أبعد من غزة ..



منذ اللحظة الأولى، لبدء العدوان الإسرائيلي على غزة، كان واضحا للمراقبين أن المعركة أبعد ممّا تبدو عليه؛ سواء من حيث الزمن أو من حيث الأهداف. و هي بالإضافة إلى كونها عسكريّة، في بُعدها الدامي؛ إلا أنها سياسيّة أيضا، في بُعدها الإقليمي.

و معروف أن الأهداف السياسيّة لأيّ عدوان تتوقف، في سيناريوهاتها، على مدى نجاح الحملة العسكريّة، ميدانيّا.. و قدرتها على شلّ تفكير وقدرات و هوامش مناورة الطرف المستهدف، وخياراته، خصوصا في ظلّ وطأة العامل الإنساني، مع ازدياد مشاهد القتل و الترويع بحق المدنيين، ومن فئة الأطفال تحديدا.. وفي حالة غزة، فإن هذه الاعتداءات الآثمة ضد كلّ الاعتبارات الإنسانيّة و تداعياتها، تحقق للعدوّ هدفا إضافيّا، استثنائيّا، يتمثل في تشتيت تركيز، خلط أولويّات، الأطراف العربيّة، المستهدفة سياسيّا من الاعتداءات، وإشغالها في التعامل مع حركة الشارع وانفعالاته، و مشاعره الملتهبة، إزاء مشاهد التنكيل والإبادة التي يطالعها كلّ صباح ومساء، بحق أشقاء اللحم والدم، بالمعنى التام للتعبير.

..جلالة الملك عبدالله الثاني، كان، بحق، أوّل زعيم يتنبّه، بدقة، إلى هذا البُعد الخطير للعدوان. وقد تحدّث جلالته، صراحة، فقال: إن المسألة أبعد من غزة.. فهي تتجاوز في استحقاقاتها وأهدافها لتشمل أمن الإقليم ومستقبله و استقراره. وبالتالي، فإن الجهد المطلوب للتصدّي للعدوان، يجب أن يكون مكثفا، وبالأساس: واعيا، لأهداف العدوان، وقادرا على التعامل مع الأولويّات، الحقيقيّة، التي تفرضها المصلحة العليا، والتي حدّدها جلالة الملك بأنها تتمثل بالوقف الفوري للعدوان، قبل أي شيء آخر.

من هنا، كان الحراك الأردني، كما شخّصه رئيس الوزراء، في كلمته أمس الأوّل، أمام مجلس النوّاب، ضمن مسارين متلازمين، وفي نفس الاتجاه: مسار العمل السياسي الدؤوب والمدرك لأهداف العدوان السياسيّة وأبعادها الكارثيّة على المنطقة ومصالحها الاستراتيجيّة؛ ومسار التدخل الإنساني المباشر، والفاعل، على الأرض، لصالح تخفيف معاناة أهالي غزة، ودعم صمودهم، في وجه آلة القتل والترويع الإسرائيليّة، وتقديم كلّ ما يلزم، بغض النظر عن الإمكانات، لصالح تحقيق هذه الغاية.

وفي ذات السياق أثبتت الحالة الأردنيّة أن حركة الشارع إذ ما تمّ التعامل معها بمسؤوليّة و ثقة بالنفس، ستكون عونا للجهد السياسي، لا عبئا عليه. وبدلا من الانشغال في التعاطي مع حركة الجماهير، والغرق في تفاصيل تقييم الشعارات و من يقف وراءها وما إلى ذلك؛ يمكن بالمزيد من الحريّة أن يكون الشعور بالمسؤوليّة، هو الطاغي على حراك الناس، وهاجسا للمنظمين أنفسهم، ليتفرّغ السياسي للتعامل مع واجباته و أولويّاته، دون توتر ولا هواجس متداخلة.

لقد تراوحت القراءات لأهداف العدوان السياسيّة، وتنوّعت، بحسب المرجعيّات الفكريّة، والاعتبارات المختلفة؛ ولكن ثمّة إجماعا واضحا، على كون هذا الاعتداء الغاشم، يسعى لفرض سيناريوهات مرفوضة مبدئيّا، على دول المنطقة، من شانها أن توفر للإسرائيليين مخرجا من أزماتهم وحلولا للمشكلات التي يواجهونها، في ضوء ضغط المجتمع الدولي لصالح إقامة الدولة الفلسطينيّة المستقلة، وإعادة الحقوق لأصحابها الشرعيين. وسواء أكان هدف العدوان الوصول إلى تسوية تفرض شروطا إسرائيليّة، شبيهة بما حدث إثر حرب بيروت عام 1982، أو إلزام الأطراف العربيّة بالقبول بتفويضات مربكة وملتبسة تجاه شطري الدولة الفلسطينيّة المنشودة؛ فإن المواجهة السياسيّة مع هذه الأهداف ممكنة، وستحقق إفشال المخطط، إذا ما كان الضغط الشعبي لصالح الأنظمة العربيّة لا ضدّها.

لقد كان الموقف الأردني المنسجم مع ذاته ومع شارعه، نموذجا في القدرة الاحترافيّة على التعاطي الواعي مع أهداف العدوان، وقد تجلى ذلك صراحة بالإعلان الرسمي عن حقيقة النظرة الأردنيّة تجاه العلاقة مع الإسرائيليين، من حيث كونها خيارا اتخذه الأردن بالانسجام مع رؤيته للثوابت والمصالح العليا؛ فإن انقلبت إلى الضدّ، فإن الأردن لن يتعامل معها بوصفها قضاء وقدرا، ولكن على أساس ممّا تفرضه الثوابت الراسخة والمصالح العليا.

moc.oohay@nammordba



تعليقات القراء

لا يوجد تعليقات


أكتب تعليقا

تنويه :
تتم مراجعة كافة التعليقات ،وتنشر في حال الموافقة عليها فقط.
ويحتفظ موقع وكالة جراسا الاخبارية بحق حذف أي تعليق في أي وقت ،ولأي سبب كان،ولن ينشر أي تعليق يتضمن اساءة أوخروجا عن الموضوع المطروح ،او ان يتضمن اسماء اية شخصيات او يتناول اثارة للنعرات الطائفية والمذهبية او العنصرية آملين التقيد بمستوى راقي بالتعليقات حيث انها تعبر عن مدى تقدم وثقافة زوار موقع وكالة جراسا الاخبارية علما ان التعليقات تعبر عن أصحابها فقط ولا تعبر عن رأي الموقع والقائمين عليه.

- يمكنك تسجيل اسمك المستعار الخاص بك لإستخدامه في تعليقاتك داخل الموقع
الاسم :
البريد الالكتروني :
اظهار البريد الالكتروني
التعليق :
رمز التحقق : تحديث الرمز
أكتب الرمز :

إقرأ أيضاً

رياضة وشباب

محليات