ورم المعدلات وخيبة القبولات


لا يجادل أحد أنَّ معدلات الثانوية العامة هذا العام قد تورمت بشكل غير مسبوق، وكلنا رجاء وأمل أن يكون الورم حميداً، وأن يبقى كذلك، وأن لا يتحول إلى ما لا يحمد عقباه!
الارتفاع المفرط في معدلات الثانوية العامة عمودياً وأفقياً، يبدو للوهلة الأولى أمراً مفرحاً، وإنجازاً تربوياً وتعليمياً كبيراً، ومفخرة للتعليم الأردني. ولكن المتبصر في الأمر يدرك أن هذا الارتفاع دلالة خلل كبير، واضطراب في المعايير، لا بد أن يؤدي إلى كارثة تعليمية، تهدم ولا تبني، تنفخ وتنفخ حتى تنفجر الفقاعة، مخلفة ويلات ومآسٍ وضحايا، لا ذنب لهم إلا إنهم صدقوا معدلاتهم الوهمية، وبنوا عليها قصوراً من الرمال!
المعدلات غير المسبوقة كماً وكيفاً لا تدل على عبقريات وذكاءات مفرطة، وإلا كان عندنا آلاف مثل اينشتاين وأديسون وزويل، ولو كان اينشتاين بيننا وقدم امتحان الثانوية العامة لما حصل على مثل هذه المعدلات الفلكية التي لا يستسيغها عقل ولا منطق!
وهب أن هذه المعدلات حقيقية ومنصفة، أليس من حق أصحابها إذاً الحصول على المقعد الجامعي الذي يحبون ويتمنون؟! هل يعقل أن يحصل طالب على معدل 97 ولا يستطيع دراسة الطب أو طب الأسنان في الأردن؟ أي منطق يقبل هذه المفارقة السوداء التي لا يمكن هضمها؟
ولو كانت الأمور بحجة محدودية عدد المقاعد المخصصة للطب أو لطب الأسنان أو الصيدلة والهندسة لوجدنا عذراً لمن يتحكمون في رقاب طلبتنا ويرسمون لهم مستقبلهم ظلماً وعدواناً. ولكن هذه الحجة تتهاوى عندما نرى العدد الكبير المقبول على البرنامج الموازي والدولي. أي أن المقاعد متوفرة لمن يدفع أكثر، لأن الأولوية أصبحت للأقدر على الشراء والدفع، وليذهب أصحاب المعدلات المرتفعة إلى الجحيم، فمن بطأ به رصيده لم يسرع به معدله!
إن ما يحدث من تغول للبرنامج الموازي والدولي على أحلام المتفوقين، يؤدي إلى خلخلة للنسيج الاجتماعي، وإلى بروز احتقانات هنا وهناك، وقد يهدد أمننا الاجتماعي بسبب نزوة وجشع قلة تضرب مصلحة الوطن والمواطنين عرض الحائط!
إن توفير مقعد لطالب أردني متفوق ومبدع ولو بالمجان أولى من مبلغ سيبقى تافهاً مهما كبر وارتفع، لأن هذا الطالب رأس مال كبير يتنامى ويكبر يوماً بعد يوم، بينما المبلغ الذي قدم على الطالب سيتلاشى يوماً بعد يوم، فويل لمن لا يحسن الحساب، ولم يتقن أبجديات الاقتصاد!
إن من حق كل طالب وفق معايير معقولة ومتفق عليها أن يحصل على مقعد جامعي كما يرغب، وان تفتح له أبواب الجامعات الرسمية على مصراعيها، ولتكن متطلبات ومعايير التخرج هي الفيصل في نهاية المطاف.
وأمر آخر لا أظنه يخفى على أحد، أن العدالة والمساواة تكاد تكون مفقودة بين طلبة الأردن، فكيف يخضع الجميع لذات المعايير والشروط للامتحان والقبول؟ وأي منطق يساوي بين طلبة لا يجدون معلماً إلا بشق الأنفس وخبرة معدومة، وطلبة ينعمون بمعلمين أكفاء من أول يوم إلى آخر يوم، بل يتدللون لتغيير المعلمين، ويجدون آذاناً صاغية!
ومن المهازل التي تفضح عري عقلانيتنا وسطحية عقولنا، وتفاهة حساباتنا، هذا التفاوت الكبير في رسوم الساعات بين جامعة رسمية وأخرى، مع أننا نعيش في وطن واحد، ولا تبعد جامعة عن أخرى إلا ساعة أو ساعتين، فهل يعقل أن يدفع طالب طب مؤتة 85 ديناراً لكل ساعة، بينما يدفع طالب طب العلوم والتكنولوجيا 36 ديناراً فقط، وقس على ذلك كثيراً من التخصصات، مع توفر ظروف وإمكانات أفضل. إن هذا يدل على اضطراب عقلي عند البعض، وتلزيم الطلبة ما لا يلزم، وكأن الطالب مسؤول عن مديونية الجامعة ورواتب موظفيها، وزيادة مبانيها، وسجاد رئيسها، وسيارته الفارهة، ومكتبه الأنيق، وسفريات بطانته من دولة إلى أخرى!
وغير بعيد عن مهزلة المعدلات والقبولات، موضوع الطلبة الذين أنهوا الصف العاشر ويجري تفريعهم إلى الفروع المختلفة للتعليم الثانوي، إذ تكمن الكارثة أن المعدلات العليا تتنافس على فرع الإدارة المعلوماتية، وتتجنب الفرع العلمي، ولا عجب أن تجد طالباً بمعدل 55 يقبل في الفرع العلمي، بينما لا يستطيع طالب حصل على معدل 80 أن يدخل فرع الإدارة المعلوماتية. وهذا بالطبع ليس دلالة على أفضلية الإدارة المعلوماتية ومستقبلها الزاهر، وإنما يعطي دلالة عن توجه خطر لطلبتنا نخو استسهال الحصول على الشهادة، وخوض غمار العمل بأقل التكاليف، وهو في معظمه عمل مكتبي لا يساهم في تقدم، ولا يؤدي إلى نهضة.
إن التعليم في الأردن يتهاوى يوماً بعد يوم، منذراً بإفلاس ربما يكون قريباً، وأن منظومة التعليم تفقد قيمتها ومصداقيتها، ولا أدل على ذلك مستوى الخريجين الهزيل، الذي سيناط بهم مصير الوطن ومستقبل أجياله، فلننظر أي مستقبل سيكون، وأي سنوات عجاف تنتظرنا؟!
إن التعليم على مختلف مستوياته ومجالاته ليس ترفاً، ولا يخضع للمزايدات والمناقصات، بل هو ضرورة حتمية لا يمكن أن تستغني عنها أمة تنشد أن تكون على قيد الحياة، وأن يكون لها وجود فاعل، بل هو من أولى أولويات الأمم الحية، وركن أساس من أركان وجودها. ومن هنا نرى أن ما يحدث لا يحتاج إلى مراجعة سريعة وجادة فحسب، بل يتطلب قرع ناقوس الخطر، وأن يتداعى الخبراء إلى دراسة ما يحدث، وعلاج الخلل من جذوره، وأن ترجع الأمور إلى نصابها، وأن يجتث كل داء وورم، وأن تعود المعدلات إلى رشدها، وأن تعاد الحقوق إلى أصحابها دون افتئات أحد على أحد، أو تغول أصحاب الدخول على أصحاب العقول.
mosa2x@yahoo.com



