لائِحَةُ الإدِّعَاِء المُقَدَّمَةِ مِنْ مَحْكَمَةِ العَدْلِ الإلهِيَةِ يَوْمَ القِيَامَةِ


إنَّنا نعيش في عصر طغت فيه الماديات والشهوات , وانصرف كثيرٌ من الناس عن منهج رب الأرض والسماء , فلا بدَّ في مثل هذه الحالة , من تذكير الناس بالآخرة , ليتداركوا ما قد فاتهم , وليتوبوا إلى الله عز وجل توبة نصوحا , قبل أنْ تأتيَهم الساعةُ بغتةً وهم يُخَصِّمُون , فلا يستطيعون توصيةً ولا إلى ربهم يرجعون .
فما من أحدٍ منا , إلا وسيقف بين يديّ الحق جلَّ جلاله , في محكمة عدلٍ إلهيةٍ , القاضي فيها جبَّارُ السموات والأرض , والشهود عليك يومئذٍ أعضاؤك وجوارحُك , ليس معك محامٍ ولا من يدافع عنك , وإلى هذا يشير الحق جل وعلا بقوله : { حَتَّى إِذَا مَا جَاءُوهَا شَهِدَ عَلَيْهِمْ سَمْعُهُمْ وَأَبْصَارُهُمْ وَجُلُودُهُمْ بِمَا كَانُوا يَعْمَلُونَ* وَقَالُوا لِجُلُودِهِمْ لِمَ شَهِدْتُمْ عَلَيْنَا قَالُوا أَنْطَقَنَا اللَّهُ الَّذِي أَنْطَقَ كُلَّ شَيْءٍ وَهُوَ خَلَقَكُمْ أَوَّلَ مَرَّةٍ وَإِلَيْهِ تُرْجَعُونَ * }
سُئِل العالم الزاهد إبراهيمُ بنُ أدهمَ : لِمَ زهدت في الدنيا يا إبراهيمُ ؟ قال : لثلاثٍ : الأول : رأيت الطريقَ طويلاً وليس معي زاد .
الثاني : رأيت القبرِ موحشًا وليس معي مُؤنِس .
الثالث : رأيت الجبَّار قاضيًا وليس معي حجةٌ أو مَنْ يدافع عنِّي – أي محام – .
وسيَسألٌ اللهُ - عز وجل - كلَ واحدٍ منا في ساحة الحساب عن كل ما قدَّم في هذه الحياة الدنيا , قال الله تعالى : {فَمَنْ يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ خَيْرًا يَرَهُ * وَمَنْ يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ شَرًّا يَرَهُ} فكل كبيرة وصغيرة , سُطُرت عليك في كتاب عند ربي لا يضل ولا ينسى , فكم من معصية كنت قد نسيتها ؟ ذكّرك الله بها , وكم من معصية كنت قد أخفيتها ؟ أظهرها الله عليك وأبداها , قال الله تعالى : (يَوْمَئِذٍ تُعْرَضُونَ لَا تَخْفَى مِنكُمْ خَافِيَةٌ) [الحاقة : 18]
وقد ذكر نبينا محمد - صلى الله عليه وسلم - أن الله – سبحانه وتعالى – سيسألُ العبدَ بعد سؤاله عن الصلاة عن أربع , فما أحوجنا يا أحبابُ , لمعرفة ما سيطرحُ علينا من أسئلة جامعة بين يديّ الله الحق المبين , والتي حددت لنا معالمَ الطريقِ , التي إنْ لم نهتدِ إليها , فسنظلُ في متاهات الحياة إلى أن نموت .
أمّا صيغةُ الاستجوابِ ولائحةُ الادعاء , فيتلوها على مسامعنا مقدَّما , الرحمة المهداة سيدُنا رسولُ اللهِ – صلى الله عليه وسلم – حيثُ يقول : { لا تزولُ قدما عبدٍ يومَ القيامةِ حتى يُسألَ عن أربع – أسألُكم باللهٍ أخي وأختي في الله - أنْ تتدبروها لتسألوها أنفُسَكُم الآنَ قبلَ أنْ تُسألوا عنها بين يدي الله الملك جلَّ وعلا - : عن عُمُرِه فيما أفناه , وعن شبابه فيما أبلاه , وعن ماله مِنْ أين اكتسبه , وفيمَ أنفقه , وعن علمه ماذا عمل به } .
وسأكونُ معكم بمشيئة الله وتوفيقه مع السؤال الأول : عن عمره فيما أفناه : العمرُ هو البضاعةُ الحقيقيِّةُ , ورأسُ المالِ , فمن ضاعت بضاعته , وانتهى رأسُ مالِه , دون أن يحققَ الربحَ المنشودِ , فهو من الخاسرين , فهل حسبتَ أنَّ هذا العُمرَ , وأنَّ هذه الأيام , وهذه السنوات التي تمضي ونحن لا نشعر بها , لن يسألنا الله عنها , لا وربي تدبَّر معي قولَ ربِّ الأرض والسماء , وهو يقول سبحانه : { أَفَحَسِبْتُمْ أَنَّمَا خَلَقْنَاكُمْ عَبَثاً وَأَنَّكُمْ إِلَيْنَا لا تُرْجَعُونَ) المؤمنون:115وقوله : { أَيَحْسَبُ الإِنسَانُ أَنْ يُتْرَكَ سُدًى () أَلَمْ يَكُ نُطْفَةً مِنْ مَنِيٍّ يُمْنَى () ثُمَّ كَانَ عَلَقَةً فَخَلَقَ فَسَوَّى ((فَجَعَلَ مِنْهُ الزَّوْجَيْنِ الذَّكَرَ وَالأُنثَى () أَلَيْسَ ذَلِكَ بِقَادِرٍ عَلَى أَنْ يُحْيِيَ الْمَوْتَى } القيامة: 36-40.
