قناة "الحرّة" في مهب ريح أوامر تنفيذية على الهواء مباشرة
جراسا - منذ عودته في 20 كانون الثاني الماضي 2025، للمكتب البيضاوي في البيت الأبيض، كرّس الرئيس الأميركي دولاند ترامب ظاهرة بدأت خجولةً مع ولايته السابقة حين يوقّع على الهواء مباشرة، وبما لم يفعله أحد قبله، أوامر تنفيذية داخلية أو خارجية. هذا ما فعله حين وقّع في السادس من كانون الأول/ ديسمبر 2017، على ضمّ القدس الشرقية الواردة في بنود اتفاقيات "أوسلو" بوصفها عاصمة الدولة الفلسطينية المفترضة، معترفًا من خلال توقيعه هذا (رسميًا) بالقدس (عاصمة) لإسرائيل، وحين وقّع في 25 آذار/ مارس 2019، على ضمّ هضبة الجولان السورية، وحين وقّع في يوم تسلّمه سلطاته الدستورية للمرّة الثانية قبل أشهر قليلة زهاء 100 أمرٍ تنفيذيٍّ دفعة واحدة (آ والله).
في سياق متصل من سلسلة الأوامر التنفيذية الاستعراضية الفاقعة، وقّع ترامب في آذار/ مارس الماضي، على أمر تنفيذي يقرّ من خلاله بقرار إدارته إنهاء كل دعم مادي لوسائل الإعلام الممولة من الحكومة، وهو ما برّره وبرّرته إدارته بتبنّي سياسات رامية إلى "خفض الميزانية الفدرالية بشكلٍ جذريّ". وفي مقدمة وسائل الإعلام الأميركية المموّلة من الحكومة الفدرالية تأتي قناة "الحرّة" الإخبارية وأخواتها ومنها إذاعة فدرالية تبث داخل أميركا، وإذاعات تبثّ لمنطقة الشرق الأوسط وشمال إفريقيا.
في التداعيات المباشرة للقرار، أعلنت شبكة الشرق الأوسط للإرسال (MBN) أنها ستضطر إلى إنهاء خدمات عدد كبير من موظفيها خلال الأيام أو الأسابيع المقبلة، وذلك نتيجة لظروف مالية خارجة عن إرادتها تمثّلت في عدم استلام مخصصاتها المالية لشهر نيسان/ أبريل 2025، من الوكالة الأميركية للإعلام العالمي (USAGM)، الجهة التي تقوم بتمويل الشبكة من خلال اعتمادات يخصصها الكونغرس الأميركي.
وقائع متسارعة، وقرارات غاشمة تنذر بما هو أسوأ وبفقد زملاء في مهنة المتاعب مصدر رزقهم بجرّة قلم من جهة، وبحرمانهم، من جهة ثانية، حتى، من الحقوق المتداولة والمتعارف عليها في حالة قرار إنهاء خدمة تتبناه الجهة المموّلة/ المشغّلة؛ من مكافأة نهاية خدمة، ورواتب ومستحقات وبدل إجازات، وكل ما من شأنه أن يخفف من جور القرار، ويشكّل مصدّات لِتوحّش الرأسمالية حين تغدو بلا أقنعة. ما يجري تداوله من داخل (أسوار) القناة، وبين الزملاء في الشبكة المدعومة من الفدرالية الأميركية، أن (أزمتهم) لا تقف، فقط، عند قرار الإدارة الأميركية، بل تتعداه نحو ما تعرضوا له من تعسف في تطبيق قرارها من جهة إدارتهم التي، كما يؤكدون، سارعت فور صدور القرار إلى عدم صرف راتب شهر نيسان/ إبرايل، وامتنعت عن إعطاء الزملاء الإعلاميين حقوقهم، وعن، حتى، الاستماع إلى مطالبهم، وإدارة ظهرها (كاملًا) لهم، في حين هم يرون أن قرار توقّف الدعم ينبغي أن لا يشمل، بالطبع، ما صُرف، فعلًا، من دعم سابق، وحتمًا، كان لدى حساب القناة والشبكة ما يغطي رواتب موظفيها وإعلامييها والعاملين فيها حتى لشهرِ إنذارٍ مقبل! فما الذي جرى؟ وتحت أي عنوان يمكن إدراج مسارعة إدارة القناة إلى تطبيق القرار بقسوة لا يحتملها القرار نفسه؟ وهل في الأمر شبهة فساد؟ وهل يمكن إدراج الأمر التنفيذي الخاص بـ"الحرة" في سياق ملاحظات قديمة حول أداء القناة، يلتقي حولها (أي هذه الملاحظات) الحزبان الديمقراطي والجمهوري؟ وهل في وارد إدارة ترامب التراجع عن قرار عدم إرسال المخصصات، وصولًا إلى التراجع عن قرار الإغلاق؟ وإلى أي مدى يعكس قرار إنهاء دعم وسائل الإعلام المموّلة، إدارة ظهر الحكومة لأذرع قوة أميركا الناعمة؟
أسئلةٌ كثيرةٌ محيرةٌ متداخلةٌ ولدت من رحم قرار إغلاق قناة كانت تبني أميركا عليها آمالًا عراضًا، ولعلها أرادتها في لحظةٍ تاريخيةٍ ما، منافِسة لقنواتٍ إخباريةٍ عربيةٍ كبرى من طراز "الجزيرة" على سبيل المثال. وما أن وُضِعَتْ هذه الأسئلة وغيرها بين يدي زملاء من داخل القناة، وزملاء عملوا في القناة، وزملاء تؤهلهم مواقعهم وتخصصاتهم ووجودهم في بلاد العم سام لتقديم إجابات من خارج القناة عن بعض هذه الأسئلة، حتى سارع كثير منهم لمدّنا بإجابات قد تمنحنا بعض الحقيقة في أضعف الإيمان.
بلال خبيز: أعاصير متعددة الوجوه
الشاعر والفنان والصحفي اللبناني المقيم في كاليفورنيا الزميل بلال خبيز، قدم حول قصة "الحرّة" منذ تأسيسها مداخلة هذا نصّها:
"تأسست قناة "الحرّة" في زمن كانت فيه الولايات المتحدة تجرّب حظها في تغيير العالم وفرض قيمها عليه. وهي قيم كان القيمون على السياسات والأفكار في العالم أجمع يفترضونها الأنسب لكل الدول والشعوب والأعراق. لكن الأفكار دائمًا ما تثبت عند التجربة أنها لم تكن تحسب حسابًا لكل شيء. فجأة يصبح معتنقو الأفكار الداعية إلى التسامح والمحبة قتلة ولا يتورعون عن إبادة شعوب بأكملها.
على أي حال ليس الوقت مناسبًا لإجراء مثل هذه الحسابات اليوم. لكن القيادة الأميركية التي تأسست قناة الحرّة في
ظلها، لم تعد موجودة، وما عادت سياساتها تلك تلقى قبولًا عند صناع الرأي العام الأميركي. والحال، تأسست القناة في لحظة انعطاف كبرى، سرعان ما تراجع عنها أصحابها. ويمكن القول إن القناة منذ تلك اللحظة فقدت وظيفتها. باتت سفينة تتقاذفها أمواج هوجاء، وقصارى ما حاول القيمون عليها بذله من جهد كان يتلخص بنجاتها من الأعاصير بأقل قدر ممكن من الخسائر. هذه القناة كانت تخسر كل عام من رصيدها القليل، مالًا ووظيفة وقدرة على المنافسة والجذب.
