ما بعد بعد بنغلاديش ..


تستند الدول الى تاريخ وتراث والتحام مع الأرض ونظام متكامل منتمي لشعبها كي تبقى وتدوم كحضارة وشخصية وطنية مستقلة، فالوطن العربي مثلا يستند الى أرضه الأصيلة وتلتحم شعوبه بتاريخها الإسلامي، ومهما مر على الوطن العربي من مؤامرات وتقسيمات واستعمار واحتلال وانحطاط.. فما زلنا نجده مؤهلا لكي ينتظر أملا بالعزة والكرامة والحرية، فالنخب الخائبة التي تقود المرحلة الآن ستكون يوما ما مجرد أسماء في وثيقة سوداء من وثائق التاريخ العربي وستكتب تباعا خلف اسم أبو عبدالله الصغير (آخر ملوك الأندلس)، وسيأتي من رحم الهزائم من يقلب هذه الصفحة ليكتب بأول السطر (وتحرر الشرف العربي مجددا..)، وهذه حتمية لا تموت.
مسألة رجوع الحرية والكرامة الى الوطن العربي.. هي مسألة وقت، فحل المشكلة هو أخذ القرار بالحل وإرادة التغيير هي في التقدم خطوة واحدة للأمام ليس أكثر، فكل عوامل النهضة والتحرر موجودة هاهنا ولا يثبطها إلا وهن قد ذهبنا إليه ولم يأتينا، وقد يكون ربيع الثورات العربية الذي انفجر بقوة إحدى الظواهر المبشرة لصحوة هذه الإرادة لو تم دراسته واستنباط القوة الكامنة في هذا الربيع وثواره، فعملية خلع رؤساء جمهوريات الموز المستمرة يجب أن نراه تعجيلا في إسدال الستار على زمن الإحباط والتردي الذي عشنا فيه وعاش فينا.
علينا الآن دراسة أنفسنا فكيف فشلنا وكيف سيّر عدونا ألينا الفشل تلو الفشل وبنا له على هذا الفشل النجاح تلو النجاح؟، والمعضلة الأولى التي يجب أن نحلها.. من هو عدونا أو أعداؤنا؟
أبسط البسطاء فينا يدرك أن عدونا الأول هو الكيان الصهيوني الذي وضع برتوكولاته قبل مائة وخمس عشر سنة وتفوق على البرنامج الزمني الموضوع لتحقيقه، ومن اعتقد أن كابوس (من النيل للفرات) قد انتهى وكانت فلسطين هي كبش الفداء عن الجميع.. يكون قد ساهم في خلق هذا الكيان وديمومته، فهذا الكيان السرطاني لن يستطيع الصمود في الحيز الجغرافي المحصور في فلسطين أكثر من عقد أو عقدين من السنوات ولأكثر من سبب وهذا ما يدركه عدونا ويعمل على استثماره أعدائنا الجدد.
فخوف الكيان الصهيوني من نتائج التغيرات العربية الايجابية المحتملة قد يساعد في تجاوزه والتغلب عليه التحصينات العسكرية المهولة التي صنعها لنفسه ولكن بنفس الوقت يدرك أن كل أسلحة العالم لن تستطيع أن تزيل عزلته وتلغي تنافره مع البيئة العربية المحيطة والمختلطة معه والتي لم ولن تقبله بالتأكيد حتى لو تم عقد اثنان وعشرون معاهدة سلام مع هذا الكيان، وكذلك يتجلى خوفه بالانحسار الديموغرافي لمستوطنيه ولممه حيث يتوقع وخلال عقدين من الزمن تحول يهود الكيان الغاصب الى أقلية في فلسطين التاريخية (بما فيها الضفة الغربية وغزة حيث لا يمكن فصلها عن فلسطين التاريخية حتى لو أصبحت فيها ستة حكومات) وبالتالي مزيدا من الغربة أمام الشعوب العربية المحيطة له، وهنا نرى الخطر الذي يستشعر به الكيان دون أن ندرك قيمته الفعلية لنا، فعزلته ومقاطعته والمشكلة الديموغرافية بالنسبة للكيان الصهيوني ضمن أراضي فلسطين هي اكبر المشاكل التي يعمل عليها ويتجنب الحديث عنها، وما عمليات التهجير وتشديد الخناق على شعبنا في الداخل إلا وسيلة صغيرة وقد تكون وسيلة يائسة من وسائل صراع البقاء لها.
وهنا علينا أيضا البحث عن الآلية السرية التي يعمل عليها الكيان لاكتساب الديمومة وإزالة الإخطار الكامنة في مستقبله أمام استحالة تفريغ الأرض بالكامل من أصحابها وتدجين المحيط العربي الحالي بما يتناسب مع البيئة الخاصة به، حيث يرى مفكري وقادة الكيان الصهيوني في النموذج الأوروبي المناطقي نموذجا مطلوبا خلقه لاستيعابه مع المحافظة على الوضع المتميز له، فالنموذج الأوروبي مكون من دول اختلفت لغاتها وحضاراتها وقيمها ومستواها الاقتصادي والعلمي واستطاعت التعايش والتجاور حديثا بعد الحرب العالمية الثانية، وهذا لا يعني أن الكيان الصهيوني ينظر الى تطوير المنطقة لتصل الى مرحلة أوروبا بل يعني تغيير المنطقة وتركيبة شعوبها لتصل الى التنافر العام الكامل لقبول الجسم المتنافر أصلا أو دسه من خلال صنع شرق أوسط جديد تتلاشى فيه أي أسباب للوحدة والالتقاء على رفس الجسم الدخيل وتنعدم فيه الأهداف وينتهي من خلاله المصير المشترك ويكون ذلك من خلال المساهمة في خلق كانتونات اثنيه وطائفية وإقليمية عشائرية تتنافر بأكثر من ايدولوجية ولغة ودين، في حين يبقى الكيان الصهيوني على جاهزية واستعداد كامل لأخذ دوره التوسعي المنتظر في هذا الشرق الأوسط الجديد.
