رواية الفيروس القادم .. الجزء الخامس
صعدت سيسيليا الأدراج بسرعة كبيرة نحو الطابق الأول كي لا يراها إليريون الذي قرر فجأة التوجه نحو الطابق، خلعت نعليها بخفية تامة و اكملت صعودها نحو الغرف المَلَكِيًة و هي تنظر وراءها بقلق كبير فكاد ان يلاحظها لولا انسحبت من ممر الطابق الأرضي بالوقت المناسب، سمعت خطواته و هو يصعد الأدراج و لكن شعرت بأنه لم يلاحظها إطلاقا، وصلت الى منتصف الممر العريض الذي يتوسط الحجر الملكية بطابق القصر الأول و وقفت عند باب حجرتها و هي تراقب قدوم إليريون الى الممر، فجأة تنبه لها و هي واقفة عند المدخل، ابتسم لها و اكمل مسيره و كأنها قطعة اثاث في قصره، شعرت سيسيليا بصدمة و اهانة عنيفتين و أميرها يمر بجانبها و كأنها لاشيئ فقالت له "صباح الخير سيدي الأمير، آمل ان وليمة الأمس اعجبتك انت و ضيوفك؟"
توقف إليريون و استدار نحوها، كانت عينيها تحدقان به بسخرية ممزوجة مع عتب شديد، أجابها بهدوء "سيسيليا...انا متعب جدا و لم يبتدأ نهاري بعد، حتى و نحن لم يبزغ علينا الفجر بعد اشعر بالإرهاق، بحق الآلهة قولي لي ماذا تريدين مني؟"
أجابت مجادلة "منذ ان انطلقت فعاليات تحدي القتال بمدرج المدينة و انت لا تعيرني انتباهاً كما من قبل، هل لي ان اعلم لماذا؟"
اخذ نفسا عميقا و اجاب "لا شيئ، و لكنني متعب بسبب اعمال الإمارة و مسؤلياتي، هذا كل شيئ؟"
سار بالممر محاولا انهاء الجدل القائم ولكن اكملت سيسيليا "لطالما كانت لديك مسؤلياتك و كان وقت لديك لي، قل لي يا إليريون ماذا اصابنا و لماذا فَتُرَةْ مشاعرك نحوي؟"
توقف عند باب حجرته، فاحت منها رائحة طيب الناردين، كانت خادمة ترش خلاصة منه بالغرفة و تهيئها لدخوله اليها، قال مُطَمْئِناً و ظهره لها "سيسيليا لا يوجد شيئ بيننا اساسا، انت تعلمين انكِ جليستي من حين لآخر، فلم اعدك بشيئ..."
قاطعته بحرارة "انا اعلم ان حبي بقلبك مازال متقداً، و لكن و كأنك تهرب مني، كل هذه الليالي الحميمة بيننا و كل هذه اللحظات العاطفية ليست من فراغ، قل لي هل هنالك إمرأة آخرى غيري؟"
إلتفت نوحها و اجاب "قصري يفيض بالجليسات، فلماذا ستكونين انتِ غيرهم،"
قالت بحرقة و هي تدق صدرها "لأن نسبي يُشَرٍفْ فأنا ابنة نبيل في قومي، انت تعلم انني ارتضيت ان آتي لقصرك من شدة حبي لك، انت طلبتني بإسمي من أهلي...لا تهرب مني..."
احتضنته و مَرًرَتْ يدها بشعره بضعة مرات و حاولت تقبيله بحرارة، بادرها بقبلة فاترة فانتفض قلبها من الداخل، قالت بحدة و الدمع يسيل من عينيها "أنسيت قبلات حبيبتك سيسيليا...انسيتني؟ قل لي بحق الآلهة انك لم تنساني..."
ابعدها عنه بغضب قائلا "سيسيليا! سنكمل لاحقا، اريد ان انام قليلا قبل شروق الشمس..."
اجابت بغضب أم لحم السجينات اصبح يروق لك..."
نظر الى عينيها العسلية الساخطة و الباكية و صرخ "لا تكلميني بهذا الأسلوب! انت تعلمي ان ضيوفي الجدد هم هنا لأجل مهمة حساسة! انا طلبت منهم خدمة لإليريا،"
"و هل المهمة تقتضي ان تبيت في حجرتك السجينة اميمة التي حَرًرْتَهَا بالأمس...!"
نظر اليها مصدوما و قال "ارى انكِ أجْرَيْتِ تحريات ناجحة...و من اخبرك بإسمها!"
"احبك و لن ادع إمرأة آخرى تسلب قلبك مني!"
قال موبخا "هل الغيرة جعلتك تنسي مقامك! اتتجسسين علي؟! انا أمير و حر لأقضي ليلتي مع من اشاء!"
"هي غريبة عنك! ماذا تعلم عنها كي تكون جليستك بالليالي!"
أغمض عينيه و حاول تمالك اعصابه، لم ينكر بينه و بين نفسه يوما كم ان سيسيليا جميلة جميلات قومها، عينان زرقاء و شعر خمري طويل ملمسه كالحرائر الفاخرة التي تأتيه كهدايا لقصره، بياض جسدها و قوامها الممشوق اقل خصائصها كإمرأة، ملمس جسدها كان رقيق للغاية فكم ليلة و ليلة قضاها بين يديها و هو متيم بها، و ملمس شفتيها كم كان شهيا يوقد به عنفوان ألف رجل ليغازلها، و لكن الضغوط من حوله انهكته منذ بضعة ايام و ابعدته عنها، لم ينكر انه لفترة فُكًرَ بالزواج منها، و لكن المستجدات السياسية بالإمارة جعلته يؤجل الموضوع قليلا، و أميمة التي فجأة وجد انها تروق له، لم يكن بوضع ليجادل سيسيليا إطلاقا،
نظر الى وجهها الذي كانت الغيرة الآكلة تشع منه و هي تكمل كلامها اللاذع "هل هي اجمل مني؟! قل لي ماذا بها يختلف عني! شعرها اسود مهترئ من غبار السجون و شعري خمري اللًون تربى على اغلى العطور و المُسوحْ، هل رَسْمَتْ عينيها اجمل مني؟ هي تربى جلدها على الفقر و الذل و كرابيج السجانين و انا جلدي تربى على مساحيق الملكات و على اثمن الدهون من الصين و الهند، انا ابنة نبيل منذ صغري و الخدم يخدمونني في قصور والدي و هي ابنة من تكون...شحاتين!!!"
ارتعد صوت سيسيليا بالممر ليضع يده إليريون على فمها قائلا "اصمتي يا سيسيليا، فقد تسمعك اميمة او الجليسات،" صرخت بوجهه "ماذا بأمر هذه الخادمة اخذك مني يا إليريون!!! هل اناديها لتجلب لي حذائي! هل هي من قيمتك يا إلي! قل لي يا إلي..."
قال بهدوء "انا لا احبها، اطمئني يا سيسيليا،" اكمل نادماً "ما كُنتُ يجب ان اجادلكِ منذ الاساس، فضحتيني و فضحتي نفسك بالقصر يا سيسيليا،"
"أذا لماذا منذ ان ابتدأ اهل إليريا يرددون الأخبار عن بطولاتها إبْتَعَدْتَ عني يا إلي؟"
اقتربت منه مرة ثانية و امسكت وجهه بيديها و قبلته بحرارة، شعرت و كأنه استسلم لها اكثر من السابق، قالت له "قل لي الا يذكرك طعم شفتاي بالحب الذي كان يغلي بيننا، كم ليلة و ليلة قضيناها معا كالزوج و الزوجة؟ قل لي يا حبيبي،"
ابعهدها إليريون بعصبية من حرارة إغوائها و قال "كفى يا سيسيليا، احد الاسباب التي دفعتني لأبتعد عنك انك لا تُقَدِرينْ مسؤلياتي كأمير، انت تريدينني رجل بحياتك و أن اكون تحت امرك باي لحظة و لا تُقَدِرِينْ ان مسؤلياتي تأخذني بعيدا في بعض الأحيان،"
اجابت مترجية "هل معاشرتها انهكت قوتك الليله، سأنتظرك بالغد يا حبيبي، و أعدك ان احاول جاهدة ان اتفهم عملك،"
استدار ليسير نحو غرفة من الغرف قائلا "حسنا، سنكمل بالغد، سأمر بغرفة ألكساندرا قليلا فلم اراها منذ يومين بسبب اشغالي..."
ارتبكت قليلا ثم اجابت قبل ان يدخل حجرتها "ألكساندرا...ألكساندرا هي بالحقيقة غير موجودة،"
استدار نحوها مرة ثانية مصدوما "ماذا تقصدين؟"
مرت من جانبه الخادمة التي كانت تُوَضِبْ غرفته فوقفت مستأذتة "هل سمو الأمير يأمرني بشي آخر؟"
اجاب "لا شيئ يا سيلفيا، اذهبي الآن،"
توجهت سيلفيا نحو الأدراج و اختفت من الطابق خلال برهة من الزمن ليوبخ إليريون سيسيليا قائلا "هل اعجبك هذا؟ قد سمعت سيلفيا كل شيئ،"
اجابت بحزم "سيلفيا مخلصة لأمري و لن تتفوه بكلمة عن الحديث الذي دار بيينا،"
استند إليريون على الحائظ بجانبه من التعب و قال "بحق الآلهة جميعها هذا ما كان ينقصني، اشاعات من الخدام عن علاقتنا،"
اقتربت منه سيسيليا ببطئ، فكانت تعلم جيدا ان اختفاء الكساندرا لن يعجبه و كان عليها محاولة تشتيت انتباهه عنها، وقفت امامه فانتصب من جديد ليسأل "ماذا تفعلين؟"
ارخت شيالات ثوبها عن كتفيها فسقط عنها قطعة واحدة نحو الأرض، نظر إليريون الى جمالها فكان مكشوفا لديه بالكامل، كان جسدها رائع الجمال فلم تكن بربائع متقدمة من العمر، احدق النظر الى شعرها و هو يزين كتفيها و يغطيئ جزء من ثدييها، سارت نجوه و حضنته قائلة "انت لم تراني عريانة منذ فترة!"
شعر برغبة جامحة لتقبيلها فكان ملمس جسدها الناعم مغريا جدا، و لكن تمالك نفسه و ابعدها فجأة آمرا، "سيسيليا تستري، قلت لك ليس الآن، انت تعلمين كم تعجبينني و لكنني مجهد من اعمالي و لست بوضع لمغازلتك، اين الكسنادرا؟"
انحنت و التقطت ثوبها من على الأرض و ربطت شَيًالاته فوق كتفيها من جديد، حاولت اخفاء ارتباكها قائلة "هي ليست بالقصر منذ الأمس؟"
دخل غرفتها و نظر من حوله ليجدها فارغة، عاد قائلا و نيران الشعلات المعلقة على جدار الممر تتراقص من حوله "اين هي يا سيسيليا، ألم اتركها بعهدتك؟"
قالت بنبرة جافة "هي ليست صغيرة بالسن كي اكون واصية عليها، ثم انا لا اعلم عنها شيئ، قالت لي انها ستخرج بنزهة و لم تَعُدْ الى الآن،"
صرخ إليريون بغضب "أنت تعلمين انها حامل! و انت تعلمين انها حامل بمن! بإبني! هل قلبك اسود الى هذه الدرجة؟"
"انا لم أؤذيها، بل خرجت منذ الأمس، قلت ربما ذهبت لزيارة اهلها بالمدينة؟"
امسكها من كتفيها فتأوهت من شدة قبضته، صرخ بوجهها محذرا "سيسيليا لن اغفر لكِ إن حدث لها شيئ!"