بين الذين عملوا في هذه القناة هناك المئات من الصحافيين الألمعيين، وبعضهم يدير اليوم قنوات كبرى. لكن وجودهم في الحرّة كان يعزلهم عن محيطيْن: كانوا معزولين عن عالمهم العربي جغرافيا أولًا ورسالة ثانيا. وكانوا معزولين عن المجتمع الأميركي، لأن دورهم كان محصورًا ببث أخبار وبرامج عربية في بلد لا يفهم هذه اللغة.
لهذا يبدو أن هؤلاء، وجلّهم من الصحافيين الأكفّاء، ساقتهم أقدارهم إلى العمل في مكان مخفيٍّ لا تراه الأعين. ولهذا أيضًا، بدا سهلًا على الإدارة الأمريكية الجديدة أن تقرر وقف تمويل القناة وترك هؤلاء للعراء حرفيًا. لقد فقدوا معظم صلاتهم السابقة لأنهم عملوا في هذه القناة، ولم ينجحوا في إقامة صلات جديدة لأنهم عملوا في هذه القناة أيضًا.
علي الزبيدي: قرارٌ متوقّع
الزميل الإعلامي علي الزبيدي الذي قدّم في شهر أيلول/ سبتمبر الماضي 2024، استقالته من "الحرّة" كمذيع ومعد برامج، بعد قرار القناة إيقاف برنامج له ومحاولتها فرض وظيفة أخرى عليه لم تناسبه يرى في مداخلته حول الموضوع أن قرار الإغلاق كان متوقعًا، ليس بالنسبة له فقط، ولم بالنسبة لكثير ممن تابعوا مسيرة الحرة خاصة بعد تراجعها المتسارع في السنوات الأخيرة. يقول الزبيدي: "قرار إدارة ترامب لم يكن مفاجئًا، فقد سبق أن طُرِح قبل فوز ترامب في الانتخابات وقُدِّم كخطةِ عملٍ لإدارته". وهو يؤكد أن موضوع إغلاق الوكالة الأميركية للإعلام الدولي USAGM وكل المؤسسات التابعة لها، وبما فيهم قناة الحرّة "طُرِحَ بوضوحٍ، ما يجعلني أكاد أجزم أن إدارة ترامب لن تتراجع عن قرارها تجميد التمويل وبالتالي الإغلاق". زميلة في القناة آثرت عدم ذكر اسمها، تتفق مع الزبيدي في عدم إمكانية تراجع إدارة ترامب عن قرارها، رائيةً أن تراجع الحكومة عن خططها لتقليص القوة العاملة والإنفاق "مستبعد"، ومرجّحة أن تواصل الحكومة "جرّ الموضوع قضائيًا خصوصًا أنها لم تخف نيتها إعادة هيكلة الوكالة الفدرالية للإعلام الدولي".
القرار النهائي ومصير القناة سيحسمه، بحسب الزميلة، الكونغرس في قانون الموازنة الذي يصدر في أيلول/ سبتمبر المقبل 2025. على كل حال لا تستبعد الزميلة تدخّل جماعات ضغط محاولة ثني الكونغرس عن التوجّه نحو إغلاق الحرة وأخواتها، ذاهبةً إلى أن "العبرة هي لمن ستكون الغلبة في المعركة السياسية". وتوضح أن هناك شعورًا ملازمًا لكل من يقيم ضمن دوائر القرار في العاصمة واشنطن بوجود إجماع سياسي غير معلن على ضرورة تخفيض النفقات؛ بما يرجح "كفّة التضحية بالحرّة والقنوات الأخرى كعبء ماليٍّ أقل أهمية وجدوى".
الزبيدي والزميلة يتفقان مرّة ثانية حول مسألة وجود قائمة ملاحظات ليست قليلة بحق "الحرّة"، ويقول الزبيدي في مداخلته "وفقًا لرواية فريق ترامب، الرسالة الأميركية كانت غائبة عن "الحرّة وأخواتها"، وبالتالي سمح ضياع الهوية لأجندات "غير أميركية" بالظهور". ويؤكد علي الزبيدي أن مصدرًا في فريق ترامب الانتقالي أخبره مرّة أن القناة من وجهة نظرهم أقرب لخطابات بعض الدول العربية منها إلى الخطاب الأميركي "فهم لا يريدون أن يزعّلو أحدًا من القادة العرب"!
