خطابٌ استثنائيّ في زمنٍ استثنائيّ: قراءةٌ في خطاب الملك أمام البرلمان الأوروبيّ
أمام تصفيقٍ حار واهتمامٍ واضحٍ من أعضاء البرلمان الأوروبيّ، ألقى جلالة الملك عبد الله الثاني اليوم الثلاثاء، 17 حزيران 2025 أمام البرلمان الأوروبيّ في مدينة ستراسبورغ الفرنسيّة خطاباً سياسيّاً وإنسانيّاً هامّاً، أعاد فيه التذكير بثوابت الموقفِ الأردنيّ، ووجّه رسائلَ واضحةً إلى أوروبا والعالم بشأن القضيّة الفلسطينيّة، وحذّر من الانزلاق نحو حربٍ إقليميّة قد تشتعلُ نتيجةَ التصعيد العسكريّ بين إسرائيل وإيران، وسط انهيارٍ مُقلقٍ في منظومة القيم التي يُفترض أن تحكمَ العلاقات الدوليّة.
كانت الرسالةُ الأولى تتمحور حول القضيّة الفلسطينيّة، إذ جاءت في مقدّمة خطاب جلالة الملك، بوصفها الجرح المفتوح في الجسدِ الإقليميّ، ومصدراً رئيسيّاً لغياب الاستقرار، فأشار جلالته إلى أنّ العدوان المستمر على قطاع غزة، الذي تصاعد بشكلٍ مأساويّ منذ أكتوبر 2023، ما هو إلّا امتدادٌ لحصارٍ خانقٍ فُرض على القطاع منذ عام 2007، حوّل حياة أكثر من مليونيّ إنسان إلى معاناةٍ يوميّة. وانتقد جلالته صمت المجتمع الدوليّ أمام القصف والتجويع واستهداف المدنيين، كما أكّد أنّ العدالة لا تتجزأ، وأنّ إقامة الدولة الفلسطينيّة المستقلّة وعاصمتها القدس الشرقيّة هي السبيل الوحيد لتحقيق السلام العادل والدائم.
وأعاد جلالة الملك التأكيدَ أيضاً على الوصاية الهاشميّة على المقدّسات الإسلاميّة والمسيحيّة في القدس، مُحذّراً من محاولات تغيير الوضع القانونيّ والتاريخيّ للمدينة، باعتبار ذلك استفزازاً مباشراً لمشاعر مئات الملايين من المسلمين والمسيحيين حول العالم.
أمّا الرسالة الثانية فقد كانت تحذيريّة حول التصعيد الإقليميّ في الشرق الأوسط، حيث تناول خطاب جلالته تداعيات التصعيد العسكريّ بين إسرائيل وإيران، والذي لم يعد محصوراً في التصريحات أو الحروب بالوكالة، بل بات يُشكّل تهديداً حقيقيّاً على أمن واستقرار الإقليم بأكمله. وفي هذا السياق ألمح جلالته إلى أنّ العالم يفتقد اليوم "بوصلته الأخلاقيّة"، ممّا يجعل الغلبة للغة القوّة لا للقانون، وللردع لا للحوار. ودعا إلى ضرورة كبح جماح التصعيد، وضبط النفس وتفعيل القنوات الدبلوماسيّة بدلاً من الانجرار إلى مواجهةٍ لا رابح فيها، فالمنطقةُ لا تحتملُ حرباً شاملة قد تُدخلها في نفقٍ مُظلمٍ، وستكون تداعياتها كارثيّة على الشعوب والدول، بما فيها الأردن الذي يقع على تماسٍ مُباشرٍ مع جبهات الصراع.
وجاءت رسالة الملك الأخرى حول ضرورة التعاون بين مختلف الأطراف لمواجهة التحدّيات العالميّة، فالعالم اليوم يُواجه تحدّيات عابرة للحدود، من التغيّر المناخيّ إلى الأمن الغذائيّ، ومن تراجع النظام العالميّ متعدد الأطراف إلى تصاعد الشعبويّات واليمين المتطرّف، ومن أزمات اللجوء إلى التكنولوجيا غير المنضبطة. وهنا وجّه الملك رسالةً للأوروبييّن مفادها أنّ الحياد السلبيّ أو الحذرَ المبالغ فيه لم يعد كافياً. وأنّ على دول أوروبا أن تكون فاعلةً في دعم الاعتدال، وتمكين الشراكات، والضغط باتجاه حلولٍ سياسيّةٍ عادلة لا تقوم على الازدواجيّة أو المصالح قصيرة المدى.