أليسَ الله بقادر على أن يبعثهم للوقوف بين يديه يوم القيامة ؟ لسؤالهم عمَّا فعلوه , للسؤال عن القليل والكثير , وعن الصغير والكبير , بلى ستُسألُ عن كل لحظة , عن كل ساعة , ستسأل عن عمرك كلِّه فيما أفنيت هذا العمر , الذي هو مزرعتُك التي تجني ثمارها في الدار الآخرة , فإنْ زرعتَه بخيرٍ , وعملٍ صالحٍ , جنيت السعادة والفلاح وكنت مع الذين يُنادَى عليهم في الدار الباقية { كُلُوا وَاشْرَبُوا هَنِيئًا بِمَا أَسْلَفْتُمْ فِي الْأَيَّامِ الْخَالِيَةِ } وإن ضيعته بالغفلة , وزرعته بالمعاصي , والآثام , ندمت يومَ لا ينفع الندم وتمنيتَ الرجوعَ إلى الدنيا : { حَتَّى إِذَا جَاءَ أَحَدَهُمُ الْمَوْتُ قَالَ رَبِّ ارْجِعُونِ لعلِّي أَعْمَلُ صَالِحًا فِيمَا تَرَكْتُ كَلاَّ إِنَّهَا كَلِمَةٌ هُوَ قَائِلُهَا وَمِن وَرَائِهِم بَرْزَخٌ إِلَى يَوْمِ يُبْعَثُونَ } قال الحسن البصري - رحمه الله – ( يا ابنَ آدم إنما أنت أيام فإنْ مضى يومُك مضى بعضُك , وأن مضى بعضك , مضى كلُك و أنت تعلم فاعمل ) وكان يقول : ( يا ابن آدم أنا خلق جديد وعلى عملك شهيد , فاغتنمني فإني لا أعود إليك إلى يوم القيامة ) ويقول أيضا : ( يا ابن آدم , اليوم ضيفك , والضيف مرتحل ,يحمدك أو يذمك , وكذلك ليلتك ) .
وكان سيدنا عبد الله بن مسعود – رضي الله عنه – يقول : ( واللهِ ما ندمتُ على شيءٍ كندمي على يومٍ طلَعت شمسُه , نقص فيه أجلي ولم يزددْ فيه عملي ) .
العمرُ هو البضاعة الرئيسية , وهو رأس المال , والله ما منحنا الله هذه البضاعة الكريمة للهو والعبث والملذات , والشهوات , بل خلقَنا من اجل غاية كريمة وعظيمة , وهي عبادته قال الله سبحانه وتعالى : (وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالْإِنْسَ إِلَّا لِيَعْبُدُونِ ) يا من تمضي عمرك وأنت لا تدري ’ اعلم بأنك ستُسأل عن هذه الساعات , وستُسأل عن هذا العمر , وتذكَّر يا من تمضي عمرك وأنت في غفلة , أن الدنيا مهما طالت فهي قصيرة , ومهما عَظُمَتْ فهي حقيرة , و أنَّ الليل مهما طال , لا بدّ من طلوع الفجر , وان العمر مهما طال , لابدّ من دخول القبر.
من سلفنا الصالح رجل يُقال له : توبة بن الصِّمة – رحمه الله - حسب سنه - عمره - ذات يوم , فإذا هو ابن ستين سنة , فحسب أيامها فإذا هي نحو "22" ألف يوم , فتَصوَّر هول الحساب والعقاب , على ما اقترفه من ذنوب , مع أنه كان مراقبا لربه على الدوام , فصرخ وقال : يا ويلتي : ألقى ربي باثنين وعشرين ألف ذنب , إذا كنتُ قد أذنبت في كل يوم ذنبا واحدا , فكيف إذا كانت ذنوبي لا تحصى ولا تعد ؟ ثم تضرَّع وتأوَّه وقال : عمَرتُ دنيايَّ وخرَّبت أخراي , وعصيت مولاي الوهَّاب , ثم لا أشتهي النقلة , من دار العمران إلى دار الخراب , وكيف أقدِم يوم الحساب , على الكتاب والعذاب , بلا عمل ولا ثواب , ثم من شدة تصوره لفظاعة الموقف بين يدي الله , شهَق شَهقَةً عظيمة , ووقع على الأرض مغشيًا عليه فحركة الناس , فإذا هو ميِّت - رحمه الله - وصدق الله العظيم إذ يقول : ( إنّا إليّْنا إيابَهم ثمَّ إنّا علينا حِسَابَهم ).
أخي في الله تذكَّر وصية حبيبك محمد - صلى الله عليه وسلم - لعبد الله بن عمر - رضي الله عنه - أنه أخذ بمنكبه وقال له : ( يا عبدَ اللهِ بنَ عمرَ كنْ في الدنيا كأنَّك غريبٌ أو عابرُ سبيل )
ما أحوجنا وربِّ الكعبة , لهذه الكلمات , إننا نعيش في عصر طغى فيه حب الدنيا , فإن كثيرا من الناس ألآن يُذكَّر بقولِ اللهِ : فلا يتذكرُ ويذكَّر بحديثِ رسول الله - صلى الله عليه وسلم – فلا يتحركُ قلبُه , وكأنَّ القلوبَ تحوَّلت إلى حجارة وصدق الله العظيم إذ يقول ( ثُمَّ قَسَتْ قُلُوبُكُم مِّن بَعْدِ ذَلِكَ فَهِيَ كَالْحِجَارَةِ أَوْ أَشَدُّ قَسْوَةً ) .
لقي الفُضيل بن عِياض رجلا , فقال له الفُضيل : " كم عُمُرك ؟ قال الرجل : ستون سنة قال الفُضيل : إذًا أنت منذ ستين سنة تسير إلى الله توشك أن تصل . فقال الرجل : إنَّا لله وإنَّا إليه راجعون , قال الفُضيل : هل تعرف معناها ؟ قال : نعم , أعرف أنيّ عبدٌ للهِ وأنِّي إليه راجع فقال الفُضيل : يا أخي ، من عرف أنه لله عبدٌ ، وانه إليه راجع ، فليعلمْ أنَّه موقوف بين يديه ، ومن علم أنه موقوف بين يديه , فليعلم انَّه مسئول ، ومن علم أنه مسئول , فليُعِد للسؤال جوابا , فبكى الرجل , وقال : ما الحيلةُ ؟ قال الفُضيل : يسيرة , قال : وما هي - يرحمك الله - ؟ قال : تتقي الله فيما بقى من عمرك ، يغفر اللهُ لك ما قد مضى , وما قد بقى , فإنك إن أسأت فيما بقى , أُخِذت بما مضى وما بقى .
اللهم أحسن وقوفنا بين يديك ولا تخزنا يوم العرض عليك برحمتك يا أرحم الراحمين .