الزبيدي يكشف في سياق متصل أن قرار عدم صرف المخصصات المالية للموظفين المسرّحين، يخص إدارة القناة التي قرّرت "بكل استهتار عدم الصرف رغم امتلاكها المخصصات والأموال الكافية، فقرار إيقاف التمويل الصادر عن إدارة ترامب يخص التمويل "المستقبلي" لمنْحة القناة. وعند صدوره كان لدى الحرّة من الأموال ما يغطي إجمالي ساعات الإجازات المدفوعة وجزءًا كبيرًا من مكافئات نهاية الخدمة.. لكن إدارة الحرّة اختارت الاستمرار في تجفيف ما لديها من أموال حتى وصل الحال إلى ما هو عليه". الزبيدي يختم بنبرة لا تخلو من قهر: "حقوق الناس ضاعت في مكان يتحدث عن حقوق الإنسان ويقول إنه يدافع عن موظفيه".
أكثر من زميل لمّحوا إلى مسألة تجري خلف الكواليس، ألا وهي أن ثمة جهودًا لتأسيس تجربة إعلامية جديدة تخاطب العالم العربي بلغة "أكثر عصرية وبرسائل أميركية واضحة وغير مموّهة".
منذ عودته في 20 كانون الثاني الماضي 2025، للمكتب البيضاوي في البيت الأبيض، كرّس الرئيس الأميركي دولاند ترامب ظاهرة بدأت خجولةً مع ولايته السابقة حين يوقّع على الهواء مباشرة، وبما لم يفعله أحد قبله، أوامر تنفيذية داخلية أو خارجية. هذا ما فعله حين وقّع في السادس من كانون الأول/ ديسمبر 2017، على ضمّ القدس الشرقية الواردة في بنود اتفاقيات "أوسلو" بوصفها عاصمة الدولة الفلسطينية المفترضة، معترفًا من خلال توقيعه هذا (رسميًا) بالقدس (عاصمة) لإسرائيل، وحين وقّع في 25 آذار/ مارس 2019، على ضمّ هضبة الجولان السورية، وحين وقّع في يوم تسلّمه سلطاته الدستورية للمرّة الثانية قبل أشهر قليلة زهاء 100 أمرٍ تنفيذيٍّ دفعة واحدة (آ والله).
في سياق متصل من سلسلة الأوامر التنفيذية الاستعراضية الفاقعة، وقّع ترامب في آذار/ مارس الماضي، على أمر تنفيذي يقرّ من خلاله بقرار إدارته إنهاء كل دعم مادي لوسائل الإعلام الممولة من الحكومة، وهو ما برّره وبرّرته إدارته بتبنّي سياسات رامية إلى "خفض الميزانية الفدرالية بشكلٍ جذريّ". وفي مقدمة وسائل الإعلام الأميركية المموّلة من الحكومة الفدرالية تأتي قناة "الحرّة" الإخبارية وأخواتها ومنها إذاعة فدرالية تبث داخل أميركا، وإذاعات تبثّ لمنطقة الشرق الأوسط وشمال إفريقيا.
في التداعيات المباشرة للقرار، أعلنت شبكة الشرق الأوسط للإرسال (MBN) أنها ستضطر إلى إنهاء خدمات عدد كبير من موظفيها خلال الأيام أو الأسابيع المقبلة، وذلك نتيجة لظروف مالية خارجة عن إرادتها تمثّلت في عدم استلام مخصصاتها المالية لشهر نيسان/ أبريل 2025، من الوكالة الأميركية للإعلام العالمي (USAGM)، الجهة التي تقوم بتمويل الشبكة من خلال اعتمادات يخصصها الكونغرس الأميركي.
