الحقّ في النسيان الرقميّ: صراع الذاكرة الإلكترونيّة والكرامة الإنسانيّة
د. عُريب هاني المومني
في العصر الرقميّ المُتسارع، أصبحت البيانات الشخصيّة سلعةً ثمينة تُجمَع وتُخزَّن وتُستخدَم على نطاقٍ واسع، سواء من قِبل الشركات الكبرى أو الأفراد لأغراضٍ مُتعدّدة، من بينها: التسويق، التحليل، وحتى التوظيف. ومع هذا الانكشاف المُتزايد لحياتنا على الإنترنت، برز مطلبٌ إنسانيّ وقانونيّ مُلحّ وهو ما يُعرف بالحقّ في النسيان الرقميّ "Right to be Forgotten".
ويُعرّف الحقّ في النسيان الرقميّ بأنّه حقّ الفرد في طلب حذف أو إزالة معلومات شخصيّة تخصّه من الإنترنت، تلك المعلومات التي لم تعد ضروريّة أو أصبحت قديمة أو تُسبّب له ضرراً نفسيّاً أو اجتماعيّاً أو مهنيّاً، وبشكلٍ خاص عندما تكون هذه المعلومات لا تخدم المصلحة العامة. ويشملُ هذا الحقّ إزالة الروابط من نتائج مُحرّكات البحث أو حذف بيانات من المواقع الإلكترونيّة والمنصّات الرقميّة؛ حفاظاً على خصوصيّة الفرد وكرامته.
وظهر هذا الحقّ لأوّل مرةٍ كمفهومٍ قانونيّ واضحٍ في العام 2014م، بعد صدورِ قرارٍ تاريخيّ عن محكمة العدل الأوروبيّة في القضيّة المعروفة باسم"Google Spain v. AEPD and Mario Costeja González". في هذه القضيّة، طالب مواطن إسبانيّ بحذف روابط من نتائج بحث جوجل "Google" تتعلّق بإعلان قديم عن مزاد على ممتلكاته، تعود إلى سنوات مضت ولم تعد تعكس وضعه الحاليّ. وقد حكمت المحكمة لصالحه، مُعتبرةً أنّ للأفراد الحقّ في طلب إزالة معلومات شخصيّة من الإنترنت إذا لم تعد هذه المعلومات ضروريّة أو إذا تسبّبت بضررٍ لهم، شريطة ألّا تتعارض مع المصلحة العامّة أو حريّة التعبير.
وقد شكّل هذا القرار الأساس القانونيّ الأوّل للاعتراف بـالحقّ في النسيان الرقميّ في أوروبا، وتم لاحقاً تضمينه بشكلٍ رسميّ في اللائحة العامة لحماية البيانات الأوروبيّة (GDPR) التي دخلت حيز التنفيذ في العام 2018، لتصبح بذلك أوّل تشريع يُقرّ هذا الحقّ بشكلٍ واضحٍ ومُلزم.
إنّ الحقّ في النسيان الرقميّ ينبع من مبدأ احترام الحياة الخاصّة وكرامة الإنسان، كما يرتبط بحقوق أساسيّة أخرى مثل الحقّ في حماية البيانات الشخصيّة. وبالمقابل، يُثير هذا الحقّ جدلاً واسعاً عند تعارضه مع حريّة التعبير والحقّ في الوصول إلى المعلومة، خاصّة عندما يتعلّق الأمر بشخصيّات عامّة أو بمعلومات ذات طابعٍ اجتماعيّ أو سياسيّ، فالموازنة بين هذين الحقيّن تُعدّ تحدّياً حقيقيّاً أمام المُشرّعين والقضاة.
في العالم العربيّ، لا يزال الحقّ في النسيان الرقميّ غائباً عن معظم التشريعات على الرغم من أهميّته المتزايدة، ومع أنّ قوانين حماية البيانات الشخصيّة بدأت بالظهور تدريجيّاً، إلا أنّ العديد منها لا تتضمّن نصوصاً صريحة تمنح الأفراد هذا الحقّ، بل تكتفي بمنح الأفراد حقوقاً عامّة مثل الوصول إلى البيانات أو طلب تعديلها، دون النص الواضح على إمكانيّة محوها نهائيّاً من الفضاء الرقميّ كما هو الحال في التشريعات الأوروبيّة المتقدّمة.