افلتت من قبضته قائلة "اتحبها الى هذه الدرجة،"
اجاب مستاءا "انت تلتفين حول نفسك و بداخل نفس دوائر الشك دائما! الشك داما! الشك دائما! هل هذا ما يهمك؟" حاول السير لتمسك به قائلة "يا مجنون، انا لم أؤذيها، و لكنني لا استطيع ان اقف سجانة على حريتها..."
ابعد يدها بعصبية قائلا "كان بإمكانك ان ترافقيها بدل من التجسس علي! هيا ابتعدي عن طريقي!"
سار إليريون بغضب شديد نحو الأدراج بينما ارتفع فجأة صراخ احد الجنود بالأسفل، نزل إليروين الأدراج بسرعة ليرى ما يجري بينما لحقته سيسيليا، امتلأ القصر رويدا رويدا من صراخ الجنود و هم ينادون عليه بينما أسرع الى صالات القصر حيث عرشه قائلا "ماذا هنالك يا هذا!"
قال الجندي و هو يتنفس بسرعة و علامات الهلع مرسومة على وجهه، "سيدي..سيدي...لا اعلم ماذا اقول! و لكن اثناء تجوالي و حراستي حول القصر خارج اسواره وجدت...وجدت..." تلعثم الجندي بينما صرخ إليريون "ماذا وجدت، تكلم و لا تخف!"
"وجدت سيدتي الكساندرا و معها بقايا ما يشبه طفلا صغيرا بجانبها..."
صرخ إليريون بأعلى صوته "اين هما الأن!!!"
اجاب الجندي "إنهما عند طبيب القصر بمعبد القصر،"
اسرع إليريون الى المعبد بينما ابتسمت سيسيليا بشماتة لمصير ألكساندرا
*************************************
وقف الطبيب ثيورن بحزن مرير بجانب الجثة الهامدة قائلا لإليريون "انا آسف، فقد نَزَفَتْ حتى الموت، كانت تلفظ انفاسها الآخيرة حينما وُضِعَتْ على السرير بعياداتي، نجحت بإيفاق النزيف من رحمها و لكن لم يكفي ذلك، فارقت الحياة بعد بضعة لحظات من استلامي للحالة،"
قال إليريون و الدمع يتراقص في عينيه "ماذا حل بها؟"
"هنالك من انتزع الجنين من احشائها بوحشية، في هذه الحالة يحدث نزيف شديد الى ان يتم ايقافه او بغير ذلك تفارق المريضة الحياة،"
اجاب بغضب شديد "يعني هنالك من حاول قتل ام ابني و ابني!!!"
اجاب بحذر من غضب الأمير "إليريون، استطيع ان أؤكد لك ان عملية بهذه الوحشية قد يكون المقصود منها إنهاء حياة الكساندرا و الجنين، انا بحياتي كطبيب ما رأيت عمليات إجهاض كهذه، كان الجنين مقطع الى اجزاء بجانبها، حتى انا ليس عندي العلم الكافي لعملية إجهاض كهذه، و اساسا لا اوافق عليها الا بأول فترة الحمل حينما يثبت ان الأم متعبة من الحمل، حيث اطلب من الأم شرب منقوع من أعشاب يؤدي الى نزول الجنين من احشائها متوفيا، جنين ألكساندرا لم يكن صغيرا و لا انا و لا اكبر طبيب بإليريا و لا بكافة دول الجوار لديه العلم الكافي لفعل هذا...الا إن كان جزارا...او،"
"ماذا تقصد يا ثيورن،؟"
"السحرة لديهم علوم كثيرة، اشعر بأنني اريد استشارة كلوديوس بهذا الأمر،"
"ايها الحارس!"
اقترب احد الجنود من إليروين و ضرب تحية عسكرية قائلا "اوامر سمو الأمير مطاعة،"
"ابلغ كلوديوس ارادتنا بأن يجتمع بنا هنا الآن،"
"حاضر سمو الأمير،"
ذهب على وجه السرعة ليترك الجمع بذهول تام من الذي جرى، فَكًرَ إليريون و الدمع يسيل من عينيه بمن قد يكون الفاعل لهذه الجريمة النكراء، فمن الواضح انه يكرهه كرها كبيرا ليحاول الإنتقام منه بهذه الطريقة، شعر بضيق من منظر ألكساندرا ممدة امامه، اقترب منها و امسك يدها ليجدها باردة جدا، فتعود على جسدها و هو دافئ مفعم بالحياة، فجأة قال بصوت عالٍ متوعدا "بحق كل الآلهة التي تُعْبَدْ في داخل إليريا سأغرز سيفي بقلب من قتلك انت و ابني يا ألِكْسَاندرا،"
سأل "اين الجنين اريد ان..."
قال الطبيب "لا انصحك بهذه المشاهدة،"
دخلت سيسيليا الى معبد القصر، سارت بخطوات بطيئة و هي تقترب من غرفة ثيورن، كانت اصداء حديث إليريون و ثيورن تملأ المعبد و لكنها لم تفهم شيئ، فكان المعبد كبيرا و الأصوات تترك اصداءا عميقة به، كان الكلام يتضح اكثر كلما اقتربت من غرفة مشفى المعبد، سمعت ثيورن أخيرا يقول بإستياء شديد و هي على بعد بضعة خطوات من الغرفة "هذه جريمة نكراء و الذي فعلها ربما يريد الإنتقام منك سمو الأمير،"
"سرعان ما سأعلم من الفاعل، و صدقني سأجعله يتذوق المُرْ اشكال و انواع،"
أمر ثيورن الجنود "يجب ان تدفن بالحال بالمقابر الأميرية، سرعان ما ستتحلل..."
قال إليريون "بعد ان يأتي كلوديوس ستدفن، و سأعلن الحداد في الإمارة لأربعين يوما عليها،"
أمر إليريون الجنود "اتركونا بمفردنا،" تحرك الجند الى خارج الغرفة بينما طارت حمامة من نافذة المعبد و توقفت على الأرض امام سيسيليا، أومأت لها بالإقتراب و استقرت على ذراعها، أخذت من ساقها الصغيرة ورقة ملفوفة بخيط ثم لَفًتْ ورقة صغيرة بها رسالة على نفس الساق وربطتها بحبل صغير، رمتها بالهواء لتطير الحمامة خارج النافذة، قالت في سِرٍها "سَتُسَرْ بهذه الرسالة، و لكن الذي لا تعلمه ان نهايتها وشيكة على يدي،"
فجأة خرج الجنود من مشفى الطبيب بإنتظام و بحركة الرجل الواحد ليجدوها في طريقهم، توفقوا عندها بينما ضرب لها الضابط المرافق لهم تحية عسكرية ثم خرجوا جميعا من المعبد، تنبه إليروين الى حركة الضابط من داخل الغرفة فسأل بصوت عالٍ "من هنا؟!"
اقتربت سيسيليا من غرفة الطبيب فأسرع إليريون و حضنها، قال باكيا "أرايت يا سيسيليا ما حل بألكساندرا حبيبتي قلبي..." شعرت سيسيليا بألف سيف ينغرز بصدرها من بكاءه على ضُرًتِهَا، و لكن تمالكت اعصابها فكانت تعلم معزتها لدي عشيقها، اجابت ببعض المواساة "أنا آسفة لما جرى، فالمصاب مصبنا جميعا،"
"لم ارى ابني...ابني..." اكمل إليريون بكاءه بينما حضنته بحنو قائلة "قد توفيا، لا يمكن فعل شيئ، تمالك نفسك و كن قويا،"
بالرغم من الغيرة التي كانت تشتعل في قبلها على إليريون الا انها شعرت براحة ما في نفسها، فالمستجدات كانت لصالحها، فهو مُلْكُها الآن، و حتى و هو منكسرا بين ذراعيها سرعان ما سيستيقظ من حزنه و سيعود لها، كان يجب ان تنتصر بهذه المعركة ليكون عرش إليريا مُلْكَاً لها باي ثمن فقد كافحت طويلا ليقع إليريون في حبها، و لكن كان يجب التخلص من المستجدات الآخيرة قبل ان تعلن انتصارها، ابتسمت لمحتوى رسالتها و قالت في ذاتها "سرعان ما ستلقي مصير الكسنادرا يا اميمة انت و البربري الذي بِرِفْقَتُكْ،"
ابتسمت لمشاعر الحنين التي تدفقت في ذاتها و إليريون بين ذراعيها، حضنها بإحكام و ارتفع بكاءه بمرارة بالمعبد، دوت اصداء شهقاته بأرجاء المكان كالطفل الصغير بينما تملكت سيسيليا راحة لم تعهدها قبل ،
******************************************************
وفقا اميمة و أيون يصغيان الى القائد سولا بإمعان و هو يروي لهما الصعوبات التي كان حراسه يواجهونها اثناء دورياتهم الليلة على اطراف إليريا، فالمدينة كانت كبيرة و ذات مساحة ضخمة مقارنة بالمدن المحيطة بهم حيث كانت العديد من اطرافها مكشوفة للغابات مباشرة، عدم اكتمال سور المدينة بالسرعة المرجوة وضعهم تحت ضغط اضافي حيث ان كروم العنب التي يمتلكها عدد من الأثرياء و الممتدة على مساحات شاسعة من اطراف المدينة كانت مكشوفة من دون حماية، مما كان يعرضها من حين لآخر لدخول الحيوانات عليها، كانت هنالك اسوار خشبية تحيط بمعظمها و لكن كانت الثعالب و الذئاب و الوحوش المختلفة ليلا تتسلل اليها من بين سياجها و تأكل جزءا من ثمارها، و رغم هذه الحوادث لم يكن هذا بالنسبة الى سولا التحدي الرئيسي للجنود حيث وظًفَ جزاء من الاثرياء و المزارعين عبيدا للحراسة الليلة، فحيوانات الغابات بنهاية المطاف لم تخيفهم بالقدر الذي كانت تخيفهم مؤخرا وحوش من نوع آخر ابتدأت بمهاجمتهم بشراسة تامة،
كان الجمع واقفا مع ثلاثة خيول لهم على مسافة ثلاثة كيلومترات من القصر الرئاسي على الأطراف الشمالية للمدينة، و كانوا بجانب مزرعة كبيرة للعنب لثري يدعى اوغستس ماركوس مفرودة على خمسة دونومات من الاراضي الخصبة، كان على مسافة بعيدة منهم و لكن واضحة للعَيَانْ حارس يجلس بالقرب من مدخل لها بجانب نار مشتعلة، و كان على الطرف الآخر البعيد لهم نيران يحجم لآلئ وضاءة تتراقص لحارس آخر، امتلات الأجواء من حولهم فجأة بصهيل الخيل مما دفع احد حراس المرزعة للنهوض فجأة، تراقص المشعل بيده و هو يسير نحوهم بينما قال سولا "هذا كونراد، انه حارس من حراس المزرعة هنا، ورديته تبدأ مع ساعات الليل و يسهر طواله ليقتل اي حيوان يدخلها،"
اقترب منهم فأضاء المشعل الجمع حيث كانوا يقفون بالظلام الدامس، كان كونراد عبد اسود طويل القامة حيث بلغ طوله مترا و تسعين سنتمتر، كان مفتول العضلات عريض المنكبين حيث اعلنت صلابة بنيته عمله الشاق بالمزرعة، قال مُرَحِبً "القائد سولا، مرحب بك، كيف حالك؟"
"انا بخير، هل كل شيئ على ما يرام؟"
"مؤخرا كل شيئ على ما يرام، ليس هنالك مشاكل لِنُبَلِغْ عنها سوى بعض الثعالب التي تجتاز الأسوار الخشبية لتأكل من اعشاش الدجاج و ثمار المزارع،"
"ضحك سولا قائلا "اعرفك بضيوف سمو الأمير، أميمة و آيون..."
