المرافي يروي سيرة الطالب اليتيم الفقير .. !


زاملت صديقاً في الجامعة قبل (٢٥) عاماً خلت في أول أيام دراستي الجامعية السنة الأولى و كانت ظروفه الإقتصادية صعبة جداً ، علاوة على أنه يتيم الأب و الأم ، فقد تم تعيينه من أهل الخير على نفقة صندوق الزكاة في ذلك الوقت ، مقابل (٥٠) ديناراً رأفة بظروفه القاهرة خادماً في أحد المساجد النائية البعيدة عن البيوت و المحلات و المراكز المختلفة لكي يصرف على نفسه و يدفع رسوم دراسته الجامعية؛كونه لا يوجد قروض ومنح كما هو عليه الحال حاليا ، حيث أمضى فترة دراسته في الجامعة و هو يعمل خادماً للمسجد ، وتارة أخرى يساعد في غسيل و تكفين الموتى .

كنت في أول أيام دراستي الجامعية قبل التعرف على الزملاء والتكيف مع ظروف السكن وغيرها أذهب عنده و أشعر بالرعب والخوف ، حيث أن الطريق المؤدي له غير مضاءة و الكلاب تنبح على قارعة الطريق ، و كنت أسمع أصوات مخيفة ومرعبة حتى أنني كنت أخشى أن التفت إلى الوراء و كأنني كنت أشعر أن أحدا يمشي خلفي ، حيث أمضي مسيري و أنا اقرأ المعوذات خوفا من أن تلاحقني الكلابُ التي كان نباحها مخيفاً، خاصة وأنا أمشي في الظلام في منطقة خالية و لا يوجد بيوت ولا وسائل مواصلات لا سيما أنني طالبٌ مستجدٌ لا أعرف شيئا عن تلك المنطقة و لم تكن هنالك هواتف خلوية في ذلك الوقت ، حيث أصل مكان صديقي بعد معاناة حقيقية و الخوف يعتريني من كل جانب ، كنت بعض الأحيان أتعمد الذهاب إليه في وضح النهار ، خوفا من الطريق المظلمة في الليل .

كان صديقي يسكن في غرفة صغيرة جداً بجانب المسجد الذي عين فيه خادماً ، و كنت في كل مرة أذهب إليه يخفي معاناته المؤسفة ومشاعره الحزينة، فقد كانت البسمة تعلو محياه في حديثه معي ، رغم أن والدته توفيت قبل دخوله الجامعة بسنوات و والده قبل دخول الجامعة بأشهر ، كنت أستغرب قوة شخصيته رغم أنه في سن (١٨) سنة . لقد كان طيباً جداً لمجرد أن أصلَ عنده يضع ابريق الشاي على البابور ، (البريموس )و يقوم بعمل قلاية بندورة حتى أتناول وجبتي الغذاء أو العشاء ، وفي أيام أخرى أجده يطبخ مخلفات الدجاج و عظام الماعز التي ترمى من المحلات على ماء ومكونات الشوربة ، وكان يمتنع إطعامي منها من باب الخجل متذرعا بأنها علاج .

كان في شهر رمضان يأكل الخبز المفتوت بمرقة الصلصل ، فقد كان يتجنب أكل اللحم والدجاج و حضور الولائم في رمضان التي كان يقيمها بعض أهل الخير في المساجد متذرعا بأن آباءنا وأمهاتنا القدامى عاشوا حياة صعبة وقاهرة و لم يكونوا يأكلون اللحم ولا حتى الدجاج من شدة الفقر ( حياته خشنة) كان يردد؛" اخشوشنوا فإن النعم لا تدوم"

كان صديقي يثير الدهشة والغرابة عندما تجالسه ، فهو يمضي الوقت في سرد الأحاديث الحسنة و يشكر الله تعالى أن سخر له العمل في المسجد خادماً البعيد عن الناس ، ومن العجب العجاب أنه لا يتذمر ولا يشكو كحالنا نحن ، فقد كنت أستغرب كيف لطالب جديد يسكن في غرفة بعيدة عن الناس و المجتمع ، أن تشاهده و هو في حالة من الفرح والإبتسامة رغم آلامه الكثيرة وأحزانه العميقة ، و كنت عندما أستيقظ من النوم أشاهده و هو يمضي ساعات الليل و هو يقرأ القرأن الكريم ، و يستمع لآيات من الذكر الحكيم بواسطة المسجل ، كان يتصرف و كأنه لا يعرف الهموم والأحزان ، حيث كنت أرقد عنده في تلك الغرفة عندما أذهب إليه في جنح الظلام والساعات المتأخرة أحياناً ، أخشى الرجوع إلى سكني في الساعات المتأخرة، أنتظر قدوم الفجر و بعدها بساعتين اغادر و يكون وقتها الظلام قد ولى .