ومن أحدى طرائق الكيان الصهيوني للمحافظة على الجاهزية الهجومية والحفاظ على روح المبادرة للامتداد الجغرافي المطلوب لهم هو وضع أفراد الكيان الصهيوني أمام خطر دائم يستشعرون به ويعملون على محاكاته ومقاومته لإدامة الروح العدائية المقاتلة للشعوب العربية وتطوير النزعة الحاقدة بما يؤدي لإزالة الخطر المحيط بهم بعد تفتيه وتشتيته بإيجاد مبررات واذرعه داخلية من وسط الرحم العربي والإسلامي وذلك لإزالة أسباب الوحدة، بالإضافة الى استثمارهم لهذا الخطر لإدامة الدعم الغربي لهم وتبني التمثيل الاستعماري في هذه المنطقة، حيث إن خلو الكيان الصهيوني من روح الطوارئ قد يعني وجوب اتجاه الكيان الى الوصول الى دولة مسالمة مطلوب منها أن تعمل وفق المعايير العالمية للدول المتحضرة وتعيش ضمن الحدود المرسومة والمعترف بها ضمن أراضي فلسطين المغتصبة عام 1948 وبضمان كل العالم بما فيها الدول العربية وفق مبادرة السلام العربية، وطبعا هذا ما لا يرغبه هذا الكيان السرطاني حيث يدرك أن استمرارية هذا الكيان وضمان توسعه لما بعد النيل والفرات هو باستمرارية العداء الكرتوني المحيط له لا بالوحدة والحرية والتقدم في الوطن العربي ولا بالشكل الديموغرافي في المنطقة التي هو دخيل عليها.
إذا بالتأكيد يدرك الكيان الصهيوني بأهمية وجود عداء كرتوني دائم له، بل يعمل على صنعه وإدارته، وعلينا النظر قليلا بالأعداء المعترف بهم صهيونيا ولندرس انجازاتهم الحقيقية على المشروع الوطني لنجد أن اكبر الانجازات لهم كانت هي مصادرة المقاومة وتحويلها من ضد الضد الى مقاومة علينا وعلى مشروعنا العروبي كما حدث في العراق وفي لبنان وفي سوريا ومن هنا وجب علينا أن ندرك مدى خطورة المستقبل الذي ننتظره حيث أن الأعداء المعلنين لعدونا كانوا طاقة مشروعه بالتأكيد والتهويل لخطرهم والتخويف منهم نوعا من التطبيل والتلميع لهم، فبجرده بسيطة للتاريخ القريب نجد أن الأعداء الحقيقيون للكيان الصهيوني قد أقيمت عليهم اكبر الحروب وانتهت بهم الحالة شهداء، وتحول الناجون من هذه المعارك الى رهائن لدى الكيان الصهيوني بقدرة قادر كما في حال السلطة الوطنية الفلسطينية الذي لا يملك رجالها الآن قرار استخدام الرصاص حتى في الأعراس.
وهنا نجد أنفسنا في وسط لعبة ليس لنا فيها دور سوى الهتاف تارة والدعاء تارة أخرى أمام عدو يمتلك (المقاومة) و(مقاومة) تمتلك عدو بوكالة حصرية، فهذه الحناجر تتقن الصراخ وتوزيع الاتهامات ومن ابرع ما تملك إتقان تسخين الساحات والقلوب حين يتطلب الأمر تأديب الشعوب، هذه المقاومة حلبت شهيتها لحصة أخرى من شوارعنا ومن تخمتنا بأوطاننا، ورسمت حدود الولاية والوصاية ضمن صفقة خبيثة أصبحنا نحن كشعوب (حبة البركة) فيها.. فلا عجب أن حرمتنا هذه (المقاومة) من حق المقاومة وأصبحت مراكزها تعمل على تصنيع مقاومة كرتونية وزعبرة صوتية تصيبنا بالصمم وتأخذنا في أحلامنا الى ما بعد بعد حيفا.. لنصحو فنجد أنفسنا ما بعد بعد بنغلاديش.



تعليقات القراء

لا يوجد تعليقات


أكتب تعليقا

تنويه :
تتم مراجعة كافة التعليقات ،وتنشر في حال الموافقة عليها فقط.
ويحتفظ موقع وكالة جراسا الاخبارية بحق حذف أي تعليق في أي وقت ،ولأي سبب كان،ولن ينشر أي تعليق يتضمن اساءة أوخروجا عن الموضوع المطروح ،او ان يتضمن اسماء اية شخصيات او يتناول اثارة للنعرات الطائفية والمذهبية او العنصرية آملين التقيد بمستوى راقي بالتعليقات حيث انها تعبر عن مدى تقدم وثقافة زوار موقع وكالة جراسا الاخبارية علما ان التعليقات تعبر عن أصحابها فقط ولا تعبر عن رأي الموقع والقائمين عليه.

- يمكنك تسجيل اسمك المستعار الخاص بك لإستخدامه في تعليقاتك داخل الموقع
الاسم :
البريد الالكتروني :
اظهار البريد الالكتروني
التعليق :
رمز التحقق : تحديث الرمز
أكتب الرمز :

إقرأ أيضاً

رياضة وشباب

محليات