تأمل وجه اميمة لبرهة من الزمن ثم قال بحماس"من مواجهات القتال بالمدرج؟ اعرفكما جيدا،"
قالت اميمة "يبدو اننا مشهورين اكثر من ما كنا نعتقد،"
اجاب بلفهة "انا طلبت إذن خاصا من سيدي اغسطس لأذهب و اشاهد جولة من جولاتٍ كنت انتِ فيها، و لكن لا اصدق، اذن الإشاعات صحيحة، انت إمرأة و ليس رجل...إنت إمرأة..." تفحصها كونراد من رأسها لأخمس قدميها و قال "و إمرأة جميلة جدا،"
ضحك أيون قائلا "يبدو انك لم تعجب بقتالها فقط..."
اجاب مؤكدا "و انت يا أيون كنت شجاع جدا حينما نازلك ذاك المارد الألماني...أظن كان اسمه...،"
قال أيون بثقة "أكْسِلْ...كان قائد و مقاتل...نعم يا صيدقي كان شديد البأس وكان متمرسا بالقتال، و لكنني كسبت الجولة حينها بعد نزال مرير،"
فجأة استل كونراد سيفة و انزله على اميمة لتسحب بسرعة البرق أميمة سيفها و تعترض ضربته القوية، قفز سولا و أيون خلفا و صرخ سولا "ما هذا بحق الإلهة افروديت؟؟؟َ!!!"
ردت اميمة بضربة قوية اعترضها كونراد بسيفه فدفعته الى الوراء، وضع سيفه بغمده و اميمة تقول مبتسة له "هذه طريقة مقاتلوا الموريون بالترحاب، ماذا تفعل هنا يا موري؟ انت على مسافة بعيدة من ديارك؟"
ضحك و قال "الوشم الذي على ذراعك، رأيته بنور المشعل،"
نظر الجمع الى ذراع اميمة و كونراد ينيره بالشعلة، قال كونراد "من وضعه لك؟"
كان يتألف من سيفين و صورة اسد كبيرة، كان يغطي منطقة ذراعها عند اسفل كتفها اليمين، كانت هنالك احرف تحته، سأل سولا "ماذا تقول الكلمات يا اميمة،"
صمتت اممية لسؤالهم فقال كونراد "انه باللغة الأمازيغية، لغتنا، يقول انا اسد من أسود قومي،"
نظر الجمع الى اميمة لبرهة من الزمن، ترددت بالإجابة قليلا ثم قالت موضحة "إمرأة من العرب وجدتني جريحة حينما كنت انا و قومي ننازل الصليبين حين هجومهم على قريتنا قبل ان يتم اسري، قرأت لي الكف و قالت لي انه مكتوب لي مصير محارب، ثم وضعت لي هذا الوشم كتذكار لتنبؤها،"
سأل كونراد "و ستضع لك رتبة قائد هكذا؟ اشك بروايتك، هذه رتبة قائد بجيوش الأمازيغ و عند العرب، من انت يا اميمة؟ مهاراتك ليست قليلة بالقتال؟ لم ارى يدك من سرعتها و انت تستلين سيفك؟"
قال أيون "حسن، حسن، سنكمل مشهد الإعتراف في المرة القادمة، و لكن لا تفاجئنا مرة آخرى فَكِدْتُ اسحب سيفي عليك و انازلك؟"
قال كونراد "صديقتك محاربة شرسة، بطرفة عين استلت سيفها و صدتني،" ابتسم كونراد قليلا ثم انتصب و سحب سيفه مرة ثانية امامها و ادى لها تحية جندي لقائد، "احترامنا لك ايها القائد،"
قال سولا "كونراد اريدك ان تبقى يقظ، فَسَمِعتَ على الأكيد بالحوادث المؤسفة التي اصبحنا نواجهها من حين لآخر،"
خَيًمَتْ تعابير القلق على وجهه بسرعة من السؤال، فأجاب بنبرة مترددة "ايها القائد لا اخفيك انني خائف منها قليلا، و لست بمفردي فمعظم العبيد الحراس اصبحوا يخافون الحراسة الليلية بسببها مؤخرا، اسياد المزارع اصبحو يدفعون اجور مضاعفة للعبيد ليقبلوا بالحراسة الليلية و لكي لا يخافوا و يهربوا الى الغابات و يتركوا وظائفهم اذا شعروا بأي شيئ مريب،"
نظر الجمع الى بعض لبرهة من الزمن ثم آكد سولا "أتقصد الثلاثة الذين هربوا من مزرعة السيد فيليبي بآخر بدر مكتمل؟
"لم يعودا منذ تلك الليلة، و لم اسمع عنهم اية اخبار منذ تلك اللحظات المشؤمة، يقال ان وحوش الغابة ربما افترستهم، دوريات اصحاب المزارع لم يجدوا لهم حتى بقايا او عظام،"
"لا تخف فقد ضاعفنا ورديات الجند بالليل بعد ان اجتمع اصحاب المزارع مع الأمير منذ فترة،"
سأل أيون كونراد "هل هنالك شهود عيان على هذه الوحوش التي تهاجم المزارع، هل رآها احدهم؟ اية شيئ عنها؟"
اجاب بنبرة قلقة "لغاية هذة اللحظة ليس عندي يقين بشيئ، فهم يهاجمون بالظلام فقط، فجأة يدخل بعضهم على المزارع من الغابات و يكسرون الأسوار الخشبية رغم سماكة اضلاع الشجر المستخدمة، انهم عنيفون كقطيع هائج من الثيران و يهاجمون الماشية و الخيول، يتركون اثار ضخمة على الأرض، يقولون حراس المزارع التي تمت مهاجمتها انها سريعة الخطوات فلا يستطيعون اللحاق بها،"
سألت أميمة "إذا لم ينازلها احد بعد؟"
"سيدتي انها كبيرة الحجم فالحراس يخافونها، و لم يرد لي نبأ ان احدا تجرأ على مهاجمتها،"
"عد الى حراستك كونراد،"
"ايها القائد انا صياد و محارب منذ ان انفصلت عن قومي لاسعى لرزقي، و حينما قبلت وظيفة اسياد المزارع هنا كحارس كان لي باع طويل بصيد الوحوش...هذه ليست وحوش عادية من الأثار التي تتركها، و لا تشبه اي حيوان عرفته فاصطدت الضبع و النمور و الأسود و الغزلان و الثيران بأنوعها...اثار مخالبها الضخمة على الأرض لا تشبه شيئ اعرفه، انتبهوا لأنفسكم،"
تركهم كونراد و ابتعد رويدا رويدا ليخيم عليهم الظلام من جديد، سأل سولا "اترون ما نحن نواجه؟"
فجأة استلت اميمة سيفها و رمته بقوة نحو كونراد، التف بالهواء بسرعة كبيرة فاستداركونراد نحوه و امسكه، واجه اميمة و رماه بقوة وسط ظلام الليل فشعرت اميمة بحدس المحارب لديها اتجاهه و امسكته من مقبضه، صرخ سولا عليهما "ما هذه الألعاب التي تلبعونها!"
صرخ أيون عليهما "كفا لهوا يا قوم، افزعتموني!"
أكمل كونراد طريقه الى المزرعة فصرخت اميمة "يا هذا، اريدك معنا،"
توقف عن السير، مكث بمكانه لبرهة من الزمن ثم عاد اليهم فإنتشر نور الشعلة بيده من جديد، سأل "ماذا تقصدين؟"
سمو الامير وَكًلَنَا انا و آيون بالقضاء عليها،"
نظر الى سولا و اجاب "انها تمزح، انها كالأشباح، ثم انها كائنات ضخمة جدا و عطشة للدماء، هذا ما نعرفه عنها، لا نعرف شيئ آخر عنها؟!"