كنت أستغرب تصرفاته ، فهو يمضي الوقت و أنا أجالسه يذكر الصفات الحسنة و محاسن الآباء والأمهات القدامى بشكل عام، و كانت الابتسامة لا تفارق محياه رغم فقدانه لوالديه،بينما أنا كنت في البدايةأتذمر من الفقر والمسكن و الظروف الصعبة تارة ، و أشكو له مرض والدتي تارة أخرى، وكيف أنها تكفلت بدراستي و أخشى أن تغادر إلى رحمة الله قبل إنهائي للدراسة الجامعية !!! و أحيانا يستحوذ عليَّ تفكيري بأنني سوف أترك الدراسة وفي كل مرة كان ينتقدني ويقول :" وحّد الله وكّل أمرك إلى الله - يا يوسف - ما في حدا بموت من الجوع " بينما الآن نشاهدهم يموتون من الجوع في غ*زة يا سادة !!!

كانت لكلماته ولشخصيته أكبر الأثر في نفسي مما جعلني أقوى على صعوبات الحياة و زدادتني دافعية في تحمل الظروف الصعبة القاهرة بداية دراستي الجامعية التي كنت أعيشها في الجامعة ، وقد شجعني هذا الكلام لإكمال مسيرتي الجامعية خاصة في السنتين الأولى والثانية عندما كنت اسكن في بيت مهجور أيضاً .

ولاحقا بعد أن تخرج و حصل على وظيفة أصبح يعتني باليتامى و الفقراء ،كما علمت من بعض الأصدقاء أنه يشرف على ولائم الرحمن و يقدم الخير للفقراء والمحتاجين في رمضان وغيره ونذكره من خلال هذا المقال بغ*زة بعدما فتح الله عليه أبواب الرزق الوفير ، حيث كان يزورني فجأة قبل (١٨) سنة في بيتي وا تفاجأ بأنه يحضر معه طعامه وقهوته مما يثير غضبي ولكنه سرعان ما يقول:" إحنا إخوان ما بينا رسميات ولا تكاليف وأنت ظروفك صعبة بتدفع أجرة سكن ومصاريف أخرى وراتبك قليل ، فقد كان لا يكلف الناس الذين يزورهم رغم أنه يأتي من محافظة أخرى .

اخيرا أيها الطلبة الأعزاء!! لا أطلب منكم أن تعيشوا على التقشف ولا الخبز الناشف و لا على المصروف القليل ، بل نريد منكم التخطيط والتنظيم وإعداد موازنة أسبوعية ترأف بالأهل والاعتماد على الطبخ اليدوي في السكن بمشاركة جماعية و التعاون بينكم في النفقات، و مراعاة ظروف بعضكم في الدراسة والخدمة في السكن ؛ لأنها تعتبر البداية ما بعد الجامعة في اكتساب الخبرة وتكوين الأسرة فيما بعد .



تعليقات القراء

لا يوجد تعليقات


أكتب تعليقا

تنويه :
تتم مراجعة كافة التعليقات ،وتنشر في حال الموافقة عليها فقط.
ويحتفظ موقع وكالة جراسا الاخبارية بحق حذف أي تعليق في أي وقت ،ولأي سبب كان،ولن ينشر أي تعليق يتضمن اساءة أوخروجا عن الموضوع المطروح ،او ان يتضمن اسماء اية شخصيات او يتناول اثارة للنعرات الطائفية والمذهبية او العنصرية آملين التقيد بمستوى راقي بالتعليقات حيث انها تعبر عن مدى تقدم وثقافة زوار موقع وكالة جراسا الاخبارية علما ان التعليقات تعبر عن أصحابها فقط ولا تعبر عن رأي الموقع والقائمين عليه.

- يمكنك تسجيل اسمك المستعار الخاص بك لإستخدامه في تعليقاتك داخل الموقع
الاسم :
البريد الالكتروني :
اظهار البريد الالكتروني
التعليق :
رمز التحقق : تحديث الرمز
أكتب الرمز :

إقرأ أيضاً

رياضة وشباب

محليات