة الموظف, وإن هاتين المصلحتين يحكمهما الأساس في تحديد الأحكام العامة للراتب, والتي تحدد طبقاً لحاجة الموظف وإمكانيات الدولة المالية ومفاهيمها السياسية وكفاءاتها, كما عليها أن تقوم برفع الرواتب عندما تتحسن ظروفها المالية.
أما هيكلة رواتب الموظفين في الدولة والذي هو على جانب كبير من الأهمية تلجأ الحكومة إليه لمعالجة الخلل في رواتب الموظفين العاملين والمتقاعدين, وأن هذا الأمر هو معقد وذلك لأسباب عديدة من بينها تعدد التشريعات الوظيفية وهي نظام الخدمة المدنية الصادر بالاستناد للمادة (120) من الدستور بالإضافة لأنظمة موظفي للهيئات والمؤسسات المستقلة والتي أنشئت بقوانين واشتملت على فروقات كبيرة بين حقوق الموظفين بطوائفهم المختلفة, بما في ذلك الفروقات بالرواتب والمكافآت والبدلات والحوافز, بالرغم من تماثل وتشابه مؤهلاتهم وخبراتهم العلمية, إذا ما تم مقارنة هذه الأنظمة مع بعضها البعض, وأن هذه الفروقات المبينة في أنظمة موظفي المؤسسات والهيئات المستقلة ناشئة في معظمها عن جهود فردية لأحد الوزراء الذي تتبعه مؤسسة أو هيئة معينة وإقناع مجلس الوزراء بإصدار سلم رواتب يميز موظفي الهيئة أو المؤسسة المرتبطة بالوزير عن باقي موظفي الدولة, وهذا ألقى ويلقي في ظلاله المزيد من المماحكات والمشاحنات بين الموظفين في مؤسسات الدولة المختلفة وذلك شعوراً منهم بالإخلال بمبدأ العدالة وعدم المساواة.
ويمكن القول أنه يتوجب عند توافر الإرادة لهيكلة الرواتب مراعاة ثلاثة عناصر وهي نوع الوظيفة ومسئولياتها والأعباء المعيشية والاحتياجات.
وترتيباً على ما تقدم, فإننا نرى أن الرواتب تحدد وفقاً للفئة والدرجة الوظيفية, كما يراعى عند تحديدها المؤهلات العلمية والخبرات العملية للوظيفة وطبيعة وظيفته ومسئولياتها وأهميتها ودرجة خطورتها, ويتوجب أيضاً أن تراعى العدالة في تحديد المرتبات الخاصة بكل مستوى وظيفي, فيتم تحديد المرتبات على أساس المسئولية الوظيفية وواجباتها ومستوى صعوبتها ومخاطرها, بحيث تتساوى المرتبات عند تساوي هذه العوامل, كما يتوجب على المشرع عند تحديد الرواتب, أن يتم ذلك بعدالة وعدم التمييز بين الموظفين الذين يعملون في بالوزارات وبين الموظفين الذين يعملون المؤسسات والهيئات المستقلة, إلا إذا توافرت أسباب مبررة لذلك, كما يتعين عليها تفادي وجود فوارق شاسعة بين رواتب موظفي القطاع العام والقطاع الخاص, وفي حال وجود هذا الفارق, فإنه سيؤدي إلى إحباط الموظفين لشعورهم في عدم المساواة مع زملائهم وانتقال عدد كبير منهم للعمل في القطاع الخاص أو العمل في الخارج, مما ينجم عنه مشاكل واختلالات في مرافق الدولة المختلفة.
وعلاوة على ما تقدم, فإن إعادة النظر في رواتب الموظفين بالدولة والذي يمثل مشكلة مزمنة ومستمرة تؤرق الموظف والحكومة على حد سواء, فيجب أن يستند إلى حلول تسبقها دراسة متأنية وواقعية, وأن لا يتم ترحيل هذه المشكلة للمستقبل أو أن يتم معالجتها بعلاجات مسكنة, والتي تخفف الألم مؤقتاً ولكن لا تؤدي إلى شفاء المريض.
وعليه, فإنه يمكن القول إن من شأن الهيكلة العلمية المدروسة لرواتب الموظفين والحقوق الوظيفية الأخرى للموظف, توفير حياة كريمة للموظف والذي يتم من خلالها المحافظة على هيبته وهيبة الوظيفة التي يشغلها والقيام بواجباته الوظيفية بدقة وإتقان وهذا سيكون من مخرجاته وضع حد للاعتصامات وإضرابات الموظفين والذين يطالبون من خلالها بحقوقهم الوظيفية وحصول الموظف على راتب تقاعدي يوفر له حياة كريمة في شيخوخته وبتقديري أن إعادة النظر في التشريعات الوظيفية للموظفين والتي تفرق بين الموظفين من حيث حقوقهم المالية وغيرها لا يتم إلا بتوحيدها في تشريع وظيفي واحد وأن هذا من أهم الوسائل التي تساهم في تحقيق العدالة والمساواة بين الموظفين والذين تتماثل وظائفهم وواجباتهم ومسئولياتهم الوظيفية, وهذا يستدعي لتحقيقه تعديل المادة (120) من الدستور بحيث تنظم تشكيلات دوائر الحكومة ودراجاتها وأسماؤها ومنهاج إدارتها وكيفية تعيين الموظفين وعزلهم والإشراف عليهم وحدود صلاحياتهم واختصاصاتهم بموجب قانون وليست بأنظمة كما هو معمول به حالياً, مع الإشارة إلى انه سبق وأن تم إصدار قانون الخدمة المدنية رقم 48لسـ1963ـنة وتم إلغاؤه بموجب قرار المجلس العالي لتفسير الدستور رقم 1/1965 تاريخ 26/6/1965 لعدم دستورية