وقائع متسارعة، وقرارات غاشمة تنذر بما هو أسوأ وبفقد زملاء في مهنة المتاعب مصدر رزقهم بجرّة قلم من جهة، وبحرمانهم، من جهة ثانية، حتى، من الحقوق المتداولة والمتعارف عليها في حالة قرار إنهاء خدمة تتبناه الجهة المموّلة/ المشغّلة؛ من مكافأة نهاية خدمة، ورواتب ومستحقات وبدل إجازات، وكل ما من شأنه أن يخفف من جور القرار، ويشكّل مصدّات لِتوحّش الرأسمالية حين تغدو بلا أقنعة. ما يجري تداوله من داخل (أسوار) القناة، وبين الزملاء في الشبكة المدعومة من الفدرالية الأميركية، أن (أزمتهم) لا تقف، فقط، عند قرار الإدارة الأميركية، بل تتعداه نحو ما تعرضوا له من تعسف في تطبيق قرارها من جهة إدارتهم التي، كما يؤكدون، سارعت فور صدور القرار إلى عدم صرف راتب شهر نيسان/ إبرايل، وامتنعت عن إعطاء الزملاء الإعلاميين حقوقهم، وعن، حتى، الاستماع إلى مطالبهم، وإدارة ظهرها (كاملًا) لهم، في حين هم يرون أن قرار توقّف الدعم ينبغي أن لا يشمل، بالطبع، ما صُرف، فعلًا، من دعم سابق، وحتمًا، كان لدى حساب القناة والشبكة ما يغطي رواتب موظفيها وإعلامييها والعاملين فيها حتى لشهرِ إنذارٍ مقبل! فما الذي جرى؟ وتحت أي عنوان يمكن إدراج مسارعة إدارة القناة إلى تطبيق القرار بقسوة لا يحتملها القرار نفسه؟ وهل في الأمر شبهة فساد؟ وهل يمكن إدراج الأمر التنفيذي الخاص بـ"الحرة" في سياق ملاحظات قديمة حول أداء القناة، يلتقي حولها (أي هذه الملاحظات) الحزبان الديمقراطي والجمهوري؟ وهل في وارد إدارة ترامب التراجع عن قرار عدم إرسال المخصصات، وصولًا إلى التراجع عن قرار الإغلاق؟ وإلى أي مدى يعكس قرار إنهاء دعم وسائل الإعلام المموّلة، إدارة ظهر الحكومة لأذرع قوة أميركا الناعمة؟
أسئلةٌ كثيرةٌ محيرةٌ متداخلةٌ ولدت من رحم قرار إغلاق قناة كانت تبني أميركا عليها آمالًا عراضًا، ولعلها أرادتها في لحظةٍ تاريخيةٍ ما، منافِسة لقنواتٍ إخباريةٍ عربيةٍ كبرى من طراز "الجزيرة" على سبيل المثال. وما أن وُضِعَتْ هذه الأسئلة وغيرها بين يدي زملاء من داخل القناة، وزملاء عملوا في القناة، وزملاء تؤهلهم مواقعهم وتخصصاتهم ووجودهم في بلاد العم سام لتقديم إجابات من خارج القناة عن بعض هذه الأسئلة، حتى سارع كثير منهم لمدّنا بإجابات قد تمنحنا بعض الحقيقة في أضعف الإيمان.
بلال خبيز: أعاصير متعددة الوجوه
الشاعر والفنان والصحفي اللبناني المقيم في كاليفورنيا الزميل بلال خبيز، قدم حول قصة "الحرّة" منذ تأسيسها مداخلة هذا نصّها:
"تأسست قناة "الحرّة" في زمن كانت فيه الولايات المتحدة تجرّب حظها في تغيير العالم وفرض قيمها عليه. وهي قيم كان القيمون على السياسات والأفكار في العالم أجمع يفترضونها الأنسب لكل الدول والشعوب والأعراق. لكن الأفكار دائمًا ما تثبت عند التجربة أنها لم تكن تحسب حسابًا لكل شيء. فجأة يصبح معتنقو الأفكار الداعية إلى التسامح والمحبة قتلة ولا يتورعون عن إبادة شعوب بأكملها.