وفي ظلّ توسع استخدام الذكاء الاصطناعيّ ومنصّات التواصل الاجتماعيّ، أصبح من الضروريّ تطوير منظومة قانونيّة عربيّة مُتكاملة تعترف بهذا الحقّ وتفعّله، مع اعتماد آليّات واضحة للطلب والتنفيذ، وضمان الرقابة القضائيّة، ضمن إطارٍ يُراعي الخصوصيّات الثقافيّة والاجتماعيّة، دون أن يُستخدم كذريعةٍ لحجب المعلومات أو تقييد الحريّات الإعلاميّة.
ويُعدّ الأردن واحداً من الدول العربيّة التي أقرّت تشريعاً يُنظّم حماية البيانات الشخصيّة، إذ يتضمن قانون حماية البيانات الشخصيّة الأردنيّ رقم (24) لسنة 2023 نصوصاً تقترب من مضمون الحقّ في النسيان الرقميّ، حيث تمنح المادة (20) من القانون الأفراد الحقّ في طلب محو أو إخفاء بياناتهم الشخصيّة لدى الجهات التي تقوم بمعالجتها في حالات وأغراض مُحدّدة. وبالتالي فإنّ مضمون هذه المادة ينسجم مع الاتجاهات الدوليّة الحديثة في حماية هذا الحقّ، ما يُعدّ خطوة متقدّمة في سياق تعزيز الحقوق الرقميّة في الأردن. وفي الوقت ذاته، فإنّ احترام هذا الحقّ يتطلّب تطوير آليّات التنفيذ، وتعزيز الوعيّ المجتمعيّ، وضمان التزام جميع الأطراف المعنيّة بحماية البيانات الشخصيّة.
الحقّ في النسيان الرقميّ ليس دعوة للهروب من الماضي أو ترفاً قانونياً، بل ضرورة إنسانيّة تعكس احترام الكرامة الشخصيّة في بيئةٍ رقميّة لا تنسى.
د. عُريب هاني المومني
في العصر الرقميّ المُتسارع، أصبحت البيانات الشخصيّة سلعةً ثمينة تُجمَع وتُخزَّن وتُستخدَم على نطاقٍ واسع، سواء من قِبل الشركات الكبرى أو الأفراد لأغراضٍ مُتعدّدة، من بينها: التسويق، التحليل، وحتى التوظيف. ومع هذا الانكشاف المُتزايد لحياتنا على الإنترنت، برز مطلبٌ إنسانيّ وقانونيّ مُلحّ وهو ما يُعرف بالحقّ في النسيان الرقميّ "Right to be Forgotten".
ويُعرّف الحقّ في النسيان الرقميّ بأنّه حقّ الفرد في طلب حذف أو إزالة معلومات شخصيّة تخصّه من الإنترنت، تلك المعلومات التي لم تعد ضروريّة أو أصبحت قديمة أو تُسبّب له ضرراً نفسيّاً أو اجتماعيّاً أو مهنيّاً، وبشكلٍ خاص عندما تكون هذه المعلومات لا تخدم المصلحة العامة. ويشملُ هذا الحقّ إزالة الروابط من نتائج مُحرّكات البحث أو حذف بيانات من المواقع الإلكترونيّة والمنصّات الرقميّة؛ حفاظاً على خصوصيّة الفرد وكرامته.
وظهر هذا الحقّ لأوّل مرةٍ كمفهومٍ قانونيّ واضحٍ في العام 2014م، بعد صدورِ قرارٍ تاريخيّ عن محكمة العدل الأوروبيّة في القضيّة المعروفة باسم"Google Spain v. AEPD and Mario Costeja González". في هذه القضيّة، طالب مواطن إسبانيّ بحذف روابط من نتائج بحث جوجل "Google" تتعلّق بإعلان قديم عن مزاد على ممتلكاته، تعود إلى سنوات مضت ولم تعد تعكس وضعه الحاليّ. وقد حكمت المحكمة لصالحه، مُعتبرةً أنّ للأفراد الحقّ في طلب إزالة معلومات شخصيّة من الإنترنت إذا لم تعد هذه المعلومات ضروريّة أو إذا تسبّبت بضررٍ لهم، شريطة ألّا تتعارض مع المصلحة العامّة أو حريّة التعبير.
وقد شكّل هذا القرار الأساس القانونيّ الأوّل للاعتراف بـالحقّ في النسيان الرقميّ في أوروبا، وتم لاحقاً تضمينه بشكلٍ رسميّ في اللائحة العامة لحماية البيانات الأوروبيّة (GDPR) التي دخلت حيز التنفيذ في العام 2018، لتصبح بذلك أوّل تشريع يُقرّ هذا الحقّ بشكلٍ واضحٍ ومُلزم.
