قبلة .. على جباه آبائنا ..


جراسا -

موضوع يهمنا جميعاً، نعيش معه، ونعيش فيه، يعيش معنا، ويعيش فينا، موضوع مهما حاول بعضنا التهرب منه، لن يتمكن من ذلك، لأن هذا الموضوع سيسيطر على كيانه ووجدانه مهما إبتعد عنه.
موضوع بحثت جاهداً عن كتاب يفيه حقه، لأجد بأن جميع الكتب التي تحدثت عنه لم تتحدث إلا بكل إستحياء، فقررت البحث في الموضوع، لأقوم بالكتابة عنه، ومنحه ولو بعضاً من حقه، هذا الموضوع هو الأب، نعم الأب، الذي لا تتحدث عنه معظم الكتب التي تم تأليفها في بر الوالدين إلا من خلال الحديث عن بر الأم، أو عن بر الوالدين !!!
ألا يستحق الأب الذي أفنى عمره من أجل أبنائه، أن نكتب عنه ولو بضعة سطور قليلة، ربما سترسم الإبتسامة على محياه؟ سؤال لم أتمالك نفسي إلا وأنا أوجهه لأحد المسؤولين عن إحدى دور النشر بدون أن يجد إجابة شافية له !!
الأب الذي تنوعت أسباب عقوقه وإهماله في هذه الأيام للأسف، بالرغم من أمر الله عزوجل الواضح لنا بالإحسان للوالدين، حتى وإن أمرونا بالإشراك به عزوجل، فقال أعدل العادلين: ((وَإِن جَاهَدَاكَ عَلَى أَن تُشْرِكَ بِي مَا لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ فَلا تُطِعْهُمَا وَصَاحِبْهُمَا فِي الدُّنْيَا مَعْرُوفًاً وَإتَّبِعْ سَبِيلَ مَنْ أَنَابَ إِلَيَّ ثُمَّ إِلَيَّ مَرْجِعُكُمْ فَأُنَبِّئُكُم بِمَا كُنتُمْ تَعْمَلُونَ)) سورة لقمان الآية 15، سبحانك يا الله ما أعدلك، فالوالد الذي تحملنا، وعانى من أجلنا كثيراً، يستحق أن نتحمله ونعاني من أجله ولو قليلاً !!
روى الخليفة \\\"المأمون\\\" أنه لم ير أحد أبر من \\\"الفضل بن يحي\\\" بأبيه، فقد كان أبوه لا يتوضأ إلا بماء ساخن، فلما دخلا السجن، منعهما السجان من إدخال الحطب في ليلة باردة، فقام الفضل، وأخذ إناء الماء، وأدناه من المصباح، فلم يزل قائماً به حتى طلع الفجر، فقام أبوه فصب عليه الماء الدافئ، فلما كانت الليلة الأخرى أخفى السجان المصباح، فقام الفضل فأخذ الإناء فأدخله تحت ثيابه حتى يدفأه بحرارة بطنه، متحملاً بذلك برودة الماء والجو، من أجل أن يتوضأ والده بماء دافئ !! وهنا قصة أبكت الفاروق \\\"عمر بن الخطاب\\\" رضي الله عنه، وأبكت كل من كان حوله، فقد كان أمية الكناني رجلاً من سادات قومه، وكان له إبناً يسمى كلاباً، فذهب كلاب يوماً إلى عمر يريد الجهاد في سبيل الله، فأرسله عمر رضي الله عنه، فلما علم أبوه بذلك تعلق به، وقال له: لا تدع أباك وأمك الشيخين الضعيفين، ربياك صغيراً، حتى إذا إحتاجا إليك تركتهما؟ فقال: أترككما لما هو خير لي، ثم خرج غازياً بعد أن أرضى أباه، وقد كان أبوه وأمه يجلسان يوماً ما في ظل نخل لهم، وإذا حمامة تدعوا فرخها الصغير، وتلهو معه وتروح وتجئ، فرآها الشيخ فبكى، فرأته العجوز يبكي فبكت، ثم أصاب الشيخ ضعف في بصره، فلما تأخر ولده كثيراً ذهب إلى عمر رضي الله عنه، ودخل عليه المسجد وقال: والله يا إبن الخطاب لئن لم ترد علي ولدي لأدعون الله عليك في عرفات !! فكتب عمر رضي الله عنه برد ولده إليه، فلما قدم ودخل عليه، قال له عمر: ما بلغ برك بأبيك يا كلاب؟ فقال كلاب: كنت أفضله وأكفيه أمره، وكنت أختار له أفضل الطعام والشراب، فبعث عمر إلى أبيه فجاء الرجل، فدخل على عمر رضي الله عنه، وهو يتهاوى، وقد ضعف بصره، وإنحنى ظهره، فقال له عمر رضي الله عنه: كيف أنت يا أبا كلاب؟ فقال: كما ترى يا أمير المؤمنين، فقال: ما أحب الأشياء إليك اليوم، فقال: ما أحب اليوم شيئاً، ما أفرح بخير، ولا يسوءني شر، فقال عمر: فلا شيء آخر، فقال: بلى، أحب أن كلاباً ولدي عندي، فأشمه شمة، وأضمه ضمة، قبل أن أموت، فبكى عمر رضي الله عنه، وقال: ستبلغ ما تحب إن شاء الله، ثم أمر كلاباً أن يخرج، ويحلب لأبيه ناقة كما كان يفعل، ويبعث بلبنها إليه، ففعل ذلك، ثم جاء وناول الإناء إلى عمر، فأخذه رضي الله عنه، وقال إشرب يا أبا كلاب، فلما تناول الإناء ليشرب قال: والله يا أمير المؤمنين إني أشم رائحة يدي ولدي كلاب، فبكى عمر رضي الله عنه، وقال: هذا كلاب عندك، وقد جئناك به، فوثب إلى إبنه وهو يضمه، ويعانقه، وهو يبكي فجعل عمر رضي الله عنه والحاضرون يبكون، ثم قال عمر: يا بني إلزم أبويك فجاهد فيهما ما بقيا، ثم إعتنى بشأن نفسك بعدهما، وقد روى عبد الله بن عمر رضي الله عنهما: أن رجلا من الأعراب لقيه بطريق مكة، فسلم عليه عبد الله، وحمله على حمار كان يركبه، وأعطاه عمامة كانت على رأسه، فقال إبن دينار: فقلنا له: أصلحك الله يا إبن عمر، إنهم الأعراب، وهم يرضون باليسير، فقال عبد الله: إن أبا هذا كان واداً لعمر بن الخطاب رضي الله عنه، وإني سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: (إن أبر البر صلة الولد أهل ود أبيه) رواه مسلم في الصحيح، فإذا كان من البر أن يحسن أحدنا لوالده، ويتعامل معه معاملة طيبة، وأن يدعو لوالده، وهو حي يرزق، وليس فقط بعد مماته، فمن الجميل أن يشعر الأب بمحبة أبنائه، ويرى مشاعرهم تجاهه بعينيه، فمن أبر البر أن يبقى أحدنا على صلة طيبة مع من كان والده يودهم ويحترمهم في حياته، إحتراماً وتقديراً لوالده، لأن كل ما نقدمه لآبائنا سيقدمه لنا أبنائنا مهما طال الزمن، وقد تحدث أحد الآباء أنه قبل خمسين عاما حج مع والده بصحبة قافلة على الجمال، وفي الطريق رغب الأب أن يقضي حاجته، فأنزل الإبن من البعير، ومضى الأب إلى حاجته، وقال للإبن إنطلق أنت مع القافلة، وسوف ألحق بكم، مضى الإبن، وبعد برهة من الزمن، إلتفت الإبن إلى الوراء، ووجد أن القافلة بعدت عن والده، فعاد جاريا على قدميه ليحمل والده على كتفيه، ثم إنطلق يجري به، يقول الإبن: بينما هو كذلك أحسست برطوبة تنزل على وجهي، فوجدت أنها دموع والدي !! فقلت لوالدي: والله إنك أخف على كتفي من الريشة، فقال له الوالد: ليس لهذا بكيت، ولكن لأنني حملت والدي في نفس هذا المكان !! ولذلك يقولون: من يحرص على بر والديه تحرص ذريته على بره، ولننظر إلى قصة ذلك الشاب الذي أنهى الثانوية العامة، وعاد بشهادته فرحاً بمعدله المتميز، فقال له والده: خذ هديتك، وأعطاه مصحف، فرد الإبن: بعد كل هذا التعب تعطيني مصحفاً !! فرمى المصحف على وجه أبيه، وقبل أن يغادر المنزل، قال: لن أعود الى هذا البيت، وشتم أباه، وغادر المنزل!! وبعد عدة شهور ندم الولد على فعلته، فعاد إلى المنزل، وكان أبوه قد توفى، فوجد المصحف في غرفته، فتحسر على فعلته وأراد أن يقرأ بعض الآيات، فإذا به يفاجئ أن المصحف ما هو إلا علبة، وداخله مفتاح السيارة التي كان يتمناها، فأصيب الولد بالشلل، ولم يستطع الكلام بعدها، وجهش بالبكاء !!!
