رصيف وشارع وقصر“


على إحدى الإشارات الضوئية في عمان الغربية توقفت كعادتي انتظر اللون الأخضر للمتابعة .. لكن اللون الأحمر هذه المرة قد طال ولازلت انتظر .. بينما أنا منشغل بالتفكير سمعت صوتا خافتا كأنه صوت عجوز أو ربما طفلا لم يبلغ بعد... أو حتى صوت فتاة .. صوتا يحمل في طياته أنينا لا يسمعه من يجهل صوت الأنين .. كان ينادي ...فاين... فاين ... نظرت إليه كان عجوزا قد فاق السبعين وكان يحمل في يديه بعض باكيتات الفاين ويعلق في رقبته صندوقا خشبيا في داخله بعض النقود .. كان يرتدي بنطالا باليا وقميصا قد شكا طول الأمد ... نظرت إليه متعجبا من سوء الدهر وسوء القدر... ثم متجاهلا نظراتي ولىّ إلى الرصيف ...
بدأت خطواته تنتهي إلى ذلك الرصيف ... ربما قد أعياه التعب فراح يفترش الرصيف ... بعد أن ألقى بكل ما لديه في صندوقه الخشبي الذي جعل منه وسادة قاسيه ... ربما ينتظره في البيت أطفال ... وربما غدا أطفاله كبارا وألقوه إلى مزابل الدنيا .... وربما و ربما ... لكنه الآن يفترش الرصيف ... على الجهة المقابلة سيارة فخمة تقودها امرأة شعرها أشقر طويل بيدها سيجاره ... سيارة أخرى فيها أطفال ينظرون إلى العجوز كأنه ليس جزْءا من واقع مر .... دورية شرطه تمر من جانبه دون أي ردة فعل ... أدركت بأن الجميع قد ألف ذاك المشهد حدّ الخدر ...
بدأ قلبي يدمع وبدأ الخوف يتملكني ... أصوات السيارات تزعجني ... صخب المارة يميتني ... ورصيف ذلك العجوز يؤلمني ... أخيرا .. كان اللون الأخضر ... تابعت مسيري وذلك المشهد لا يفارق خيالي أبدا .. قصور هنا وهناك ... سيارات .... مجمعات تجاريه ... مراقص ... أموال ... رجال .... نساء .... أطفال....شياطين في كل مكان وكأنّ كل أولئك لا يستخدمون الفاين ....
بعيدا عن ذلك استذكرت ذلك الموقف ... كان ذلك المتسول المسكين يدعى عمر ... قد اعتاد الناس عليه في مدينتي ... لم يكن منذ البداية كذلك بل كان رجلا ذو عقل كذلك سمعت من الناس ... حيث قالوا .. كان له من المال الكثير .. لكن جشع إخوانه وغرورهم بطول الأمد جعلوه بلا شيء... لم يكن ذلك مهما عندي لكني لا يمكن أن أنسى ذلك الموقف وبطله عمر المسكين وأخجل أن أقول متسولا ...عندما جاءت امرأة مسكينة تحمل بيديها طفلة رضيعة ... تطلب المال من عمر بصوتها المتكسر جاهلة ما يكون .... ناظرا إلينا وواضعا يديه في جيوبه افرغ كل ما فيها من مال وأعطاها إياه دون منّه ولا بخل ... ثم أكمل سيجارته صامتا ... ربما يبحث عن بقايا كوب شاي ... أو فنجان قهوة ... حقا كان موقفا غريبا قد شاهدته عيناي .... ربما أن عمر أدرك حاجتها وحاجة رضيعتها للمال ... فآثرها على نفسه ... لا أعرف من هو المسكين هل هو عمر أم عجوز الإشارة أم أنا .... أم أصحاب القصور الذين تزعجهم أصوات من يبيعون الفاين ؟...
أكاد أسمع صوت أنين عمر وصوت نشيج العجوز يقول لأصحاب القصور ....
أرجوكم اتركوا إليّ نعشي .... لا تسلبوني حق الموت ... فاليوم ما عادت القبور تزينها الأحلام ... وما عادت أحلام الغابرين واقعا مرا ... أرجوكم بل أتوسل إليكم أزيحوا عن كاهلي عبء الحياة .... أحرقوا صوري الملونة بألوان الشقاء .... كسّروا رفوف المعابد في تاريخي ... حطّموا أسوار الحدائق في جناني ... احرقوا خواطري واسرقوا مني الحروف .... أرجوكم احفروا لي قبرا أكون فيه الملك.... فأنا أقسم بالأبدية أنني لم أعد أريد من الدنيا شيئا إلّا رغيف خبز وماء الله ... ولكن لا تتركوني أفترش الرصيف مرة أخرى ... ولا تجعلوا مني صورا تملأ مجلاتكم وصحفكم الملقاة على كراسي سياراتكم المهملة ... ولا تجعلوا صمتي يحرقني قهرا فالقلب ما عاد يحتمل نبضه .. أتوسل إليكم استحلفكم بأنوار قصوركم التي لا تنطفئ أبدا ... بأرصدتكم النهرية بأحلامكم التي ليست كأحلام الفقراء .... بالمياه التي تزين نوافيركم ... استحلفكم بكل ما لديكم من رفاه وبذخ ... اتركوا إلي نعشي ولا تزاحموني على القبر....
اتركوني اجعل من الرصيف لي قصرا ولكن لا تنظروا إليّ لا تشعروني بضعفي ولا تخطوا خطوطا سوداء على قلبي الأبيض ... فإني ومن مثلي لا نتردد في أن نجعل من الأرصفة لنا قصورا ومن الأوهام حياة رفاه ... أرجوكم اتركوا إلي رصيفيّ ولا تزاحموني حتى السرير..................... أرجووووكم......

reyad_aa@yahoo.com






تعليقات القراء

ايناس ابوكف
رائعه جد وهل صوره كثير بنشوفها بحياتنا وانت بتحكي عن قصه بتصير معنا بشكل يومي من دون مبالغه
31-08-2011 07:56 PM

أكتب تعليقا

تنويه :
تتم مراجعة كافة التعليقات ،وتنشر في حال الموافقة عليها فقط.
ويحتفظ موقع وكالة جراسا الاخبارية بحق حذف أي تعليق في أي وقت ،ولأي سبب كان،ولن ينشر أي تعليق يتضمن اساءة أوخروجا عن الموضوع المطروح ،او ان يتضمن اسماء اية شخصيات او يتناول اثارة للنعرات الطائفية والمذهبية او العنصرية آملين التقيد بمستوى راقي بالتعليقات حيث انها تعبر عن مدى تقدم وثقافة زوار موقع وكالة جراسا الاخبارية علما ان التعليقات تعبر عن أصحابها فقط ولا تعبر عن رأي الموقع والقائمين عليه.

- يمكنك تسجيل اسمك المستعار الخاص بك لإستخدامه في تعليقاتك داخل الموقع
الاسم :
البريد الالكتروني :
اظهار البريد الالكتروني
التعليق :
رمز التحقق : تحديث الرمز
أكتب الرمز :

إقرأ أيضاً

رياضة وشباب

محليات