المعلم بين المطرقة والسندان


يمر الخامس من تشرين الأول من كل عام دون أن يستوقف أحداً، ولا يحق لنا أن نلوم الآخرين إذا كانت وزارة التربية والتعليم نفسها لا تعلم أن هذا اليوم هو يوم المعلم الذي يفترض أن يكون مختلفاً ومميزاً. لا يريد المعلم أن تقام له الاحتفالات، ولا أن تعطل الدوائر الحكومية، ولا أن تطلق المفرقعات الصوتية، ولا أن تزين الشوارع والمدارس، وإنما قليلاً من الاحترام والتقدير، وأن من حقه في هذا اليوم بالذات أن يشعر على الأقل أن مديريه على مختلف مستوياتهم يتذكرون هذا اليوم، وليس مزيداً من التطنيش والإهمال!
لو كان اليوم يوم الشجرة لبدأت الاستعدادات قبل أسابيع لاحتفالات برعاية الوزير هنا وهناك من أجل غرس شجيرة لا تلبث أن تموت. ولو كان عيد الفلنتاين لامتلأت المتاجر باللون الأحمر، وتناقلت وسائل الإعلام أخباره وطرائفه. ولو كانت أية مناسبة أخرى لكان لها حضور إعلامي ورسمي يليق بها. أما المعلم فلا بواكي له، ويمر يومه مرور الكرام لا يأبه به أحد، إلا من تصريحات لا تسمن ولا تغني من جوع!
لا يجادل أحد أن الأمم والدول تقاس حضارتها ورقيها بمكانة العلم والعلماء فيها، وعلى رأسهم المعلم، عماد كل تقدم، وأساس كل رقي. وأي إدعاء بغير ذلك، نوع من الكذب والنفاق والتدليس. ومكانة المعلم لا تتحقق بشعارات براقة، وكلام زائف معسول، ووعود تتكرر كل عام، بل تتطلب أن تتغير النظرة الحكومية أولاً للمعلم لتنسحب من ثم على المجتمع، لأنه ما دامت الحكومة تلو الحكومة تهمش المعلم وتقيده وتحاصره عن قصد وتصميم، فلا ينتظر من المجتمع أن يفعل غير ذلك. ويبدو أن تهميش دور المعلم مرتبط بسياسات مرسومة تهدف إلى تدمير الجيل من خلال خلق جيل هش هزيل يسهل قياده وجره إلى الهاوية!
نعم، المعلم بحاجة ملحة لمضاعفة راتبه على الأقل، ولكنه بحاجة أكبر للتقدير والاحترام، ومعاملته كإنسان له حقوق وعليه واجبات، ومن العبث مطالبته بواجباته قبل أن يعطى حقوقه كاملة غير منقوصة، وبغير ذلك تختل المعادلة، التي تنعكس سلباً على الجيل الذي نلاحظ جميعاً تدهوره تحصيلياً وسلوكياً وفكرياً بإصرار حكومي لم يعد يخفى على أحد!
المعلم في معظم مدارسنا ومديريات التربية يعامل بفوقية وكأنه عامل وافد، عليه أن يؤمر فيطيع، لا يحق له أن يعترض أو يطالب بحقوقه الأساسية، لا يجد مكتباً مناسباً يجلس إليه، ولا مقعداً يليق به، ويعاني من نصاب كبير لا يقل بحال عن 25 حصة إلا للمحظوظين، وصفوف مكتظة لا يجد فيها فسحة للحركة أو حتى لإراحة النظر، وأعمال كتابية تحيله إلى كاتب استدعاءات لا معلماً ومربياً، بالإضافة إلى الإشغالات وتربية الصفوف والمناوبات واللجان والأنشطة والاجتماعات والدورات وغير ذلك مما يكثر شره ولا يرجى خيره!
المعلم يعين دون أي تدريب أو إعداد يؤهله للقيام برسالته بكفاءة، اللهم من دورات نظرية لا تقدم ولا تؤخر في الغالب، إن لم تفسد على المعلم قناعاته وتصوراته. ويطلب منه أن يدخل إلى الصف من أول ساعة التحق فيها بالمدرسة دون أي تهيئة أو إحماء أو نصيحة يمكن أن تفيده، فالمهم عند البعض أن يشغل المعلم حصته، ولا يهم كيف وبماذا؟!
