الحرب العربية الباردة الثانية


تطل في الأفق العربي سحب الخريف الكثيفة رغم ان العربيع العربي لم ينته بعد. فبعد الحصاد الموفق في تونس ومصر وليبيا، ورغم كثرة الأشواك في حقليْ سورية واليمن، نرى في الأفق برقا يلمع من بعيد ينذر بشق "التضامن العربي" الذي ألفناه في السنوات التي سبقت الربيع العربي. التضامن العربي الذي لم يكن إلا مناسبة سنوية لا تعدو قمة يجتمع فيها القادة العرب، ليتبادلوا المجاملات أو اللوم والاتهامات.

ورغم أن ذاك التضامن لم يرتق فوق كونه قمما عربية متكررة، بردائها، ورجالها، ومقولاتها، ومقدراتها، حتى أن كثير من القادة العرب تعود إرسال شخص آخر بدلا منه، كانت الشعوب العربية تتندر وتتداعى مع نهاية كل قمة إلى ما ستحمله القمة القادمة. وليس هناك سببا آخر سوى خيبة الأمل في قرارات القمم سواءا الاقتصادية، أو السياسية، أو العسكرية. انتهى ذلك التقليد لأسباب عدة أهمها انتهاء بعض اركانه الذين تكلسوا فوق السطح العربي لعقود طويلة، وسبب آخر اندماج العالم العربي بنسائم العولمة التي جعلت ممن يجلس في وادي الدواسر، أو وادي الموجب على اتصال بالعالم كمن يجلس في ستكولم أو مونتريال أو طوكيو.

تلقحت الطبيعة العربية فولدت جيلا جديدا كسر جليد الشتاء العربي الطويل. وانبعثت بين الزعامات العربية قيادات جديدة ذات آذان يقظة، قادرة على الاستجابة للمطالب الشعبية، واقراءة المحركات الاجتماعية، وذات انضباط دقيق على إيقاع العصر المعولم.

ارتبطت القواعد الاجتماعية-الثقافية- السياسية العربية بروابط اتصال لم تعد وسائل السيطرة القديمة قادرة على التصدي لها وكتمها. فأذرع ثورة الاتصالات: المرئية والمسموعة عبر الإنترنت، والتليفونات الخلوية (المحلية والدولية) لا حصر لها اليوم. والتضامن العالمي لم يعد من ضروب الخيال، بل أصبح واردا ونشطا ومستجيبا، وفي أغلب الأحيان مشاركا وداعما قويا. كل ذلك خلق إرهاصات خطيرة لحقائق قادمة تهدد مبدأ السيادة الذي تحصنت خلفه كثير من الدول الساقطة. والمعنيُّ بالدول الساقطة ليست تلك الفقيرة، بل تلك الدكتاتورية، ذات نظام الحكم الفردي، الشمولي، التسلطي، البوليسي القمعي.

وقد رأينا بوكير انتهاك مبدأ السيادة، وتباشير نهايته في الحرب الروسية- الجورجية عام 2008، ورايناه أيضا في حملة القضاء على بن لادن في مايو 2011 على الأراضي الباكستانية مع الفارق بين النموذجين. لقد اختلفت المعايير بحيث أصبحت أفغانستان بموقعها الاستراتيجي ذات أهمية عالمية تساوي نفط أسيا الوسطى. فالطريف المثالي لتصدير نفط دول لا تطل على بحار مفتوحة كجمهوريات آسيا الوسطى يمر عبر أفغانستان إلى الشواطئ الباكستانية، ثم إلى العالم غربا وشرقا. فالسيادة لن تحول دون حرية التجارة، وهذا ما سيصل إلى العالم العربي قريبا. فتصدير النفط العراقي أكثر جدوى إذا توجه غربا بدلا من عبور الخليج.

إن القمع في دولة ما لم يعد مشكلة محلية. لقد انصهر البعد المحلي في البعد العالمي لكل الشعوب، وأصبحت المسؤولية ليست مسؤولية شعب مغلوب على أمره، بل أمرا يهم شعوب العالم التي ستعاني من آثار القهر المفروض على شعب ما، في إقليم ما، في قارة نائية. لقد انتهت الفردية، والانعزالية، وانبعثت بدلا منها روح المشاركة والتضامن العالمي. ولم تعد السيادة حصنا يحمي الطغاة، ولم تعد الحدود ستائر حديدية يتصرفون خلفها كما يشاؤون.