القانون وكنت أطالب بان تتضمن التعديلات الدستورية الأخيرة أن يتم التعامل مع الوظيفة العامة والقائمين عليها من خلال إصدار قانون للوظيفة العامة والقائمين عليها, وهذا من شانه وضع حد للحكومة في إصدار العديد من أنظمة الموظفين للعاملين في الهيئات والمؤسسات المستقلة وإصدار أنظمة للرواتب والحوافز المتعلقة بالأطباء والصيادلة بالاستناد للمادة (114) من الدستور لإرضائهم, وأن هذه الأنظمة وغيرها أوجدت فروقات واسعة بين رواتب الموظفين في الهيئات المستقلة والمؤسسات ورواتب زملائهم في الوزارات والمؤسسات الحكومية, كما أدعو أن تشتمل هذه الهيكلة هيكلة رواتب الموظفين المتقاعدين المدنيين والعسكريين بحيث يتم تقليص الفارق بين راتب الموظف أو العسكري العامل مع راتب زميله الذي تقاعد أو سيتقاعد وذلك بنسبة معقولة وهذا من شأنه قبول الموظف لقرار إحالته على التقاعد, وينطبق هذا على موظفين كثر من بينهم أطباء وزارة الصحة, حيث ينخفض راتب الطبيب عند إحالته للتقاعد إلى ما يزيد عن نصف راتبه الذي كان يتقاضاه قبل إحالته على التقاعد, كما ينطبق ذلك على رواتب كبار الضباط في القوات المسلحة الأردنية والأجهزة الأمنية, وأن الضابط الذي يحال على التقاعد يتقاضى راتباً يزيد عن راتب زميله الذي أحيل على التقاعد بذات الرتبة قبل عدة سنوات بالإضافة إلى الفروقات الكبيرة الحالية بالرواتب بين الرتب, ومما يترتب على ذلك الحد من تعيينات المتقاعدين في بعض الوظائف الحكومية للعمل في أجهزة الدولة وأشغالها من أشخاص آخرين, ولا ننسى في الوقت ذاته أن تقوم الحكومة بإنصاف العاملين بالقطاع الخاص وإيجاد فرص عمل جديدة للعاطلين عن العمل, حيث أنهم يتأثرون كغيرهم من التضخم وارتفاع كلفة المعيشة والتعليم والتطبيب والذي لا يفرق بين المواطنين والناجمة جميعها عن خيرات وبركات الخصخصة سيئة الذكر؟.
إن توجه والتزام الحكومة في هيكلة رواتب الموظفين والانتهاء منه قبل نهاية هذا العام هو التزام يسجل لها شريطة أن يحقق العدالة بين الموظفين الذين تتماثل أوضاعهم وان يتم إعادة النظر بالموظفين الذين يشكلون حمولة زائدة وعبئا ماليا ووظيفيا على المواطن والدولة وذلك من خلال وضع أسس ومعايير عادلة وتتوافر إرادة حكومية يتم من خلالها تطبيقها بحزم وبنزاهة وعدالة.
وتأسيسا على ما تقدم, يمكن القول أن هيكلة رواتب الموظفين هي مشكلة قديمة وقائمة ومستمرة وعلى جانب من الأهمية والتعقيد ولا يجوز أن تتراخي الحكومة في إيجاد حل عادل ومتوازن لها من خلال أداة تشريعية تستطيع من خلالها إعادة النظر في الرواتب والأجور, وكنت أتمنى أن يكون موضوع هيكلة الرواتب قد جاء بمبادرة من الحكومة وذلك نهوضاً بمسئولياتها وواجباتها لا أن تذعن لها تحت تأثير قرع طبول الإضرابات والاعتصامات والاحتجاجات والانتقادات, وإنني أرى من الضروري التنبيه بأنه لا يجوز أن تتم هيكلة الرواتب من خلال تحميل الخزينة ديوناً إضافية والتي هي جيوب المواطنين وذلك من خلال حصول الحكومة على قروض داخلية أو خارجية جديدة أو إعادة جدولتها والتي ستزيد قيمة العجز بالموازنة ويلتزم المواطنون بتسديدها حاضراً ومستقبلاً, بل يتوجب أن يتم تحقيق ذلك من خلال إدارات كفؤة وعادلة لمؤسسات الدولة بالرقابة والمحاسبة واسترداد واستعادة الأموال التي اختلست أو سرقت من أموال الخزينة وملاحقة الفاسدين والمفسدين وتحصيل الأموال المستحقة لها وفقاً للقانون والذي هو للجميع وفوق الجميع وإعادة ترتيب الأولويات في الإنفاق وتشجيع الاستثمار من خلال جذب الاستثمارات غير الوطنية وتوطين الاستثمارات المحلية والأجنبية.
وأخيراً فإنه لا بد من التذكير أن إدارات الدولة يتوجب أن تكون رشيقة وأن يتم التخلص من الترهلات الإدارية التي تنخر مفاصل متعددة بالدولة وهذا يحتاج إلى تطهير أجهزة الدولة من القيادات غير الكفؤة أو المنحرفة أو المتسلقة أو حملة المباخر واستبدالها بقيادات كفؤة ومخلصة تعيد الروح إلى الجسم الإداري للدولة والذي نهشته وتنهشه الأمراض والأوبئة الوظيفية وهذا لا يتحقق إلا من خلال إعادة تقييم أداء وإنجازات الموظفين وتطبيق قاعدة الثواب والعقاب على الجميع بدون استثناء وصولاً إلى إدارات كفؤة ورشيقة وعادلة والتي يتوجب أن تكون المرآة الحقيقية للدولة, حيث أن الموظف هو عقل الدولة المفكر ويدها التي تعمل وعينها التي لا تنام.