وقد حظيت هذه الرسالة باهتمامٍ كبيرٍ من البرلمانيّين الأوروبيّين الذين باتوا، تحت ضغط الرأيّ العام، يُدركون أنّ غضّ الطرف عن الجرائم في غزة أو دعم سياسات الإقصاء لا يُمكن أن يتماشى مع القيم الأوروبيّة المُعلنة.
وفي نهاية خطابه عرض جلالة الملك بشكلٍ مُقتضبٍ تجربةَ الأردن في الصمود والاستقرار، هذه الدولة التي رغم قلّة مواردها وجوارها المُشتعل، تمسّكت باستقرارها عبر الإصلاح السياسيّ والتشريعيّ والاقتصاديّ المتدرّج، واحترام المؤسسات، وتمكين الشباب والمرأة، بوصفها محطّات مهمةٍ في مسار البناء الديمقراطيّ، وأكّد جلالته في خطابه أنّ الإصلاح السياسيّ في الأردن هو خيارٌ استراتيجيّ، وليس استجابةً ظرفيّة.
إنّ خطاب جلالة الملك عبد الله الثاني أمام البرلمان الأوروبيّ لم يكن مُجرّد كلمةً بروتوكوليّة، بل بيان سياسيّ واضح، يحمل ملامح سياسة أردنيّة ثابتة ومُعتدلة، تستند إلى إرثٍ طويلٍ من الحكمة. فهذا الخطاب الذي حمل رسائل عديدة شكّل خطاباً استثنائيّاً في زمنٍ استثنائيّ.
د. عُريب هاني المومني
أمام تصفيقٍ حار واهتمامٍ واضحٍ من أعضاء البرلمان الأوروبيّ، ألقى جلالة الملك عبد الله الثاني اليوم الثلاثاء، 17 حزيران 2025 أمام البرلمان الأوروبيّ في مدينة ستراسبورغ الفرنسيّة خطاباً سياسيّاً وإنسانيّاً هامّاً، أعاد فيه التذكير بثوابت الموقفِ الأردنيّ، ووجّه رسائلَ واضحةً إلى أوروبا والعالم بشأن القضيّة الفلسطينيّة، وحذّر من الانزلاق نحو حربٍ إقليميّة قد تشتعلُ نتيجةَ التصعيد العسكريّ بين إسرائيل وإيران، وسط انهيارٍ مُقلقٍ في منظومة القيم التي يُفترض أن تحكمَ العلاقات الدوليّة.
كانت الرسالةُ الأولى تتمحور حول القضيّة الفلسطينيّة، إذ جاءت في مقدّمة خطاب جلالة الملك، بوصفها الجرح المفتوح في الجسدِ الإقليميّ، ومصدراً رئيسيّاً لغياب الاستقرار، فأشار جلالته إلى أنّ العدوان المستمر على قطاع غزة، الذي تصاعد بشكلٍ مأساويّ منذ أكتوبر 2023، ما هو إلّا امتدادٌ لحصارٍ خانقٍ فُرض على القطاع منذ عام 2007، حوّل حياة أكثر من مليونيّ إنسان إلى معاناةٍ يوميّة. وانتقد جلالته صمت المجتمع الدوليّ أمام القصف والتجويع واستهداف المدنيين، كما أكّد أنّ العدالة لا تتجزأ، وأنّ إقامة الدولة الفلسطينيّة المستقلّة وعاصمتها القدس الشرقيّة هي السبيل الوحيد لتحقيق السلام العادل والدائم.
وأعاد جلالة الملك التأكيدَ أيضاً على الوصاية الهاشميّة على المقدّسات الإسلاميّة والمسيحيّة في القدس، مُحذّراً من محاولات تغيير الوضع القانونيّ والتاريخيّ للمدينة، باعتبار ذلك استفزازاً مباشراً لمشاعر مئات الملايين من المسلمين والمسيحيين حول العالم.