ولنتأمل حديث المصطفى صلى الله عليه وسلم: (الوالد أوسط أبواب الجنة فإن شئت فأضع هذا الباب أو إحفظه) رواه الترمذي، وصححه الألباني، فهل سأل أحدنا نفسه هل أضاع هذا الباب، أم حرص على الدخول منه مع البارين بوالديهم؟
فباب الوالد، هو باب خاص فقط بمن بر والديه في حياتهما، وبعد مماتهما.
قبلة على جباه آبائنا، وأن نبقى بجانبهم دائماً، وتبقى أسمائهم بجانب أسمائنا دائماً، لهو والله أقل ما يمكن أن نقدمه من أجلهم ...
وليسمح لي الجميع أن أهدي هذا المقال لوالدي الغالي، بارك الله لنا بك يا والدي الحبيب، وشافاك، وعافاك، وأنار دربك، وحقق مناك، وأسعد أيامك وخطاك، وضاعف لك إيمانك ويقينك، وصبرك وعزيمتك، اللهم لا تدع له هماً إلا فرجته، ولا حاجة عند أحد غيرك، وأقر عينيه بما يتمناه لنا في الدنيا، اللهم إجعل أوقاته بذكرك معمورة، وأسعده بتقواك، وإجعله في ضمانك، وأمانك، وإحسانك، اللهم أرزقه عيشاً قاراً، ورزقاً داراً، وعملاً باراً، اللهم إجعله من الذاكرين لك، الشاكرين لك، الطائعين لك، اللهم وإغفر له جميع ما مضى من ذنوبه، وضاعف له الأجر والثواب، وأرزقه عملاً زاكياً ترضى به عنه، اللهم وإختم بالحسنات أعماله، وأعنا على بره حتى يرضا عنا، وأعنا على الإحسان إليه دائماً، وأرضه اللهم علينا، وأعنا على خدمته كما ينبغي له علينا، اللهم وإجعلنا بارين طائعين له، اللهم وأرزقنا رضاه، ونعوذ بك من عقوقه.
والدي الغالي، يا منبع الوفاء، يا زهرة العطاء، وجوهرة الإباء، يا هيبة الكبار، وقلعة الشموخ والإكبار، يا صمود الأيام وصبر الليالي.
إسمح لي بقبلة على جبهتك الغالية يا والدي الحبيب، لأنها ستبقى دائماً البلسم الذي يخفف همومي وآلالامي، وسيبقى إسمك بجانب إسمي قبلة تزيده شرفاً، ورفعة، وصلابة، وذكرى طيبة لا تفارقني ما حييت.



تعليقات القراء

لا يوجد تعليقات


أكتب تعليقا

تنويه :
تتم مراجعة كافة التعليقات ،وتنشر في حال الموافقة عليها فقط.
ويحتفظ موقع وكالة جراسا الاخبارية بحق حذف أي تعليق في أي وقت ،ولأي سبب كان،ولن ينشر أي تعليق يتضمن اساءة أوخروجا عن الموضوع المطروح ،او ان يتضمن اسماء اية شخصيات او يتناول اثارة للنعرات الطائفية والمذهبية او العنصرية آملين التقيد بمستوى راقي بالتعليقات حيث انها تعبر عن مدى تقدم وثقافة زوار موقع وكالة جراسا الاخبارية علما ان التعليقات تعبر عن أصحابها فقط ولا تعبر عن رأي الموقع والقائمين عليه.

- يمكنك تسجيل اسمك المستعار الخاص بك لإستخدامه في تعليقاتك داخل الموقع
الاسم :
البريد الالكتروني :
اظهار البريد الالكتروني
التعليق :
رمز التحقق : تحديث الرمز
أكتب الرمز :

إقرأ أيضاً

رياضة وشباب

محليات