تعليقات القراء

زياد
نعم التعليم للاقدر على الدفع وقمة المهازل ان يحصل على معدل 98 او 97 ولا يستطيع على مقعد جامعي في تخصص يرغبه والذي يحصل على معدل اقل ويستطيع الدفع يحصل على ما يريد ادارة تربوية فاشلة من التعليم المدرسي الى التعليم الجامعي.الحالة صعبة ومحزنة تحتاج الى استنفار الجميع لدراسة هذا الوضع المقلق
07-09-2011 09:36 PM
خير ابو صعيليك
اشكر الكاتب على مقاله المبدع واقول ان الدستور الاردني نص صراحة على ان جميع الاردنيين متسلوون في الحقوق والواجبات وعليه فان كل اشكال الكوتات والحصص والمكرمات في القبول الجامعي تتعارض مع دستور البلاد ويجب الغائها ليبقى التنافس الحر فقط
08-09-2011 09:26 AM
ابو ليث
هل من يسمع ؟؟؟ الاصلاح مطلب شعبي على كافة المجالات والحراك الشعبي المتحرك الان على مهل قد يتسارع ويتسارع ليصبح ثورة حقيقية على الفساد والمفسدين ان لم يتنه اصحاب القرار ويعودوا الى صوابهم في تصويب الامور
08-09-2011 10:20 AM
سمير صلاحات
"مشكلة" التعليم الجامعي معقدة.
ولكن الملاحظ ان الاغنياء ومن يملك المال يستطيع حل المشكلة، اما الفقير فهناك الف عقبة وطرق مسدودة امامه.
08-09-2011 03:20 PM
Dr.Atieh
thanks my friend Mr. Mosa . this article is excellent , which came at the right time is perhaps read by decision-makers to conduct the necessary work for the benefit of the homeland and the citizen
14-09-2011 11:27 AM

أكتب تعليقا

تنويه :
تتم مراجعة كافة التعليقات ،وتنشر في حال الموافقة عليها فقط.
ويحتفظ موقع وكالة جراسا الاخبارية بحق حذف أي تعليق في أي وقت ،ولأي سبب كان،ولن ينشر أي تعليق يتضمن اساءة أوخروجا عن الموضوع المطروح ،او ان يتضمن اسماء اية شخصيات او يتناول اثارة للنعرات الطائفية والمذهبية او العنصرية آملين التقيد بمستوى راقي بالتعليقات حيث انها تعبر عن مدى تقدم وثقافة زوار موقع وكالة جراسا الاخبارية علما ان التعليقات تعبر عن أصحابها فقط ولا تعبر عن رأي الموقع والقائمين عليه.

- يمكنك تسجيل اسمك المستعار الخاص بك لإستخدامه في تعليقاتك داخل الموقع
الاسم :
البريد الالكتروني :
اظهار البريد الالكتروني
التعليق :
رمز التحقق : تحديث الرمز
أكتب الرمز :

إقرأ أيضاً

رياضة وشباب

محليات