قال أيون "فهمت ما تقصدين يا اميمة،" نظر الى كونراد و أكمل "انها بالنهاية وحوش، و اصطياد الوحوش لا يختلف كثيرا عن اي اسد او لبؤة او نمر،"
فال سولا "سأدفع لك مقابل خدماتك، يبدو انك تعجب رفيقاي،"
سأل أيون مختبرا "كيف علمت انتجاه سيف اميمة؟ انطلق من الظلام الدامس و كان يتجه نحوك بسرعة كبيرة،"
"انها بالغريزة، فمع اصطياد الوحوش و اشتراكي بالحروب و النزالات تصبح بعد فترة من الوقت يقظٌ لنسمة الريح التي تمر بجانبك،"
قال سولا سأدفع لك مئتي ليرة، ضعف اجرك الشهري من اوغستس إن انضممت للفريق، ماذا تقول، ستكون دائما برفقتنا،"
فجأة ارتفع صهيل الخيل و إبتدأوا بالحراك بقلق بجانبهم، نظر سولا اليها و قال "يبدو اننا لسنا بمفردنا، اخفضوا صوتكم، يدكم على أغماد سيوفكم" ارتفع بالخلفية صوت حفيف عالٍ...و كأن احدهم يسير بين زرع الأرض،
********************************
نظر الإمبراطور هنري الثالث حاكم الإمبراطورية الرومانية المقدسة الى الرسول امامه و هو على وشك قراءة مخطوط من إليريون، كان جنديا من زَيٍهْ و كان يعاني الإرهاق الشديد فكان سفر الايام باديا على وجهه، خيًم الهدوء على البلاط حيث كان خالياً من الناس بغير عادته ما عدا وزيره غابريال الذي كان يقف الى يمينه مترقبا لفحوى الرسالة المفاجئة، ارتفعت بعض التمتمات في الخلفية البعيدة فكانت معظم حاشيته متواجدة بصالة المراسم و الإحتفالات القريبة منهم، فكانت الصالة تضج بالضيوف من النبلاء و اشراف باريس حيث كانوا سيحتفلون بعيد زواجه الثاني من زوجته الإمبراطورة شارلوت، فحضر لفيف من ألمع شخصيات المجتمع بقصد مشاركة العائلة الحاكمة هذه الفرحة العزيزة عليها، انخفصت الإنارة بالقصر بعض الشيئ فدنت ساعات الغروب عليهم و الرسول يفتح رسالته و يقرأ مضمونها عليه، قال باللغة الفرنسية "الى صديقي و اخي فخامة الإمبراطور هنري الثالث حاكم الإمبراطورية الرومانية المقدسة، سلام عليكم ابعثه من بلدكم الثاني إمارة إليريا طالبا من عناية السماء ان تديم عليكم الصحة و طول العمر و العافية الطيبة، و متمنياً لكم و لبلادكم دوام الإستقرار و الإزدهار، فمنذ فترة طويلة من الزمن و نحن نشارككم فرحة الإنتصارات التي حققناها سويةً بالغزوات المتتالية على الإمبراطوية الإسلامية لإستعادة ما قد أخذوه منكم من اراضٍ و مقدسات عزيزة عليكم بالسلب و النهب و بالقوة و عن دون وجه حق، فبفضل تعاوننا المثمر معا استمرت حملاتنا لسنين طويلة جالبةً الينا انباء انتصارات متكررة على مدن ساحلية كثيرة للارضي المقدسة، و إذ اعيننا تتجه نحو القدس موطئ قدم انبياؤكم و موطئ قدم السيد المسيح إلهكم و سيد الخليقة، و إذ قواتكم تستعد لشن حرب ضروس لإستعادة القدس الى حكمكم المبارك من عناية السماء لتغدو جزءا لا يتجزء من اراضي امبراطوريتكم الغالية و الشرعية، و إذ قد شَهِدَ تحالفنا العزيز و الغالي انتصارات مشتركة كثيرة إلا انه قد جلبت الايام الحالية لإليريا تحدٍ قد يهدد امنها و استقرارها بصورة كبيرة، نحن بصدد مواجهته بقوة و لكن ستجبرنا هذه التحديات مُكْرَهينْ على عدم المشاركة بحملاتكم القادمة مع جيوش ريتشارد الأول ملك انجلترا، اكرر اسفي كقائد لقومي على هذا التغير الجذري بدعمنا لحملاتكم المباركة التي نصلي لآلهة إليريا جميعها لتتكلل بالنصر و لكن الظروف بهذه الايام اقوى من إليريا راجيا منكم تفهمكم بالكامل و تقديركم لقرارنا، اخوكم إليريون امير إمارة إليريا،"
شعر هنري فجأة بعدم ارتياح، تأمل الرسول بغضب و هو يَلُفُ الرسالة بين يديه و يعيدها الى حافظتها، كان يعلم جيدا ان جيوشهم قد تحركت نحو سواحل القدس منذ عدة ايام بقيادة ريتشارد الأول و ربما تكون على وشك الوصول الى معسكراتهم بالساحل، وقف و القلق يجتاح كيانه و قال لرجاله، "خذوا ضيفنا العزيز، و اطعموه و اتركوه يرتاح من عناء السفر، ريثما يكتب وزيرنا ردنا على رسالة سمو الأمير ليحملها ضيفنا الكريم الى دياره العامرة،"
قال الرسول "الشكر الجزيل لسيدي الإمبراطور على حسن الضيافة مسبقا،" انحنى امامه لتأخذه الجند بعيدا عن البلاط، انتشرت بالخلفية تمتمات اعلى من السابق للناس من صالة الإحتفالات إذ كان يزداد حجم الحضور رويدا رويدا مع اقترابهم من لحظات المساء، وقف الخدم في شرفات الطابق العلوي يمدون قضبان حديدية لزرع بالثريات بالأسْقُفِ الشموع للإضاءة، مر جندي و انار عددا من الشعلات المعلقة على الجدران من حولهم و هنري يقول لغابريال "نحن في ورطة كبيرة جدا،"
قال غابريال بإنزعاج "اعلم يا مولاي،اعلم، فهذه تطورات لم تكن ضمن توقعاتنا إطلاقا،"
اجاب هنري بمرارة "بعد بضعة ايام قد يلاقينا صلاح الدين بحوالي ضعف عدد جندنا الحالي،"
"عدد جنودنا مع جنود ريتشاد اثنتي عشر ألف بين فرسان و مشاة، و لكن ها قد حُرِمْنَا من عشرة آلاف رجل من إليريا، ماذا سنفعل؟ ماذا سنفعل؟"
"اخ للمصيبة، فالقدر يلعب لعبته معنا، و لكن لا عليك فلكل مصيبة حلها، ريتشارد يجب ان يعلم بان الإليريون اعتكفوا عن امدادنا بالعتاد و الرجال،" هز رأسه و ضرب كف بكف و أكمل بغصة حزن شديدة "ارسل مخطوط الى معسكراتنا الساحلية، قد يصل رسولنا قبل جيوش ريتشارد الى الساحل و قل له ان يسلمها اليه عند وصوله فورا، لا يجب ان يلتحم ريتشارد مع جيوش صلاح الدين دون علم مسبق بقرار إليريون، هيا، و بلغ قائد حرسنا بأن يبدا بتجهيز خمسة آلاف مقاتل من جندنا لدعم حملاتنا بالقدس،"
اجاب غابريال "سمعا و طاعة، و لكن ارسال قوات اضافية سيضعف من امننا الداخلي بأرجاء بلادنا، ثم سيدي لا اقصد التدخل فالقرار قراركم انتم و ريتشارد و لكن...أليس الإنسحاب من الحرب احسن من الخسارة المذلة لنا؟ الا يجدر بنا الإنسحاب من هذه الحرب؟"
نظر هنري بعينان تغليان غضبا الى غابريال و صرخ قائلا "سنخسر القدس على الجهتين سواء انسحبنا او قاتلنا...افهمت! فالنخسرها بحرب فذل الخسارة بالحروب اكرم لنا كملوك من جبن الإنسحاب...ما تخسره بحرب سيحافظ على ماء وجه الملوك و الرجال فبه كرامة لنا اكثر من لقب الجبناء..افهمت!!! .هيا نفذ اوامري!!!"
"اسف يا مولاي، فلم اقصد..."
"غابريال، حينما تصبح ملك و سيد على قوم قد يجبرك منصبك على أخذ قرارت لن تستطيع رؤية مداركها بوضوح و انت رجل عادي، فهذه قُدْسُنَا و خسارتها امام الله و نحن نحاول استعادتها احسن لنا من اهداؤها بسهولة الى من سلبها منا، ثم ماذا سنقول لشعوبنا، اننا جبناء و انسحبنا من المعارك و النزال؟ ريتشارد قائد لجيش كبير و مقاتل و رجل حرب و لن يقبلها على نفسه و لا انا كحاكم الإمبراطورية الرومانية المقدسة سأقبلها،"
جلس هنري على عرشه مرة ثانية و قال "هذه الحرب ستكتب بالتاريخ فهي مصيرية لشعوبنا كافة، إما ان نخسرها بشرف او اما ان نكسبها بشرف القتال،"
سأل غبريال بحذر من عضب الحاكم "سيدي هنالك سؤال يراودني دائما، لماذا كل هذا القتال على اوراشاليم؟ اليس حقن الدماء احسن من سفكها على اليَبَسْ؟ ألم يأمرنا السيد المسيج بالإنجيل بذلك؟ قال السيد المسيح و هو بين يداي بيلاطس الحاكم قبل آلآمه بالإنجيل لو مملكتي من هذا العالم لأرسل أبي طغمات من الملائكة للدفاع عني، و لم يحرك ساكنا حتى للإنتقام مِنْ مَنْ أَوْجَعَهُ و صَلَبَهُ، هل الأمر يستحق كل إراقت الدماء هذه؟"
"نحن لأ نَشُنْ حملاتنا بدوافع دينية، بل نسترها بالدين كي نكسبها شرعية امام شعوبنا، و هل تظن بالمقابل ان صلاح الدين دوافعه كلها دينية؟ صلاح الدين حاكم و له طموحه و ينوي بإستعادة القدس منا توسيع نفوذه و نفوذ امبراطوريته، انا افهمه جيدا كحاكم لبلادي، انه يسعى للزحف بجيوشه الى بلادنا، فإذا لم نوقفه عند حده بالقدس سيأتي بجيوشه الى بلادنا، انها حرب سياسية و استراتيجية لا اكثر و لا اقل، هذه الحرب ابتدأت بالقدس و يجب ان تنتهي بها، نفذ اوامري"
"Vous ne voulez pas venir cherie1? Nous attendons قاطعهم صوت نسائي بالبلاط فجأة قائلا "
J’arrive اجاب هنري "
شاهدت شارلوت علامات عدم الإرتياح على زوجها، فاقتربت منهم متسائلة "الضيوف يسألون عنك حبيبي؟ و مندوب البلاط الملكي بإنجلترا و مولاتي إليزابيث زوجة مولاي ريتشارد سألت عنك، هيا، ألا يكفي سياسة اقله اليوم؟"
صرف غابريال قائلا "سنكمل لاحقا،" نزل عن عرشه و سار بالصالة مع شارلوت قائلا "هل تعلمي اننا سنخسر القدس؟"
فجأة توقفت شارلوت عن المسير و نظرت اليه متسائلة "كيف؟ و كل هذه القوات التي ستصل الى معسكراتنا على السواحل العربية؟ ثم الحرب لم تنتهي بعد،"
اخذ هنري نفس عميق و اكمل "أنه إليريون، قد ارسل لي مخطوطا مع قائد من قادته يخبرني بإستحالة ارسال قوات الى القدس بالحملة الحالية،"
لهث لسان شارلوت و ارتسمت تعابير الصدمة على وجهها، قالت "انا لا افهم، لماذا؟"
"Merde c’est pas possible, pas maintenant2…pas maintenant, Mon Dieh قال بحسرة مريرة "
اكملت شارلوت بصدمة "يا الهي، عفوك و رضاك، و المسكين ريتشارد، انه يُعَوِلْ على هذا الدعم لإنهاء الحرب لصالحنا، قد تكون خسارتنا كبيرة دون دعم حلفاؤنا، و المسكينة إليزابيث...ريتشارد قد ُيقْتَلْ..."
اجاب هنري بحزم "لا تخبريها بشيئ، فستصاب بقلق بالغ على زوجها، لننتظر نتيجة النزال، مع هذه المستجدات سيقابلنا صلاح الدين بجيوش جرارة مقارنة بعددنا، آمرت بخمسة آلاف رجل من جندنا ليرسلوا دعم لريتشارد و لكن...قد لا يصلون بالوقت المناسب، سيصلون ربما و المعركة قد حُسِمَتْ،"
اجابت بقليل من الثقة بمحاولة لطمأنة زوجها "ريتشارد رجل حرب و شديد البأس و سيشعر بما يحصل، سيتصرف،"
"هيا لنذهب الى ضيوفنا، قد فعلنا ما بوسعنا، نحن نحارب لإسترجاع القدس لأسباب سياسية لا دينية، ربما لهذا السبب ستؤخذ منا، ليس عندي يقين بشي...قلبي يعتصر حزنا على نتيجة اعلمها مسبقا و مذبحة كبيرة قد نتواجه بها...و لكن..." اكمل بإستسلام "هيا بنا الى ضيوفنا، لا اعلم كيف سأبتسم امام إليزابيث و انا اشعر ان زوجها قد يعود لها شهيدا بالمستقبل القريب..."...يتبع...