فكما أن الأوبئة، والمحافظة على البيئة، وحقوق الإنسان، وحقوق المرأة والطفل، وسيادة القانون، والكوارث، أمورا ليست محلية، فإن نتاج السياسة، ووسائل السياسة، واستجابة السياسيين لشعوبهم، لم تعد أمورا وطنية أو قومية صرفة. وباختصار لقد رأينا في نماذج التغيير وقوى التغيير في مصر وتونس وليبيا. فجميعها لا تحمل هوية سياسية محددة أو انتماء حزبيا معينا. ولم يعد القمع والقتل والسجن ادوات مجدية ابدا. فبقدر أنه لا فرق بين أساليب القمع في ليبيا أو تونس أو مصر قبل الربيع العربي، فإنه لا فرق أيضا بين قوى التغيير الفاعلة في جميع الدول العربية. فمسيرات الحرية والديمقراطية في الدول التي ما زالت خاملة، أو في تلك الديناميكية المتحركة، اعتمدت وتعتمد ذات الأساليب والقوى. فالمحركات في تونس هي نفسها في مصر، وفي ليبيا، وفي سورية، وفي اليمن، وغيرها من البلاد العربية التي ما زالت ترى نفسها في مأمن التغيير والمصير الجامح.

لقد اقتبست معظم الدول العربية من النظم الشمولية نظام الحزب الواحد، والزعيم الأوحد، والاعتماد على الأجهزة الأمنية الممولة جيدا، وذات اليد المطلقة. فشلت تلك الدول في استقراء أسباب سقوط الأنظمة التي استعارت منها فلسفتها في الحكم في نهاية الثمانينات من القرن الماضي. بقيت الأنظمة الأنظمة الشرق أوسطية حذرة، وقمعية، ولم تر أن أسس سقوط أنظمة شرق أوروبا وأسباب انهيارها كانت تكمن في غياب الحريات، والانغلاق السياسي المتمثل في قيادة الحزب الواحد، وغياب التعددية السياسية، وانتهاك حقوق المواطن، وتجنب تطبيق مبدأ المسائلة في الحكم مما أودى بتلك الدول في منزلق كتم الحريات، والشك الشديد في نوايا المعارضة حتى وإن كانت ضعيفة، ودفع بها للخطأ القاتل المتمثل في إغلاق مجتمعاتها. كوريا الشمالية نموذجا للمتحف التاريخي ليشهد على حقبة مرعبة في التاريخ السياسي الإنساني. وعلى العكس من ذلك الصين التي قبلت أن تكون دولة ذات نظامين: شيوعي ورأسمالي. وهذه المرونة الصينية هي ما أسعفها ووضع في يدها طوق النجاة.

لقد عالجت تلك دول الشرق الأوسط، ومن بينها الدول العربية، أدرانها القديمة في عصر العوملة باستنساخ أشباح لأنظمة برلمانية خانعة، مهترئة، مقننة، ومسيطر عليها. كما قامت ببعض المعالجات الاقتصادية التي سرعان ما جفت، وأضافت معالجات تجميلية منها افتتاح الجامعات في المدن والقرى، والمستشفيات الخاصة التي لا يدخلها إلا القادرون، وبقي ما دون ذلك في قرار المجتمع يغلي، في أنتظار "بوعزيزي" ليشعل بجسدة الفتيل المتفجر.