إنّ الحقّ في النسيان الرقميّ ينبع من مبدأ احترام الحياة الخاصّة وكرامة الإنسان، كما يرتبط بحقوق أساسيّة أخرى مثل الحقّ في حماية البيانات الشخصيّة. وبالمقابل، يُثير هذا الحقّ جدلاً واسعاً عند تعارضه مع حريّة التعبير والحقّ في الوصول إلى المعلومة، خاصّة عندما يتعلّق الأمر بشخصيّات عامّة أو بمعلومات ذات طابعٍ اجتماعيّ أو سياسيّ، فالموازنة بين هذين الحقيّن تُعدّ تحدّياً حقيقيّاً أمام المُشرّعين والقضاة.
في العالم العربيّ، لا يزال الحقّ في النسيان الرقميّ غائباً عن معظم التشريعات على الرغم من أهميّته المتزايدة، ومع أنّ قوانين حماية البيانات الشخصيّة بدأت بالظهور تدريجيّاً، إلا أنّ العديد منها لا تتضمّن نصوصاً صريحة تمنح الأفراد هذا الحقّ، بل تكتفي بمنح الأفراد حقوقاً عامّة مثل الوصول إلى البيانات أو طلب تعديلها، دون النص الواضح على إمكانيّة محوها نهائيّاً من الفضاء الرقميّ كما هو الحال في التشريعات الأوروبيّة المتقدّمة.
وفي ظلّ توسع استخدام الذكاء الاصطناعيّ ومنصّات التواصل الاجتماعيّ، أصبح من الضروريّ تطوير منظومة قانونيّة عربيّة مُتكاملة تعترف بهذا الحقّ وتفعّله، مع اعتماد آليّات واضحة للطلب والتنفيذ، وضمان الرقابة القضائيّة، ضمن إطارٍ يُراعي الخصوصيّات الثقافيّة والاجتماعيّة، دون أن يُستخدم كذريعةٍ لحجب المعلومات أو تقييد الحريّات الإعلاميّة.
ويُعدّ الأردن واحداً من الدول العربيّة التي أقرّت تشريعاً يُنظّم حماية البيانات الشخصيّة، إذ يتضمن قانون حماية البيانات الشخصيّة الأردنيّ رقم (24) لسنة 2023 نصوصاً تقترب من مضمون الحقّ في النسيان الرقميّ، حيث تمنح المادة (20) من القانون الأفراد الحقّ في طلب محو أو إخفاء بياناتهم الشخصيّة لدى الجهات التي تقوم بمعالجتها في حالات وأغراض مُحدّدة. وبالتالي فإنّ مضمون هذه المادة ينسجم مع الاتجاهات الدوليّة الحديثة في حماية هذا الحقّ، ما يُعدّ خطوة متقدّمة في سياق تعزيز الحقوق الرقميّة في الأردن. وفي الوقت ذاته، فإنّ احترام هذا الحقّ يتطلّب تطوير آليّات التنفيذ، وتعزيز الوعيّ المجتمعيّ، وضمان التزام جميع الأطراف المعنيّة بحماية البيانات الشخصيّة.
الحقّ في النسيان الرقميّ ليس دعوة للهروب من الماضي أو ترفاً قانونياً، بل ضرورة إنسانيّة تعكس احترام الكرامة الشخصيّة في بيئةٍ رقميّة لا تنسى.
تعليقات القراء
أكتب تعليقا
تنويه :
تتم مراجعة كافة التعليقات ،وتنشر في حال الموافقة عليها فقط.
ويحتفظ موقع وكالة جراسا الاخبارية بحق حذف أي تعليق في أي وقت ،ولأي سبب كان،ولن ينشر أي تعليق يتضمن اساءة أوخروجا عن الموضوع المطروح ،او ان يتضمن اسماء اية شخصيات او يتناول اثارة للنعرات الطائفية والمذهبية او العنصرية آملين التقيد بمستوى راقي بالتعليقات حيث انها تعبر عن مدى تقدم وثقافة زوار موقع وكالة جراسا الاخبارية علما ان التعليقات تعبر عن أصحابها فقط ولا تعبر عن رأي الموقع والقائمين عليه. - يمكنك تسجيل اسمك المستعار الخاص بك لإستخدامه في تعليقاتك داخل الموقع |
|
الاسم : | |
البريد الالكتروني : | |
التعليق : | |