(1 جُمَلْ بالفرنسية معناها : ألا تريد ان تأتي حبيبي، نحن ننتظر)
(2 اللعنة، هذا غير ممكن، ليس الآن، يا إلهي)
صعدت سيسيليا الأدراج بسرعة كبيرة نحو الطابق الأول كي لا يراها إليريون الذي قرر فجأة التوجه نحو الطابق، خلعت نعليها بخفية تامة و اكملت صعودها نحو الغرف المَلَكِيًة و هي تنظر وراءها بقلق كبير فكاد ان يلاحظها لولا انسحبت من ممر الطابق الأرضي بالوقت المناسب، سمعت خطواته و هو يصعد الأدراج و لكن شعرت بأنه لم يلاحظها إطلاقا، وصلت الى منتصف الممر العريض الذي يتوسط الحجر الملكية بطابق القصر الأول و وقفت عند باب حجرتها و هي تراقب قدوم إليريون الى الممر، فجأة تنبه لها و هي واقفة عند المدخل، ابتسم لها و اكمل مسيره و كأنها قطعة اثاث في قصره، شعرت سيسيليا بصدمة و اهانة عنيفتين و أميرها يمر بجانبها و كأنها لاشيئ فقالت له "صباح الخير سيدي الأمير، آمل ان وليمة الأمس اعجبتك انت و ضيوفك؟"
توقف إليريون و استدار نحوها، كانت عينيها تحدقان به بسخرية ممزوجة مع عتب شديد، أجابها بهدوء "سيسيليا...انا متعب جدا و لم يبتدأ نهاري بعد، حتى و نحن لم يبزغ علينا الفجر بعد اشعر بالإرهاق، بحق الآلهة قولي لي ماذا تريدين مني؟"
أجابت مجادلة "منذ ان انطلقت فعاليات تحدي القتال بمدرج المدينة و انت لا تعيرني انتباهاً كما من قبل، هل لي ان اعلم لماذا؟"
اخذ نفسا عميقا و اجاب "لا شيئ، و لكنني متعب بسبب اعمال الإمارة و مسؤلياتي، هذا كل شيئ؟"
سار بالممر محاولا انهاء الجدل القائم ولكن اكملت سيسيليا "لطالما كانت لديك مسؤلياتك و كان وقت لديك لي، قل لي يا إليريون ماذا اصابنا و لماذا فَتُرَةْ مشاعرك نحوي؟"
توقف عند باب حجرته، فاحت منها رائحة طيب الناردين، كانت خادمة ترش خلاصة منه بالغرفة و تهيئها لدخوله اليها، قال مُطَمْئِناً و ظهره لها "سيسيليا لا يوجد شيئ بيننا اساسا، انت تعلمين انكِ جليستي من حين لآخر، فلم اعدك بشيئ..."
قاطعته بحرارة "انا اعلم ان حبي بقلبك مازال متقداً، و لكن و كأنك تهرب مني، كل هذه الليالي الحميمة بيننا و كل هذه اللحظات العاطفية ليست من فراغ، قل لي هل هنالك إمرأة آخرى غيري؟"
إلتفت نوحها و اجاب "قصري يفيض بالجليسات، فلماذا ستكونين انتِ غيرهم،"
قالت بحرقة و هي تدق صدرها "لأن نسبي يُشَرٍفْ فأنا ابنة نبيل في قومي، انت تعلم انني ارتضيت ان آتي لقصرك من شدة حبي لك، انت طلبتني بإسمي من أهلي...لا تهرب مني..."
احتضنته و مَرًرَتْ يدها بشعره بضعة مرات و حاولت تقبيله بحرارة، بادرها بقبلة فاترة فانتفض قلبها من الداخل، قالت بحدة و الدمع يسيل من عينيها "أنسيت قبلات حبيبتك سيسيليا...انسيتني؟ قل لي بحق الآلهة انك لم تنساني..."
ابعدها عنه بغضب قائلا "سيسيليا! سنكمل لاحقا، اريد ان انام قليلا قبل شروق الشمس..."
اجابت بغضب أم لحم السجينات اصبح يروق لك..."
نظر الى عينيها العسلية الساخطة و الباكية و صرخ "لا تكلميني بهذا الأسلوب! انت تعلمي ان ضيوفي الجدد هم هنا لأجل مهمة حساسة! انا طلبت منهم خدمة لإليريا،"
"و هل المهمة تقتضي ان تبيت في حجرتك السجينة اميمة التي حَرًرْتَهَا بالأمس...!"
نظر اليها مصدوما و قال "ارى انكِ أجْرَيْتِ تحريات ناجحة...و من اخبرك بإسمها!"
"احبك و لن ادع إمرأة آخرى تسلب قلبك مني!"
قال موبخا "هل الغيرة جعلتك تنسي مقامك! اتتجسسين علي؟! انا أمير و حر لأقضي ليلتي مع من اشاء!"
"هي غريبة عنك! ماذا تعلم عنها كي تكون جليستك بالليالي!"
أغمض عينيه و حاول تمالك اعصابه، لم ينكر بينه و بين نفسه يوما كم ان سيسيليا جميلة جميلات قومها، عينان زرقاء و شعر خمري طويل ملمسه كالحرائر الفاخرة التي تأتيه كهدايا لقصره، بياض جسدها و قوامها الممشوق اقل خصائصها كإمرأة، ملمس جسدها كان رقيق للغاية فكم ليلة و ليلة قضاها بين يديها و هو متيم بها، و ملمس شفتيها كم كان شهيا يوقد به عنفوان ألف رجل ليغازلها، و لكن الضغوط من حوله انهكته منذ بضعة ايام و ابعدته عنها، لم ينكر انه لفترة فُكًرَ بالزواج منها، و لكن المستجدات السياسية بالإمارة جعلته يؤجل الموضوع قليلا، و أميمة التي فجأة وجد انها تروق له، لم يكن بوضع ليجادل سيسيليا إطلاقا،
نظر الى وجهها الذي كانت الغيرة الآكلة تشع منه و هي تكمل كلامها اللاذع "هل هي اجمل مني؟! قل لي ماذا بها يختلف عني! شعرها اسود مهترئ من غبار السجون و شعري خمري اللًون تربى على اغلى العطور و المُسوحْ، هل رَسْمَتْ عينيها اجمل مني؟ هي تربى جلدها على الفقر و الذل و كرابيج السجانين و انا جلدي تربى على مساحيق الملكات و على اثمن الدهون من الصين و الهند، انا ابنة نبيل منذ صغري و الخدم يخدمونني في قصور والدي و هي ابنة من تكون...شحاتين!!!"
ارتعد صوت سيسيليا بالممر ليضع يده إليريون على فمها قائلا "اصمتي يا سيسيليا، فقد تسمعك اميمة او الجليسات،" صرخت بوجهه "ماذا بأمر هذه الخادمة اخذك مني يا إليريون!!! هل اناديها لتجلب لي حذائي! هل هي من قيمتك يا إلي! قل لي يا إلي..."
قال بهدوء "انا لا احبها، اطمئني يا سيسيليا،" اكمل نادماً "ما كُنتُ يجب ان اجادلكِ منذ الاساس، فضحتيني و فضحتي نفسك بالقصر يا سيسيليا،"
"أذا لماذا منذ ان ابتدأ اهل إليريا يرددون الأخبار عن بطولاتها إبْتَعَدْتَ عني يا إلي؟"
اقتربت منه مرة ثانية و امسكت وجهه بيديها و قبلته بحرارة، شعرت و كأنه استسلم لها اكثر من السابق، قالت له "قل لي الا يذكرك طعم شفتاي بالحب الذي كان يغلي بيننا، كم ليلة و ليلة قضيناها معا كالزوج و الزوجة؟ قل لي يا حبيبي،"
ابعهدها إليريون بعصبية من حرارة إغوائها و قال "كفى يا سيسيليا، احد الاسباب التي دفعتني لأبتعد عنك انك لا تُقَدِرينْ مسؤلياتي كأمير، انت تريدينني رجل بحياتك و أن اكون تحت امرك باي لحظة و لا تُقَدِرِينْ ان مسؤلياتي تأخذني بعيدا في بعض الأحيان،"
اجابت مترجية "هل معاشرتها انهكت قوتك الليله، سأنتظرك بالغد يا حبيبي، و أعدك ان احاول جاهدة ان اتفهم عملك،"
استدار ليسير نحو غرفة من الغرف قائلا "حسنا، سنكمل بالغد، سأمر بغرفة ألكساندرا قليلا فلم اراها منذ يومين بسبب اشغالي..."
ارتبكت قليلا ثم اجابت قبل ان يدخل حجرتها "ألكساندرا...ألكساندرا هي بالحقيقة غير موجودة،"
استدار نحوها مرة ثانية مصدوما "ماذا تقصدين؟"
مرت من جانبه الخادمة التي كانت تُوَضِبْ غرفته فوقفت مستأذتة "هل سمو الأمير يأمرني بشي آخر؟"
اجاب "لا شيئ يا سيلفيا، اذهبي الآن،"
توجهت سيلفيا نحو الأدراج و اختفت من الطابق خلال برهة من الزمن ليوبخ إليريون سيسيليا قائلا "هل اعجبك هذا؟ قد سمعت سيلفيا كل شيئ،"
اجابت بحزم "سيلفيا مخلصة لأمري و لن تتفوه بكلمة عن الحديث الذي دار بيينا،"
استند إليريون على الحائظ بجانبه من التعب و قال "بحق الآلهة جميعها هذا ما كان ينقصني، اشاعات من الخدام عن علاقتنا،"
اقتربت منه سيسيليا ببطئ، فكانت تعلم جيدا ان اختفاء الكساندرا لن يعجبه و كان عليها محاولة تشتيت انتباهه عنها، وقفت امامه فانتصب من جديد ليسأل "ماذا تفعلين؟"
ارخت شيالات ثوبها عن كتفيها فسقط عنها قطعة واحدة نحو الأرض، نظر إليريون الى جمالها فكان مكشوفا لديه بالكامل، كان جسدها رائع الجمال فلم تكن بربائع متقدمة من العمر، احدق النظر الى شعرها و هو يزين كتفيها و يغطيئ جزء من ثدييها، سارت نجوه و حضنته قائلة "انت لم تراني عريانة منذ فترة!"
شعر برغبة جامحة لتقبيلها فكان ملمس جسدها الناعم مغريا جدا، و لكن تمالك نفسه و ابعدها فجأة آمرا، "سيسيليا تستري، قلت لك ليس الآن، انت تعلمين كم تعجبينني و لكنني مجهد من اعمالي و لست بوضع لمغازلتك، اين الكسنادرا؟"
انحنت و التقطت ثوبها من على الأرض و ربطت شَيًالاته فوق كتفيها من جديد، حاولت اخفاء ارتباكها قائلة "هي ليست بالقصر منذ الأمس؟"
دخل غرفتها و نظر من حوله ليجدها فارغة، عاد قائلا و نيران الشعلات المعلقة على جدار الممر تتراقص من حوله "اين هي يا سيسيليا، ألم اتركها بعهدتك؟"
قالت بنبرة جافة "هي ليست صغيرة بالسن كي اكون واصية عليها، ثم انا لا اعلم عنها شيئ، قالت لي انها ستخرج بنزهة و لم تَعُدْ الى الآن،"
صرخ إليريون بغضب "أنت تعلمين انها حامل! و انت تعلمين انها حامل بمن! بإبني! هل قلبك اسود الى هذه الدرجة؟"
"انا لم أؤذيها، بل خرجت منذ الأمس، قلت ربما ذهبت لزيارة اهلها بالمدينة؟"
امسكها من كتفيها فتأوهت من شدة قبضته، صرخ بوجهها محذرا "سيسيليا لن اغفر لكِ إن حدث لها شيئ!"
افلتت من قبضته قائلة "اتحبها الى هذه الدرجة،"
اجاب مستاءا "انت تلتفين حول نفسك و بداخل نفس دوائر الشك دائما! الشك داما! الشك دائما! هل هذا ما يهمك؟" حاول السير لتمسك به قائلة "يا مجنون، انا لم أؤذيها، و لكنني لا استطيع ان اقف سجانة على حريتها..."
