الحروبُ بلا رصاص: اختبارُ الأمم المتّحدة الأصعب في عصرِ الصراع الرقميّ


 

د. عُريب هاني المومني

منذ تأسيسها عام 1945، وضعت مُنظّمة الأمم المتحدة على عاتقها مهمّة حفظ السّلم والأمن الدوليّين، كأحد أهمّ أهدافها الرئيسيّة، واعتمدت في مساعيها التقليديّة على أدواتٍ كالوساطة، ونشر بعثات حفظ السّلام، وفرض العقوبات الاقتصاديّة والدبلوماسيّة. إلا أنّ مشهد الصراعات في القرن الحادي والعشرين تغيّر جذريّاً، حيث تحوّلت ميادين القتال من ساحات المعارك إلى شاشات الحواسيب، ومن البنادق والدبابات إلى الأسطر البرمجيّة والشبكات الرقميّة.

فلم تَعُد الحروب اليوم تتطلّب جيوشاً وأسلحةً تقليديّة، بل أصبحت تعتمد على فيروسات رقميّة، وهجمات سيبرانيّة مُوجّهة إلى بنى تحتيّة حيويّة مثل أنظمة الكهرباء، المصارف، المستشفيات، المؤسسات الحكوميّة، وحتى الأنظمة الانتخابيّة، إذ أصبحت الهجمات السيبرانيّة وسيلة فعّالة لزعزعة استقرار الدول دون إطلاق رصاصة واحدة. هذا التحوّل فرض على النظام العالميّ، بما في ذلك الأمم المتحدة، إعادة التفكير في أدوات التعامل مع النزاعات الجديدة.

غيابُ تعريفٍ دوليّ مُوحّد ومُلزم للهجمات السيبرانيّة كأعمالٍ عدائيّة أو "عدوان" وفقاً لميثاق الأمم المتحدة يُعدّ واحداً من أبرز التحدّيات التي تُواجه الأمم المتحدة في هذا السياق. فلا تزال الدولُ تختلف في تفسير ما يُشكّل "هجوماً سيبرانيّاً"، وهل يرقى هذا النوع من الأعمال إلى تهديد السلم والأمن الدولييّن بالمعنى القانونيّ؛ كون هذه الهجمات غالباً ما تكون غير مُعلنة، وغير مُؤكّدة المصدر، ممّا يصعب معه إثبات المسؤوليّة السياسيّة أو القانونيّة عنها.

رغم التحدّيات، بادرت الأمم المتحدة خلال العقد الأخير إلى إطلاق منصّات حوار دوليّ لتنظيم الفضاء السيبرانيّ، مثل تشكيل فريق الخبراء الحكوميين GGE ومجموعة العمل المفتوحة العضوية OEWG؛ لمناقشة سلوك الدول في الفضاء السيبرانيّ. إلّا أنّ هذه المبادرات - على الرغم من أهميّتها - بقيت دون إطارٍ قانونيّ مُلزم، فلم تؤدِ إلى معاهدة مُلزمة أو إطارٍ قانونيّ فعّال؛ بسبب تعارض المصالح بين الدول الكبرى، خاصّة في ظلّ اتهامات متبادلة بالتجسّس والتدّخل في شؤون الآخرين عبر الفضاء الرقميّ، فالعديدُ من الدول تخوض حروباً إلكترونيّة صامتة فيما بينها.

الحقيقة المُرّة أنّ التحدّي الأكبر لا يكمن فقط في غموض الفضاء السيبرانيّ، بل في غياب الإرادة السياسيّة لدى بعض الفاعلين في النظام العالميّ لتبنّي معاهدة مُلزمة تضبط وتُنظّم هذا المجال. فالدول الكبرى، وفي مقدّمتها تلك التي تمتلك النفوذ السيبرانيّ الكبير، ترفض تقييد حركتها أو الاعتراف بمساءلتها ضمن نظام عالميّ صارم، إنّها معضلة الإرادة السياسيّة، والنفوذ مقابل القانون.

وفي ظلّ تصاعد وتيرة الحروب السيبرانيّة واتساع آثارها، يبدو أن الأمم المتحدة لم تنجح بَعد في اجتياز هذا الاختبار الجديد من اختبارات حفظ السلم والأمن الدوليّين. فالعالم اليوم يُواجه حروباً بلا رصاص، لكنّها لا تقلّ تدميراً وآثار سلبيّة عن الحروب التقليديّة. والأمم المتّحدة تقفُ في مفترقِ طرقٍ بين الحاجة للتجديد والتحدّيات الواقعيّة للنفوذ الدوليّ.

فهل ستكون منظمة الأمم المتحدة قادرة على مواكبة تحوّلات العصر الرقميّ، أم أنّ الفضاء السيبرانيّ سيبقى خارج نطاق القانون الدوليّ إلى أجلٍ غير مُسمّى؟



تعليقات القراء

لا يوجد تعليقات


أكتب تعليقا

تنويه :
تتم مراجعة كافة التعليقات ،وتنشر في حال الموافقة عليها فقط.
ويحتفظ موقع وكالة جراسا الاخبارية بحق حذف أي تعليق في أي وقت ،ولأي سبب كان،ولن ينشر أي تعليق يتضمن اساءة أوخروجا عن الموضوع المطروح ،او ان يتضمن اسماء اية شخصيات او يتناول اثارة للنعرات الطائفية والمذهبية او العنصرية آملين التقيد بمستوى راقي بالتعليقات حيث انها تعبر عن مدى تقدم وثقافة زوار موقع وكالة جراسا الاخبارية علما ان التعليقات تعبر عن أصحابها فقط ولا تعبر عن رأي الموقع والقائمين عليه.

- يمكنك تسجيل اسمك المستعار الخاص بك لإستخدامه في تعليقاتك داخل الموقع
الاسم :
البريد الالكتروني :
اظهار البريد الالكتروني
التعليق :
رمز التحقق : تحديث الرمز
أكتب الرمز :

إقرأ أيضاً

رياضة وشباب

محليات