على أي حال ليس الوقت مناسبًا لإجراء مثل هذه الحسابات اليوم. لكن القيادة الأميركية التي تأسست قناة الحرّة في
ظلها، لم تعد موجودة، وما عادت سياساتها تلك تلقى قبولًا عند صناع الرأي العام الأميركي. والحال، تأسست القناة في لحظة انعطاف كبرى، سرعان ما تراجع عنها أصحابها. ويمكن القول إن القناة منذ تلك اللحظة فقدت وظيفتها. باتت سفينة تتقاذفها أمواج هوجاء، وقصارى ما حاول القيمون عليها بذله من جهد كان يتلخص بنجاتها من الأعاصير بأقل قدر ممكن من الخسائر. هذه القناة كانت تخسر كل عام من رصيدها القليل، مالًا ووظيفة وقدرة على المنافسة والجذب.
بين الذين عملوا في هذه القناة هناك المئات من الصحافيين الألمعيين، وبعضهم يدير اليوم قنوات كبرى. لكن وجودهم في الحرّة كان يعزلهم عن محيطيْن: كانوا معزولين عن عالمهم العربي جغرافيا أولًا ورسالة ثانيا. وكانوا معزولين عن المجتمع الأميركي، لأن دورهم كان محصورًا ببث أخبار وبرامج عربية في بلد لا يفهم هذه اللغة.
لهذا يبدو أن هؤلاء، وجلّهم من الصحافيين الأكفّاء، ساقتهم أقدارهم إلى العمل في مكان مخفيٍّ لا تراه الأعين. ولهذا أيضًا، بدا سهلًا على الإدارة الأمريكية الجديدة أن تقرر وقف تمويل القناة وترك هؤلاء للعراء حرفيًا. لقد فقدوا معظم صلاتهم السابقة لأنهم عملوا في هذه القناة، ولم ينجحوا في إقامة صلات جديدة لأنهم عملوا في هذه القناة أيضًا.
علي الزبيدي: قرارٌ متوقّع
الزميل الإعلامي علي الزبيدي الذي قدّم في شهر أيلول/ سبتمبر الماضي 2024، استقالته من "الحرّة" كمذيع ومعد برامج، بعد قرار القناة إيقاف برنامج له ومحاولتها فرض وظيفة أخرى عليه لم تناسبه يرى في مداخلته حول الموضوع أن قرار الإغلاق كان متوقعًا، ليس بالنسبة له فقط، ولم بالنسبة لكثير ممن تابعوا مسيرة الحرة خاصة بعد تراجعها المتسارع في السنوات الأخيرة. يقول الزبيدي: "قرار إدارة ترامب لم يكن مفاجئًا، فقد سبق أن طُرِح قبل فوز ترامب في الانتخابات وقُدِّم كخطةِ عملٍ لإدارته". وهو يؤكد أن موضوع إغلاق الوكالة الأميركية للإعلام الدولي USAGM وكل المؤسسات التابعة لها، وبما فيهم قناة الحرّة "طُرِحَ بوضوحٍ، ما يجعلني أكاد أجزم أن إدارة ترامب لن تتراجع عن قرارها تجميد التمويل وبالتالي الإغلاق". زميلة في القناة آثرت عدم ذكر اسمها، تتفق مع الزبيدي في عدم إمكانية تراجع إدارة ترامب عن قرارها، رائيةً أن تراجع الحكومة عن خططها لتقليص القوة العاملة والإنفاق "مستبعد"، ومرجّحة أن تواصل الحكومة "جرّ الموضوع قضائيًا خصوصًا أنها لم تخف نيتها إعادة هيكلة الوكالة الفدرالية للإعلام الدولي".