ابعد يدها بعصبية قائلا "كان بإمكانك ان ترافقيها بدل من التجسس علي! هيا ابتعدي عن طريقي!"
سار إليريون بغضب شديد نحو الأدراج بينما ارتفع فجأة صراخ احد الجنود بالأسفل، نزل إليروين الأدراج بسرعة ليرى ما يجري بينما لحقته سيسيليا، امتلأ القصر رويدا رويدا من صراخ الجنود و هم ينادون عليه بينما أسرع الى صالات القصر حيث عرشه قائلا "ماذا هنالك يا هذا!"
قال الجندي و هو يتنفس بسرعة و علامات الهلع مرسومة على وجهه، "سيدي..سيدي...لا اعلم ماذا اقول! و لكن اثناء تجوالي و حراستي حول القصر خارج اسواره وجدت...وجدت..." تلعثم الجندي بينما صرخ إليريون "ماذا وجدت، تكلم و لا تخف!"
"وجدت سيدتي الكساندرا و معها بقايا ما يشبه طفلا صغيرا بجانبها..."
صرخ إليريون بأعلى صوته "اين هما الأن!!!"
اجاب الجندي "إنهما عند طبيب القصر بمعبد القصر،"
اسرع إليريون الى المعبد بينما ابتسمت سيسيليا بشماتة لمصير ألكساندرا
*************************************
وقف الطبيب ثيورن بحزن مرير بجانب الجثة الهامدة قائلا لإليريون "انا آسف، فقد نَزَفَتْ حتى الموت، كانت تلفظ انفاسها الآخيرة حينما وُضِعَتْ على السرير بعياداتي، نجحت بإيفاق النزيف من رحمها و لكن لم يكفي ذلك، فارقت الحياة بعد بضعة لحظات من استلامي للحالة،"
قال إليريون و الدمع يتراقص في عينيه "ماذا حل بها؟"
"هنالك من انتزع الجنين من احشائها بوحشية، في هذه الحالة يحدث نزيف شديد الى ان يتم ايقافه او بغير ذلك تفارق المريضة الحياة،"
اجاب بغضب شديد "يعني هنالك من حاول قتل ام ابني و ابني!!!"
اجاب بحذر من غضب الأمير "إليريون، استطيع ان أؤكد لك ان عملية بهذه الوحشية قد يكون المقصود منها إنهاء حياة الكساندرا و الجنين، انا بحياتي كطبيب ما رأيت عمليات إجهاض كهذه، كان الجنين مقطع الى اجزاء بجانبها، حتى انا ليس عندي العلم الكافي لعملية إجهاض كهذه، و اساسا لا اوافق عليها الا بأول فترة الحمل حينما يثبت ان الأم متعبة من الحمل، حيث اطلب من الأم شرب منقوع من أعشاب يؤدي الى نزول الجنين من احشائها متوفيا، جنين ألكساندرا لم يكن صغيرا و لا انا و لا اكبر طبيب بإليريا و لا بكافة دول الجوار لديه العلم الكافي لفعل هذا...الا إن كان جزارا...او،"
"ماذا تقصد يا ثيورن،؟"
"السحرة لديهم علوم كثيرة، اشعر بأنني اريد استشارة كلوديوس بهذا الأمر،"
"ايها الحارس!"
اقترب احد الجنود من إليروين و ضرب تحية عسكرية قائلا "اوامر سمو الأمير مطاعة،"
"ابلغ كلوديوس ارادتنا بأن يجتمع بنا هنا الآن،"
"حاضر سمو الأمير،"
ذهب على وجه السرعة ليترك الجمع بذهول تام من الذي جرى، فَكًرَ إليريون و الدمع يسيل من عينيه بمن قد يكون الفاعل لهذه الجريمة النكراء، فمن الواضح انه يكرهه كرها كبيرا ليحاول الإنتقام منه بهذه الطريقة، شعر بضيق من منظر ألكساندرا ممدة امامه، اقترب منها و امسك يدها ليجدها باردة جدا، فتعود على جسدها و هو دافئ مفعم بالحياة، فجأة قال بصوت عالٍ متوعدا "بحق كل الآلهة التي تُعْبَدْ في داخل إليريا سأغرز سيفي بقلب من قتلك انت و ابني يا ألِكْسَاندرا،"
سأل "اين الجنين اريد ان..."
قال الطبيب "لا انصحك بهذه المشاهدة،"
دخلت سيسيليا الى معبد القصر، سارت بخطوات بطيئة و هي تقترب من غرفة ثيورن، كانت اصداء حديث إليريون و ثيورن تملأ المعبد و لكنها لم تفهم شيئ، فكان المعبد كبيرا و الأصوات تترك اصداءا عميقة به، كان الكلام يتضح اكثر كلما اقتربت من غرفة مشفى المعبد، سمعت ثيورن أخيرا يقول بإستياء شديد و هي على بعد بضعة خطوات من الغرفة "هذه جريمة نكراء و الذي فعلها ربما يريد الإنتقام منك سمو الأمير،"
"سرعان ما سأعلم من الفاعل، و صدقني سأجعله يتذوق المُرْ اشكال و انواع،"
أمر ثيورن الجنود "يجب ان تدفن بالحال بالمقابر الأميرية، سرعان ما ستتحلل..."
قال إليريون "بعد ان يأتي كلوديوس ستدفن، و سأعلن الحداد في الإمارة لأربعين يوما عليها،"
أمر إليريون الجنود "اتركونا بمفردنا،" تحرك الجند الى خارج الغرفة بينما طارت حمامة من نافذة المعبد و توقفت على الأرض امام سيسيليا، أومأت لها بالإقتراب و استقرت على ذراعها، أخذت من ساقها الصغيرة ورقة ملفوفة بخيط ثم لَفًتْ ورقة صغيرة بها رسالة على نفس الساق وربطتها بحبل صغير، رمتها بالهواء لتطير الحمامة خارج النافذة، قالت في سِرٍها "سَتُسَرْ بهذه الرسالة، و لكن الذي لا تعلمه ان نهايتها وشيكة على يدي،"
فجأة خرج الجنود من مشفى الطبيب بإنتظام و بحركة الرجل الواحد ليجدوها في طريقهم، توفقوا عندها بينما ضرب لها الضابط المرافق لهم تحية عسكرية ثم خرجوا جميعا من المعبد، تنبه إليروين الى حركة الضابط من داخل الغرفة فسأل بصوت عالٍ "من هنا؟!"
اقتربت سيسيليا من غرفة الطبيب فأسرع إليريون و حضنها، قال باكيا "أرايت يا سيسيليا ما حل بألكساندرا حبيبتي قلبي..." شعرت سيسيليا بألف سيف ينغرز بصدرها من بكاءه على ضُرًتِهَا، و لكن تمالكت اعصابها فكانت تعلم معزتها لدي عشيقها، اجابت ببعض المواساة "أنا آسفة لما جرى، فالمصاب مصبنا جميعا،"
"لم ارى ابني...ابني..." اكمل إليريون بكاءه بينما حضنته بحنو قائلة "قد توفيا، لا يمكن فعل شيئ، تمالك نفسك و كن قويا،"
بالرغم من الغيرة التي كانت تشتعل في قبلها على إليريون الا انها شعرت براحة ما في نفسها، فالمستجدات كانت لصالحها، فهو مُلْكُها الآن، و حتى و هو منكسرا بين ذراعيها سرعان ما سيستيقظ من حزنه و سيعود لها، كان يجب ان تنتصر بهذه المعركة ليكون عرش إليريا مُلْكَاً لها باي ثمن فقد كافحت طويلا ليقع إليريون في حبها، و لكن كان يجب التخلص من المستجدات الآخيرة قبل ان تعلن انتصارها، ابتسمت لمحتوى رسالتها و قالت في ذاتها "سرعان ما ستلقي مصير الكسنادرا يا اميمة انت و البربري الذي بِرِفْقَتُكْ،"
ابتسمت لمشاعر الحنين التي تدفقت في ذاتها و إليريون بين ذراعيها، حضنها بإحكام و ارتفع بكاءه بمرارة بالمعبد، دوت اصداء شهقاته بأرجاء المكان كالطفل الصغير بينما تملكت سيسيليا راحة لم تعهدها قبل ،
******************************************************
وفقا اميمة و أيون يصغيان الى القائد سولا بإمعان و هو يروي لهما الصعوبات التي كان حراسه يواجهونها اثناء دورياتهم الليلة على اطراف إليريا، فالمدينة كانت كبيرة و ذات مساحة ضخمة مقارنة بالمدن المحيطة بهم حيث كانت العديد من اطرافها مكشوفة للغابات مباشرة، عدم اكتمال سور المدينة بالسرعة المرجوة وضعهم تحت ضغط اضافي حيث ان كروم العنب التي يمتلكها عدد من الأثرياء و الممتدة على مساحات شاسعة من اطراف المدينة كانت مكشوفة من دون حماية، مما كان يعرضها من حين لآخر لدخول الحيوانات عليها، كانت هنالك اسوار خشبية تحيط بمعظمها و لكن كانت الثعالب و الذئاب و الوحوش المختلفة ليلا تتسلل اليها من بين سياجها و تأكل جزءا من ثمارها، و رغم هذه الحوادث لم يكن هذا بالنسبة الى سولا التحدي الرئيسي للجنود حيث وظًفَ جزاء من الاثرياء و المزارعين عبيدا للحراسة الليلة، فحيوانات الغابات بنهاية المطاف لم تخيفهم بالقدر الذي كانت تخيفهم مؤخرا وحوش من نوع آخر ابتدأت بمهاجمتهم بشراسة تامة،
كان الجمع واقفا مع ثلاثة خيول لهم على مسافة ثلاثة كيلومترات من القصر الرئاسي على الأطراف الشمالية للمدينة، و كانوا بجانب مزرعة كبيرة للعنب لثري يدعى اوغستس ماركوس مفرودة على خمسة دونومات من الاراضي الخصبة، كان على مسافة بعيدة منهم و لكن واضحة للعَيَانْ حارس يجلس بالقرب من مدخل لها بجانب نار مشتعلة، و كان على الطرف الآخر البعيد لهم نيران يحجم لآلئ وضاءة تتراقص لحارس آخر، امتلات الأجواء من حولهم فجأة بصهيل الخيل مما دفع احد حراس المرزعة للنهوض فجأة، تراقص المشعل بيده و هو يسير نحوهم بينما قال سولا "هذا كونراد، انه حارس من حراس المزرعة هنا، ورديته تبدأ مع ساعات الليل و يسهر طواله ليقتل اي حيوان يدخلها،"
اقترب منهم فأضاء المشعل الجمع حيث كانوا يقفون بالظلام الدامس، كان كونراد عبد اسود طويل القامة حيث بلغ طوله مترا و تسعين سنتمتر، كان مفتول العضلات عريض المنكبين حيث اعلنت صلابة بنيته عمله الشاق بالمزرعة، قال مُرَحِبً "القائد سولا، مرحب بك، كيف حالك؟"
"انا بخير، هل كل شيئ على ما يرام؟"
"مؤخرا كل شيئ على ما يرام، ليس هنالك مشاكل لِنُبَلِغْ عنها سوى بعض الثعالب التي تجتاز الأسوار الخشبية لتأكل من اعشاش الدجاج و ثمار المزارع،"
"ضحك سولا قائلا "اعرفك بضيوف سمو الأمير، أميمة و آيون..."