المحامي الدكتور
جودت مساعدة
دكتوراه القانون الإداري/الوظيفة
العامة بالأردن / دراسة مقارنة.



تعليقات القراء

مصدر مطلع
تحيه طيبه وبعد هل تعلم يا دكتور ان زياده المسؤلين والوظائف العليا تتجاوز200دينار بينما وظائف الفئه الثالثه لا تتجاوز 15 دينار
20-11-2011 09:11 AM

أكتب تعليقا

تنويه :
تتم مراجعة كافة التعليقات ،وتنشر في حال الموافقة عليها فقط.
ويحتفظ موقع وكالة جراسا الاخبارية بحق حذف أي تعليق في أي وقت ،ولأي سبب كان،ولن ينشر أي تعليق يتضمن اساءة أوخروجا عن الموضوع المطروح ،او ان يتضمن اسماء اية شخصيات او يتناول اثارة للنعرات الطائفية والمذهبية او العنصرية آملين التقيد بمستوى راقي بالتعليقات حيث انها تعبر عن مدى تقدم وثقافة زوار موقع وكالة جراسا الاخبارية علما ان التعليقات تعبر عن أصحابها فقط ولا تعبر عن رأي الموقع والقائمين عليه.

- يمكنك تسجيل اسمك المستعار الخاص بك لإستخدامه في تعليقاتك داخل الموقع
الاسم :
البريد الالكتروني :
اظهار البريد الالكتروني
التعليق :
رمز التحقق : تحديث الرمز
أكتب الرمز :

إقرأ أيضاً

رياضة وشباب

محليات