تعليقات القراء

abood
بارك الله فيك وعليك وجزاك الله كل خير والله انه كلام يوزن بالذهب اتمنى ان يقرا الجميع هذه المقالة
15-10-2011 11:55 AM
خالد التميمي
بارك الله فيك يا شيخنا الفاضل على هذه المقالة الرائعة والتي من خلالها تستاهل كل الشكر عليها واطلب من الله عزوجل ان يجعل هذا في ميزان حسناتك يوم القيامة .. واود ان اقول هنا وفي هذا المقام لا يوجد لنا سواء رحمة الله سبحانه وتعالى وشفاعة حبيبنا محمد على افضل الصلاة لاننا والله يا غرقانين بذنونبا نسأل الله العفو والعافية وان يتوب علينا أجمعين اللهم آمين .
15-10-2011 12:17 PM

أكتب تعليقا

تنويه :
تتم مراجعة كافة التعليقات ،وتنشر في حال الموافقة عليها فقط.
ويحتفظ موقع وكالة جراسا الاخبارية بحق حذف أي تعليق في أي وقت ،ولأي سبب كان،ولن ينشر أي تعليق يتضمن اساءة أوخروجا عن الموضوع المطروح ،او ان يتضمن اسماء اية شخصيات او يتناول اثارة للنعرات الطائفية والمذهبية او العنصرية آملين التقيد بمستوى راقي بالتعليقات حيث انها تعبر عن مدى تقدم وثقافة زوار موقع وكالة جراسا الاخبارية علما ان التعليقات تعبر عن أصحابها فقط ولا تعبر عن رأي الموقع والقائمين عليه.

- يمكنك تسجيل اسمك المستعار الخاص بك لإستخدامه في تعليقاتك داخل الموقع
الاسم :
البريد الالكتروني :
اظهار البريد الالكتروني
التعليق :
رمز التحقق : تحديث الرمز
أكتب الرمز :

إقرأ أيضاً

رياضة وشباب

محليات