تأمل وجه اميمة لبرهة من الزمن ثم قال بحماس"من مواجهات القتال بالمدرج؟ اعرفكما جيدا،"
قالت اميمة "يبدو اننا مشهورين اكثر من ما كنا نعتقد،"
اجاب بلفهة "انا طلبت إذن خاصا من سيدي اغسطس لأذهب و اشاهد جولة من جولاتٍ كنت انتِ فيها، و لكن لا اصدق، اذن الإشاعات صحيحة، انت إمرأة و ليس رجل...إنت إمرأة..." تفحصها كونراد من رأسها لأخمس قدميها و قال "و إمرأة جميلة جدا،"
ضحك أيون قائلا "يبدو انك لم تعجب بقتالها فقط..."
اجاب مؤكدا "و انت يا أيون كنت شجاع جدا حينما نازلك ذاك المارد الألماني...أظن كان اسمه...،"
قال أيون بثقة "أكْسِلْ...كان قائد و مقاتل...نعم يا صيدقي كان شديد البأس وكان متمرسا بالقتال، و لكنني كسبت الجولة حينها بعد نزال مرير،"
فجأة استل كونراد سيفة و انزله على اميمة لتسحب بسرعة البرق أميمة سيفها و تعترض ضربته القوية، قفز سولا و أيون خلفا و صرخ سولا "ما هذا بحق الإلهة افروديت؟؟؟َ!!!"
ردت اميمة بضربة قوية اعترضها كونراد بسيفه فدفعته الى الوراء، وضع سيفه بغمده و اميمة تقول مبتسة له "هذه طريقة مقاتلوا الموريون بالترحاب، ماذا تفعل هنا يا موري؟ انت على مسافة بعيدة من ديارك؟"
ضحك و قال "الوشم الذي على ذراعك، رأيته بنور المشعل،"
نظر الجمع الى ذراع اميمة و كونراد ينيره بالشعلة، قال كونراد "من وضعه لك؟"
كان يتألف من سيفين و صورة اسد كبيرة، كان يغطي منطقة ذراعها عند اسفل كتفها اليمين، كانت هنالك احرف تحته، سأل سولا "ماذا تقول الكلمات يا اميمة،"
صمتت اممية لسؤالهم فقال كونراد "انه باللغة الأمازيغية، لغتنا، يقول انا اسد من أسود قومي،"
نظر الجمع الى اميمة لبرهة من الزمن، ترددت بالإجابة قليلا ثم قالت موضحة "إمرأة من العرب وجدتني جريحة حينما كنت انا و قومي ننازل الصليبين حين هجومهم على قريتنا قبل ان يتم اسري، قرأت لي الكف و قالت لي انه مكتوب لي مصير محارب، ثم وضعت لي هذا الوشم كتذكار لتنبؤها،"
سأل كونراد "و ستضع لك رتبة قائد هكذا؟ اشك بروايتك، هذه رتبة قائد بجيوش الأمازيغ و عند العرب، من انت يا اميمة؟ مهاراتك ليست قليلة بالقتال؟ لم ارى يدك من سرعتها و انت تستلين سيفك؟"
قال أيون "حسن، حسن، سنكمل مشهد الإعتراف في المرة القادمة، و لكن لا تفاجئنا مرة آخرى فَكِدْتُ اسحب سيفي عليك و انازلك؟"
قال كونراد "صديقتك محاربة شرسة، بطرفة عين استلت سيفها و صدتني،" ابتسم كونراد قليلا ثم انتصب و سحب سيفه مرة ثانية امامها و ادى لها تحية جندي لقائد، "احترامنا لك ايها القائد،"
قال سولا "كونراد اريدك ان تبقى يقظ، فَسَمِعتَ على الأكيد بالحوادث المؤسفة التي اصبحنا نواجهها من حين لآخر،"
خَيًمَتْ تعابير القلق على وجهه بسرعة من السؤال، فأجاب بنبرة مترددة "ايها القائد لا اخفيك انني خائف منها قليلا، و لست بمفردي فمعظم العبيد الحراس اصبحوا يخافون الحراسة الليلية بسببها مؤخرا، اسياد المزارع اصبحو يدفعون اجور مضاعفة للعبيد ليقبلوا بالحراسة الليلية و لكي لا يخافوا و يهربوا الى الغابات و يتركوا وظائفهم اذا شعروا بأي شيئ مريب،"
نظر الجمع الى بعض لبرهة من الزمن ثم آكد سولا "أتقصد الثلاثة الذين هربوا من مزرعة السيد فيليبي بآخر بدر مكتمل؟
"لم يعودا منذ تلك الليلة، و لم اسمع عنهم اية اخبار منذ تلك اللحظات المشؤمة، يقال ان وحوش الغابة ربما افترستهم، دوريات اصحاب المزارع لم يجدوا لهم حتى بقايا او عظام،"
"لا تخف فقد ضاعفنا ورديات الجند بالليل بعد ان اجتمع اصحاب المزارع مع الأمير منذ فترة،"
سأل أيون كونراد "هل هنالك شهود عيان على هذه الوحوش التي تهاجم المزارع، هل رآها احدهم؟ اية شيئ عنها؟"
اجاب بنبرة قلقة "لغاية هذة اللحظة ليس عندي يقين بشيئ، فهم يهاجمون بالظلام فقط، فجأة يدخل بعضهم على المزارع من الغابات و يكسرون الأسوار الخشبية رغم سماكة اضلاع الشجر المستخدمة، انهم عنيفون كقطيع هائج من الثيران و يهاجمون الماشية و الخيول، يتركون اثار ضخمة على الأرض، يقولون حراس المزارع التي تمت مهاجمتها انها سريعة الخطوات فلا يستطيعون اللحاق بها،"
سألت أميمة "إذا لم ينازلها احد بعد؟"
"سيدتي انها كبيرة الحجم فالحراس يخافونها، و لم يرد لي نبأ ان احدا تجرأ على مهاجمتها،"
"عد الى حراستك كونراد،"
"ايها القائد انا صياد و محارب منذ ان انفصلت عن قومي لاسعى لرزقي، و حينما قبلت وظيفة اسياد المزارع هنا كحارس كان لي باع طويل بصيد الوحوش...هذه ليست وحوش عادية من الأثار التي تتركها، و لا تشبه اي حيوان عرفته فاصطدت الضبع و النمور و الأسود و الغزلان و الثيران بأنوعها...اثار مخالبها الضخمة على الأرض لا تشبه شيئ اعرفه، انتبهوا لأنفسكم،"
تركهم كونراد و ابتعد رويدا رويدا ليخيم عليهم الظلام من جديد، سأل سولا "اترون ما نحن نواجه؟"
فجأة استلت اميمة سيفها و رمته بقوة نحو كونراد، التف بالهواء بسرعة كبيرة فاستداركونراد نحوه و امسكه، واجه اميمة و رماه بقوة وسط ظلام الليل فشعرت اميمة بحدس المحارب لديها اتجاهه و امسكته من مقبضه، صرخ سولا عليهما "ما هذه الألعاب التي تلبعونها!"
صرخ أيون عليهما "كفا لهوا يا قوم، افزعتموني!"
أكمل كونراد طريقه الى المزرعة فصرخت اميمة "يا هذا، اريدك معنا،"
توقف عن السير، مكث بمكانه لبرهة من الزمن ثم عاد اليهم فإنتشر نور الشعلة بيده من جديد، سأل "ماذا تقصدين؟"
سمو الامير وَكًلَنَا انا و آيون بالقضاء عليها،"
نظر الى سولا و اجاب "انها تمزح، انها كالأشباح، ثم انها كائنات ضخمة جدا و عطشة للدماء، هذا ما نعرفه عنها، لا نعرف شيئ آخر عنها؟!"
قال أيون "فهمت ما تقصدين يا اميمة،" نظر الى كونراد و أكمل "انها بالنهاية وحوش، و اصطياد الوحوش لا يختلف كثيرا عن اي اسد او لبؤة او نمر،"
فال سولا "سأدفع لك مقابل خدماتك، يبدو انك تعجب رفيقاي،"
سأل أيون مختبرا "كيف علمت انتجاه سيف اميمة؟ انطلق من الظلام الدامس و كان يتجه نحوك بسرعة كبيرة،"
"انها بالغريزة، فمع اصطياد الوحوش و اشتراكي بالحروب و النزالات تصبح بعد فترة من الوقت يقظٌ لنسمة الريح التي تمر بجانبك،"
قال سولا سأدفع لك مئتي ليرة، ضعف اجرك الشهري من اوغستس إن انضممت للفريق، ماذا تقول، ستكون دائما برفقتنا،"
فجأة ارتفع صهيل الخيل و إبتدأوا بالحراك بقلق بجانبهم، نظر سولا اليها و قال "يبدو اننا لسنا بمفردنا، اخفضوا صوتكم، يدكم على أغماد سيوفكم" ارتفع بالخلفية صوت حفيف عالٍ...و كأن احدهم يسير بين زرع الأرض،
********************************
نظر الإمبراطور هنري الثالث حاكم الإمبراطورية الرومانية المقدسة الى الرسول امامه و هو على وشك قراءة مخطوط من إليريون، كان جنديا من زَيٍهْ و كان يعاني الإرهاق الشديد فكان سفر الايام باديا على وجهه، خيًم الهدوء على البلاط حيث كان خالياً من الناس بغير عادته ما عدا وزيره غابريال الذي كان يقف الى يمينه مترقبا لفحوى الرسالة المفاجئة، ارتفعت بعض التمتمات في الخلفية البعيدة فكانت معظم حاشيته متواجدة بصالة المراسم و الإحتفالات القريبة منهم، فكانت الصالة تضج بالضيوف من النبلاء و اشراف باريس حيث كانوا سيحتفلون بعيد زواجه الثاني من زوجته الإمبراطورة شارلوت، فحضر لفيف من ألمع شخصيات المجتمع بقصد مشاركة العائلة الحاكمة هذه الفرحة العزيزة عليها، انخفصت الإنارة بالقصر بعض الشيئ فدنت ساعات الغروب عليهم و الرسول يفتح رسالته و يقرأ مضمونها عليه، قال باللغة الفرنسية "الى صديقي و اخي فخامة الإمبراطور هنري الثالث حاكم الإمبراطورية الرومانية المقدسة، سلام عليكم ابعثه من بلدكم الثاني إمارة إليريا طالبا من عناية السماء ان تديم عليكم الصحة و طول العمر و العافية الطيبة، و متمنياً لكم و لبلادكم دوام الإستقرار و الإزدهار، فمنذ فترة طويلة من الزمن و نحن نشارككم فرحة الإنتصارات التي حققناها سويةً بالغزوات المتتالية على الإمبراطوية الإسلامية لإستعادة ما قد أخذوه منكم من اراضٍ و مقدسات عزيزة عليكم بالسلب و النهب و بالقوة و عن دون وجه حق، فبفضل تعاوننا المثمر معا استمرت حملاتنا لسنين طويلة جالبةً الينا انباء انتصارات متكررة على مدن ساحلية كثيرة للارضي المقدسة، و إذ اعيننا تتجه نحو القدس موطئ قدم انبياؤكم و موطئ قدم السيد المسيح إلهكم و سيد الخليقة، و إذ قواتكم تستعد لشن حرب ضروس لإستعادة القدس الى حكمكم المبارك من عناية السماء لتغدو جزءا لا يتجزء من اراضي امبراطوريتكم الغالية و الشرعية، و إذ قد شَهِدَ تحالفنا العزيز و الغالي انتصارات مشتركة كثيرة إلا انه قد جلبت الايام الحالية لإليريا تحدٍ قد يهدد امنها و استقرارها بصورة كبيرة، نحن بصدد مواجهته بقوة و لكن ستجبرنا هذه التحديات مُكْرَهينْ على عدم المشاركة بحملاتكم القادمة مع جيوش ريتشارد الأول ملك انجلترا، اكرر اسفي كقائد لقومي على هذا التغير الجذري بدعمنا لحملاتكم المباركة التي نصلي لآلهة إليريا جميعها لتتكلل بالنصر و لكن الظروف بهذه الايام اقوى من إليريا راجيا منكم تفهمكم بالكامل و تقديركم لقرارنا، اخوكم إليريون امير إمارة إليريا،"