كان تقييم تونس اقتصاديا قبل سقوط بن على بثلاث أسابيع فقط بأنها الأفضل بين الدول العربية، والأكثر استقرارا. فنجاح اقتصاد تونس القائم على السياحة، والتجارة مع أوروبا، فاق حدود الإعجاب. وحين دق بوعزيزي أجراس الرفض، لم يُجد القمع رغم شدته، فنسائم الحرية كانت أقوى من ألآم القمع. إنبعثت آمالا حطم إغراء بلوغها كل أشباح الخوف. فلم يعد توفر الخبز مسوغا كافيا للحكم. ثبت أن الحرية أهم من كل شيئ. تكررت أخطاء التجربة التي أودت بكل أوروبا الشرقية، حيث ثبت أن الإنسان لا يعيش بالطعام فقط. بدأ بعض الحكام العرب يلوحون بنيتهم الشروع في الإصلاح، ولسان حال الشعوب يقول لماذا الإصلاح الآن، لماذا لم يبدأ قبل عشرات السنين؟ من أروع ما قام به الرئيس جورج بوش (رغم عدم شعبيته بين العرب) بعد كارثة الحادي عشر من سبتمبر، وتحديدا عام 2004، مطالبته الزعماء العرب بالإصلاح، وذلك ما تحفظ عليه المؤتمرون في مؤتمر صنعاء، ورفضه "المثقفون" العرب في مؤتمر الاسكندرية. من هناك نشأ العزم الشعبي على ضرورة إنهاء سنين الجمود الطويلة، والتمرد والتحرر الفعلي، وبناء الديموقراطيات الحقيقية.

إن العالم العربي ينشق رويدا رويدا إلى فريقين: دول تقود شعوبا تخلصت من زعماء كبلوها عقودا طويلة، ودول أخرى نجت من موجة التغيير. لن تكن الحرب الباردة العربية الثانية كتلك التي شغلت العرب عبر الخمسينات والستينات، بالانقسام إلى كتلتين: كتلة "رجعية" وأخرى "تقدمية"، بل ستكون بين قوتين: "التحديثية" التي لا تعرف الحدود، والقوى "التقليدية" التي تركن للهدوء، وتبذل الجهود المضنية من أجل تجنب التغيير والتجديد ووقف المد العولمي الجارف. المثل العربي يقول: رب ضارة نافعة، لكن الواقع والنموذج المصري أثبت أن عكس ذلك صحيح، فرب نافعة ضارة. جاء إثبات ذلك على حساب نظام حسني مبارك المتآكل. وتفسير ذلك ينحصر في قرار رئيس الوزراء المصري أحمد نظيف (حين كان وزيرا للاتصالات والمعلومات) بتعميم الإنترنت في أرجاء مصر مجانا أو بأقل التكاليف للشعب المصري، وفي نفس الوقت قام نظيف بتعميم الأرقام الوطنية في مصر، أي انه جعل من مصر بلدا "ديجيتال". نالت تلك الخطوة التحديثية، غير الكاملة، رضا حسني مبارك، فقرب وزيره إليه، وبعد ذلك أسند إليه رئاسة الوزراء. كانت تلك الخطوة النافعة التي ألحقت الهزيمة بنظام مبارك ونظيف، وأودت تلك الخطوة النافعة أخيرا بنظام حسني مبارك. أصبحت الإنترنت في مصر المعول الوحيد الذي قاوم به الشعب المصري جلادية.

فهل سيكون بمقدور بقية العرب تجنب الخطوات النافعة التي ستضرهم؟ هل سيجدون لها بديلا؟ وهل سيستطيعون بناء ستائر حديدية تقاوم إغراء الديموقراطية والحريات؟ أم سيلجأون للإصلاح الحقيقي الذي فيه منجاتهم، ورفاهية الشعوب العربية وتقدمها.



تعليقات القراء

لا يوجد تعليقات


أكتب تعليقا

تنويه :
تتم مراجعة كافة التعليقات ،وتنشر في حال الموافقة عليها فقط.
ويحتفظ موقع وكالة جراسا الاخبارية بحق حذف أي تعليق في أي وقت ،ولأي سبب كان،ولن ينشر أي تعليق يتضمن اساءة أوخروجا عن الموضوع المطروح ،او ان يتضمن اسماء اية شخصيات او يتناول اثارة للنعرات الطائفية والمذهبية او العنصرية آملين التقيد بمستوى راقي بالتعليقات حيث انها تعبر عن مدى تقدم وثقافة زوار موقع وكالة جراسا الاخبارية علما ان التعليقات تعبر عن أصحابها فقط ولا تعبر عن رأي الموقع والقائمين عليه.

- يمكنك تسجيل اسمك المستعار الخاص بك لإستخدامه في تعليقاتك داخل الموقع
الاسم :
البريد الالكتروني :
اظهار البريد الالكتروني
التعليق :
رمز التحقق : تحديث الرمز
أكتب الرمز :

إقرأ أيضاً

رياضة وشباب

محليات