المعلم بحاجة أن يشعر أنه شريك في مدرسته وقراراتها وخططها، لا مجرد منفذ لا قيمة له، أو أداة تحرك بالريموت كنترول، وأن يكون له رأي ودور وحرية في تقرير ما يتعلق به، وأن يحظى بالتقدير والاحترام عندما يراجع مديريته، لأنه هو السيد حسب الأصول وما وجدوا إلا لخدمته وتسهيل مهمته، ولكن الأمور انعكست، واستنسرت البغاث. والمعلم قبل ذلك وبعده بحاجة إلى أنظمة وتعليمات تحميه وتحفظ كرامته، لأنه معلم أولاً وأخيراً، ولا يجوز أن يتعرض للاتهام من طالب متقول، أو ولي أمر متبلٍ، ويسجن مع أصحاب الأسبقيات والجرائم لأنه ضرب طالباً من غير قصد أو لحظة حرقة وألم، ولا يجوز في أي عرف أن يعاقب بالإنذار لأقل إساءة جسدية أو لفظية لطالب أساء الأدب وهتك حرمة التعليم، وتطاول على معلمه!
إن أي إصلاح لا يبدأ بالتعليم، وبالدرجة الأولى المعلم وتكريمه وتقديره ومنحه ما يستحق من حقوق، أي إصلاح بغير ذلك سيكون هشاً لا جذور له، وإن نما فسرعان ما ينهار، لأن الدول تبنى بالتعليم، والحضارات لا تقوم إلا به، فهو الأساس والخطوة الأولى، وبغير ذلك فخبط عشواء واحتطاب بليل!
عندما يقدم المعلم في المجالس، ويتسابق الناس لكسب رضاه، ويتصدر كل احتفال أو اجتماع، ويجلس والآخرون قيام، وتتمنى كل فتاه أن تتزوج معلماً، فثمة أمل بالمستقبل المشرق الباسم. وهمسة للمعلمين: الاحترام لا يعطى ولا يستجدى، والحقوق لا توهب، فبيدكم أنتم أن تحبطوا المؤامرة، وتفشلوا مخططات المارقين، فبعملكم المتقن، وجهدكم الدؤوب وحرصكم على طلبتكم، ومعرفتكم بحقوقكم، والوقوف في وجه كل متجاوز أو ظالم، وعدم السكوت عن الخطأ والتسيب والفساد، تستطيعون أن تنتزعوا المكانة التي تستحقوق، وأن تفرضوا الاحترام على الكبير والصغير. وعماد ذلك تعاونكم ووحدتكم وتآلف قلوبكم!
ودعوة إلى وزارة التربية أن تعيد النظر في تعريف المعلم، فلا يعقل أن يتساوى المعلم المجاهد في صفه ووسط طلابه في ظل ظروف صعبة ومحبطة، مع موظف يجلس على مكتبه لا يجد ما يعمله، بل لو رجعنا لملفه لوجدناه عين معلماً، ولكنه تحايل وتوسط حتى انتقل موظفاً إدارياً هروباً من مهنة التعليم. ولتكن علاوة التعليم لمن يمارس المهنة فعلاً، أي من يعطي الحصص فقط، ومن في حكمه من مدير ومساعد، ومشرف تربوي، وأي مدير تربية أو فني أو إداري ارتقى إلى وظيفته كونه معلماً. ولتفكر الوزارة جدياً بتعيين كادر إداري من حملة الدبلوم ليقوم بالمهام الإدارية من مراقبة ومناوبة وتربية صفوف وغيرها. وتعيد النظر في أسس رتب المعلمين التي تظلم أصحاب الخبرة والكفاءة لصالح حملة الشهادات والدورات. كما أنه آن الأوان أن تدرك الوزارة أن المعلم ليس آلة، ومن حقه أن يستريح بين حصة وأخرى، وهذا يتطلب عبئاً لا يتجاوز 15 حصة أسبوعية. وقبل كل ذلك وبعده وجب على الوزارة أن تجيب على سؤال واحد: ماذا تريد من المعلم على وجه الدقة؟! وهل يستطيع من عدم أجنحة أن يطير؟!!
mosa2x@yahoo.com



تعليقات القراء

لا يوجد تعليقات


أكتب تعليقا

تنويه :
تتم مراجعة كافة التعليقات ،وتنشر في حال الموافقة عليها فقط.
ويحتفظ موقع وكالة جراسا الاخبارية بحق حذف أي تعليق في أي وقت ،ولأي سبب كان،ولن ينشر أي تعليق يتضمن اساءة أوخروجا عن الموضوع المطروح ،او ان يتضمن اسماء اية شخصيات او يتناول اثارة للنعرات الطائفية والمذهبية او العنصرية آملين التقيد بمستوى راقي بالتعليقات حيث انها تعبر عن مدى تقدم وثقافة زوار موقع وكالة جراسا الاخبارية علما ان التعليقات تعبر عن أصحابها فقط ولا تعبر عن رأي الموقع والقائمين عليه.

- يمكنك تسجيل اسمك المستعار الخاص بك لإستخدامه في تعليقاتك داخل الموقع
الاسم :
البريد الالكتروني :
اظهار البريد الالكتروني
التعليق :
رمز التحقق : تحديث الرمز
أكتب الرمز :

إقرأ أيضاً

رياضة وشباب

محليات