شعر هنري فجأة بعدم ارتياح، تأمل الرسول بغضب و هو يَلُفُ الرسالة بين يديه و يعيدها الى حافظتها، كان يعلم جيدا ان جيوشهم قد تحركت نحو سواحل القدس منذ عدة ايام بقيادة ريتشارد الأول و ربما تكون على وشك الوصول الى معسكراتهم بالساحل، وقف و القلق يجتاح كيانه و قال لرجاله، "خذوا ضيفنا العزيز، و اطعموه و اتركوه يرتاح من عناء السفر، ريثما يكتب وزيرنا ردنا على رسالة سمو الأمير ليحملها ضيفنا الكريم الى دياره العامرة،"
قال الرسول "الشكر الجزيل لسيدي الإمبراطور على حسن الضيافة مسبقا،" انحنى امامه لتأخذه الجند بعيدا عن البلاط، انتشرت بالخلفية تمتمات اعلى من السابق للناس من صالة الإحتفالات إذ كان يزداد حجم الحضور رويدا رويدا مع اقترابهم من لحظات المساء، وقف الخدم في شرفات الطابق العلوي يمدون قضبان حديدية لزرع بالثريات بالأسْقُفِ الشموع للإضاءة، مر جندي و انار عددا من الشعلات المعلقة على الجدران من حولهم و هنري يقول لغابريال "نحن في ورطة كبيرة جدا،"
قال غابريال بإنزعاج "اعلم يا مولاي،اعلم، فهذه تطورات لم تكن ضمن توقعاتنا إطلاقا،"
اجاب هنري بمرارة "بعد بضعة ايام قد يلاقينا صلاح الدين بحوالي ضعف عدد جندنا الحالي،"
"عدد جنودنا مع جنود ريتشاد اثنتي عشر ألف بين فرسان و مشاة، و لكن ها قد حُرِمْنَا من عشرة آلاف رجل من إليريا، ماذا سنفعل؟ ماذا سنفعل؟"
"اخ للمصيبة، فالقدر يلعب لعبته معنا، و لكن لا عليك فلكل مصيبة حلها، ريتشارد يجب ان يعلم بان الإليريون اعتكفوا عن امدادنا بالعتاد و الرجال،" هز رأسه و ضرب كف بكف و أكمل بغصة حزن شديدة "ارسل مخطوط الى معسكراتنا الساحلية، قد يصل رسولنا قبل جيوش ريتشارد الى الساحل و قل له ان يسلمها اليه عند وصوله فورا، لا يجب ان يلتحم ريتشارد مع جيوش صلاح الدين دون علم مسبق بقرار إليريون، هيا، و بلغ قائد حرسنا بأن يبدا بتجهيز خمسة آلاف مقاتل من جندنا لدعم حملاتنا بالقدس،"
اجاب غابريال "سمعا و طاعة، و لكن ارسال قوات اضافية سيضعف من امننا الداخلي بأرجاء بلادنا، ثم سيدي لا اقصد التدخل فالقرار قراركم انتم و ريتشارد و لكن...أليس الإنسحاب من الحرب احسن من الخسارة المذلة لنا؟ الا يجدر بنا الإنسحاب من هذه الحرب؟"
نظر هنري بعينان تغليان غضبا الى غابريال و صرخ قائلا "سنخسر القدس على الجهتين سواء انسحبنا او قاتلنا...افهمت! فالنخسرها بحرب فذل الخسارة بالحروب اكرم لنا كملوك من جبن الإنسحاب...ما تخسره بحرب سيحافظ على ماء وجه الملوك و الرجال فبه كرامة لنا اكثر من لقب الجبناء..افهمت!!! .هيا نفذ اوامري!!!"
"اسف يا مولاي، فلم اقصد..."
"غابريال، حينما تصبح ملك و سيد على قوم قد يجبرك منصبك على أخذ قرارت لن تستطيع رؤية مداركها بوضوح و انت رجل عادي، فهذه قُدْسُنَا و خسارتها امام الله و نحن نحاول استعادتها احسن لنا من اهداؤها بسهولة الى من سلبها منا، ثم ماذا سنقول لشعوبنا، اننا جبناء و انسحبنا من المعارك و النزال؟ ريتشارد قائد لجيش كبير و مقاتل و رجل حرب و لن يقبلها على نفسه و لا انا كحاكم الإمبراطورية الرومانية المقدسة سأقبلها،"
جلس هنري على عرشه مرة ثانية و قال "هذه الحرب ستكتب بالتاريخ فهي مصيرية لشعوبنا كافة، إما ان نخسرها بشرف او اما ان نكسبها بشرف القتال،"
سأل غبريال بحذر من عضب الحاكم "سيدي هنالك سؤال يراودني دائما، لماذا كل هذا القتال على اوراشاليم؟ اليس حقن الدماء احسن من سفكها على اليَبَسْ؟ ألم يأمرنا السيد المسيج بالإنجيل بذلك؟ قال السيد المسيح و هو بين يداي بيلاطس الحاكم قبل آلآمه بالإنجيل لو مملكتي من هذا العالم لأرسل أبي طغمات من الملائكة للدفاع عني، و لم يحرك ساكنا حتى للإنتقام مِنْ مَنْ أَوْجَعَهُ و صَلَبَهُ، هل الأمر يستحق كل إراقت الدماء هذه؟"
"نحن لأ نَشُنْ حملاتنا بدوافع دينية، بل نسترها بالدين كي نكسبها شرعية امام شعوبنا، و هل تظن بالمقابل ان صلاح الدين دوافعه كلها دينية؟ صلاح الدين حاكم و له طموحه و ينوي بإستعادة القدس منا توسيع نفوذه و نفوذ امبراطوريته، انا افهمه جيدا كحاكم لبلادي، انه يسعى للزحف بجيوشه الى بلادنا، فإذا لم نوقفه عند حده بالقدس سيأتي بجيوشه الى بلادنا، انها حرب سياسية و استراتيجية لا اكثر و لا اقل، هذه الحرب ابتدأت بالقدس و يجب ان تنتهي بها، نفذ اوامري"
"Vous ne voulez pas venir cherie1? Nous attendons قاطعهم صوت نسائي بالبلاط فجأة قائلا "
J’arrive اجاب هنري "
شاهدت شارلوت علامات عدم الإرتياح على زوجها، فاقتربت منهم متسائلة "الضيوف يسألون عنك حبيبي؟ و مندوب البلاط الملكي بإنجلترا و مولاتي إليزابيث زوجة مولاي ريتشارد سألت عنك، هيا، ألا يكفي سياسة اقله اليوم؟"
صرف غابريال قائلا "سنكمل لاحقا،" نزل عن عرشه و سار بالصالة مع شارلوت قائلا "هل تعلمي اننا سنخسر القدس؟"
فجأة توقفت شارلوت عن المسير و نظرت اليه متسائلة "كيف؟ و كل هذه القوات التي ستصل الى معسكراتنا على السواحل العربية؟ ثم الحرب لم تنتهي بعد،"
اخذ هنري نفس عميق و اكمل "أنه إليريون، قد ارسل لي مخطوطا مع قائد من قادته يخبرني بإستحالة ارسال قوات الى القدس بالحملة الحالية،"
لهث لسان شارلوت و ارتسمت تعابير الصدمة على وجهها، قالت "انا لا افهم، لماذا؟"
"Merde c’est pas possible, pas maintenant2…pas maintenant, Mon Dieh قال بحسرة مريرة "
اكملت شارلوت بصدمة "يا الهي، عفوك و رضاك، و المسكين ريتشارد، انه يُعَوِلْ على هذا الدعم لإنهاء الحرب لصالحنا، قد تكون خسارتنا كبيرة دون دعم حلفاؤنا، و المسكينة إليزابيث...ريتشارد قد ُيقْتَلْ..."
اجاب هنري بحزم "لا تخبريها بشيئ، فستصاب بقلق بالغ على زوجها، لننتظر نتيجة النزال، مع هذه المستجدات سيقابلنا صلاح الدين بجيوش جرارة مقارنة بعددنا، آمرت بخمسة آلاف رجل من جندنا ليرسلوا دعم لريتشارد و لكن...قد لا يصلون بالوقت المناسب، سيصلون ربما و المعركة قد حُسِمَتْ،"
اجابت بقليل من الثقة بمحاولة لطمأنة زوجها "ريتشارد رجل حرب و شديد البأس و سيشعر بما يحصل، سيتصرف،"
"هيا لنذهب الى ضيوفنا، قد فعلنا ما بوسعنا، نحن نحارب لإسترجاع القدس لأسباب سياسية لا دينية، ربما لهذا السبب ستؤخذ منا، ليس عندي يقين بشي...قلبي يعتصر حزنا على نتيجة اعلمها مسبقا و مذبحة كبيرة قد نتواجه بها...و لكن..." اكمل بإستسلام "هيا بنا الى ضيوفنا، لا اعلم كيف سأبتسم امام إليزابيث و انا اشعر ان زوجها قد يعود لها شهيدا بالمستقبل القريب..."...يتبع...
(1 جُمَلْ بالفرنسية معناها : ألا تريد ان تأتي حبيبي، نحن ننتظر)
(2 اللعنة، هذا غير ممكن، ليس الآن، يا إلهي)
تعليقات القراء
أكتب تعليقا
تنويه :
تتم مراجعة كافة التعليقات ،وتنشر في حال الموافقة عليها فقط.
ويحتفظ موقع وكالة جراسا الاخبارية بحق حذف أي تعليق في أي وقت ،ولأي سبب كان،ولن ينشر أي تعليق يتضمن اساءة أوخروجا عن الموضوع المطروح ،او ان يتضمن اسماء اية شخصيات او يتناول اثارة للنعرات الطائفية والمذهبية او العنصرية آملين التقيد بمستوى راقي بالتعليقات حيث انها تعبر عن مدى تقدم وثقافة زوار موقع وكالة جراسا الاخبارية علما ان التعليقات تعبر عن أصحابها فقط ولا تعبر عن رأي الموقع والقائمين عليه. - يمكنك تسجيل اسمك المستعار الخاص بك لإستخدامه في تعليقاتك داخل الموقع |
|
الاسم : | |
البريد الالكتروني : | |
التعليق : | |