القرار النهائي ومصير القناة سيحسمه، بحسب الزميلة، الكونغرس في قانون الموازنة الذي يصدر في أيلول/ سبتمبر المقبل 2025. على كل حال لا تستبعد الزميلة تدخّل جماعات ضغط محاولة ثني الكونغرس عن التوجّه نحو إغلاق الحرة وأخواتها، ذاهبةً إلى أن "العبرة هي لمن ستكون الغلبة في المعركة السياسية". وتوضح أن هناك شعورًا ملازمًا لكل من يقيم ضمن دوائر القرار في العاصمة واشنطن بوجود إجماع سياسي غير معلن على ضرورة تخفيض النفقات؛ بما يرجح "كفّة التضحية بالحرّة والقنوات الأخرى كعبء ماليٍّ أقل أهمية وجدوى".
الزبيدي والزميلة يتفقان مرّة ثانية حول مسألة وجود قائمة ملاحظات ليست قليلة بحق "الحرّة"، ويقول الزبيدي في مداخلته "وفقًا لرواية فريق ترامب، الرسالة الأميركية كانت غائبة عن "الحرّة وأخواتها"، وبالتالي سمح ضياع الهوية لأجندات "غير أميركية" بالظهور". ويؤكد علي الزبيدي أن مصدرًا في فريق ترامب الانتقالي أخبره مرّة أن القناة من وجهة نظرهم أقرب لخطابات بعض الدول العربية منها إلى الخطاب الأميركي "فهم لا يريدون أن يزعّلو أحدًا من القادة العرب"!
الزبيدي يكشف في سياق متصل أن قرار عدم صرف المخصصات المالية للموظفين المسرّحين، يخص إدارة القناة التي قرّرت "بكل استهتار عدم الصرف رغم امتلاكها المخصصات والأموال الكافية، فقرار إيقاف التمويل الصادر عن إدارة ترامب يخص التمويل "المستقبلي" لمنْحة القناة. وعند صدوره كان لدى الحرّة من الأموال ما يغطي إجمالي ساعات الإجازات المدفوعة وجزءًا كبيرًا من مكافئات نهاية الخدمة.. لكن إدارة الحرّة اختارت الاستمرار في تجفيف ما لديها من أموال حتى وصل الحال إلى ما هو عليه". الزبيدي يختم بنبرة لا تخلو من قهر: "حقوق الناس ضاعت في مكان يتحدث عن حقوق الإنسان ويقول إنه يدافع عن موظفيه".
أكثر من زميل لمّحوا إلى مسألة تجري خلف الكواليس، ألا وهي أن ثمة جهودًا لتأسيس تجربة إعلامية جديدة تخاطب العالم العربي بلغة "أكثر عصرية وبرسائل أميركية واضحة وغير مموّهة".
تعليقات القراء
أكتب تعليقا
تنويه :
تتم مراجعة كافة التعليقات ،وتنشر في حال الموافقة عليها فقط.
ويحتفظ موقع وكالة جراسا الاخبارية بحق حذف أي تعليق في أي وقت ،ولأي سبب كان،ولن ينشر أي تعليق يتضمن اساءة أوخروجا عن الموضوع المطروح ،او ان يتضمن اسماء اية شخصيات او يتناول اثارة للنعرات الطائفية والمذهبية او العنصرية آملين التقيد بمستوى راقي بالتعليقات حيث انها تعبر عن مدى تقدم وثقافة زوار موقع وكالة جراسا الاخبارية علما ان التعليقات تعبر عن أصحابها فقط ولا تعبر عن رأي الموقع والقائمين عليه. - يمكنك تسجيل اسمك المستعار الخاص بك لإستخدامه في تعليقاتك داخل الموقع |
|
الاسم : | |
البريد الالكتروني : | |
التعليق : | |