أمّا الرسالة الثانية فقد كانت تحذيريّة حول التصعيد الإقليميّ في الشرق الأوسط، حيث تناول خطاب جلالته تداعيات التصعيد العسكريّ بين إسرائيل وإيران، والذي لم يعد محصوراً في التصريحات أو الحروب بالوكالة، بل بات يُشكّل تهديداً حقيقيّاً على أمن واستقرار الإقليم بأكمله. وفي هذا السياق ألمح جلالته إلى أنّ العالم يفتقد اليوم "بوصلته الأخلاقيّة"، ممّا يجعل الغلبة للغة القوّة لا للقانون، وللردع لا للحوار. ودعا إلى ضرورة كبح جماح التصعيد، وضبط النفس وتفعيل القنوات الدبلوماسيّة بدلاً من الانجرار إلى مواجهةٍ لا رابح فيها، فالمنطقةُ لا تحتملُ حرباً شاملة قد تُدخلها في نفقٍ مُظلمٍ، وستكون تداعياتها كارثيّة على الشعوب والدول، بما فيها الأردن الذي يقع على تماسٍ مُباشرٍ مع جبهات الصراع.
وجاءت رسالة الملك الأخرى حول ضرورة التعاون بين مختلف الأطراف لمواجهة التحدّيات العالميّة، فالعالم اليوم يُواجه تحدّيات عابرة للحدود، من التغيّر المناخيّ إلى الأمن الغذائيّ، ومن تراجع النظام العالميّ متعدد الأطراف إلى تصاعد الشعبويّات واليمين المتطرّف، ومن أزمات اللجوء إلى التكنولوجيا غير المنضبطة. وهنا وجّه الملك رسالةً للأوروبييّن مفادها أنّ الحياد السلبيّ أو الحذرَ المبالغ فيه لم يعد كافياً. وأنّ على دول أوروبا أن تكون فاعلةً في دعم الاعتدال، وتمكين الشراكات، والضغط باتجاه حلولٍ سياسيّةٍ عادلة لا تقوم على الازدواجيّة أو المصالح قصيرة المدى.
وقد حظيت هذه الرسالة باهتمامٍ كبيرٍ من البرلمانيّين الأوروبيّين الذين باتوا، تحت ضغط الرأيّ العام، يُدركون أنّ غضّ الطرف عن الجرائم في غزة أو دعم سياسات الإقصاء لا يُمكن أن يتماشى مع القيم الأوروبيّة المُعلنة.
وفي نهاية خطابه عرض جلالة الملك بشكلٍ مُقتضبٍ تجربةَ الأردن في الصمود والاستقرار، هذه الدولة التي رغم قلّة مواردها وجوارها المُشتعل، تمسّكت باستقرارها عبر الإصلاح السياسيّ والتشريعيّ والاقتصاديّ المتدرّج، واحترام المؤسسات، وتمكين الشباب والمرأة، بوصفها محطّات مهمةٍ في مسار البناء الديمقراطيّ، وأكّد جلالته في خطابه أنّ الإصلاح السياسيّ في الأردن هو خيارٌ استراتيجيّ، وليس استجابةً ظرفيّة.
إنّ خطاب جلالة الملك عبد الله الثاني أمام البرلمان الأوروبيّ لم يكن مُجرّد كلمةً بروتوكوليّة، بل بيان سياسيّ واضح، يحمل ملامح سياسة أردنيّة ثابتة ومُعتدلة، تستند إلى إرثٍ طويلٍ من الحكمة. فهذا الخطاب الذي حمل رسائل عديدة شكّل خطاباً استثنائيّاً في زمنٍ استثنائيّ.
د. عُريب هاني المومني
تعليقات القراء
أكتب تعليقا
تنويه :
تتم مراجعة كافة التعليقات ،وتنشر في حال الموافقة عليها فقط.
ويحتفظ موقع وكالة جراسا الاخبارية بحق حذف أي تعليق في أي وقت ،ولأي سبب كان،ولن ينشر أي تعليق يتضمن اساءة أوخروجا عن الموضوع المطروح ،او ان يتضمن اسماء اية شخصيات او يتناول اثارة للنعرات الطائفية والمذهبية او العنصرية آملين التقيد بمستوى راقي بالتعليقات حيث انها تعبر عن مدى تقدم وثقافة زوار موقع وكالة جراسا الاخبارية علما ان التعليقات تعبر عن أصحابها فقط ولا تعبر عن رأي الموقع والقائمين عليه. - يمكنك تسجيل اسمك المستعار الخاص بك لإستخدامه في تعليقاتك داخل الموقع |
|
الاسم : | |
البريد الالكتروني : | |
التعليق : | |