مصر وإثيوبيا وفشل مفاوضات السد!


جراسا -

بعد 12 عاماً من المباحثات، وصلت المفاوضات الثلاثية بين مصر والسودان وإثيوبيا بشأن سد النهضة الذي بنته الأخيرة على النيل الأزرق، إلى طريق مسدود، وتبادلت مصر وإثيوبيا الاتهامات بإفشالها، بينما آثر السودان إمساك العصا من المنتصف. ترى دولتا المصب أن المشروع يهدد إمدادات المياه لهما، وطالبتا مراراً بوقف ملء السد إلى حين التوصل لاتفاق بشأنه، لكن إثيوبيا واصلت العمل في السد حتى كاد يكتمل. حققت أديس أبابا هدفها، دون اكتراث بمناشدات القاهرة والخرطوم؛ ما يفتح باب أشد الاحتمالات خطورة.

12 عاماً
منذ 2011، تتفاوض الدول الثلاث للوصول إلى اتفاق بشأن ملء سد النهضة وتشغيله، إلا أن جولات التفاوض الطويلة بينها لم تثمر اتفاقاً، وفي 13 تموز (يوليو) 2023 حدد الرئيس المصري ورئيس الوزراء الإثيوبي أربعة أشهر للوصول إلى الاتفاق المنشود. الأسبوع الماضي، أعلنت وزارة الموارد المائية والري المصرية فشل الاجتماع الأخير من المفاوضات الثلاثية في أديس أبابا، وانتهاء المسار التفاوضي، لاستمرار المواقف الإثيوبية الرافضة عبر السنوات الماضية؛ للأخذ بأي من الحلول الوسط الفنية والقانونية، التي من شأنها تأمين مصالح الدول الثلاث، وتمادي إثيوبيا في النكوص بما تم التوصل إليه من تفاهمات، واستغلالها الغطاء التفاوضي لفرض أمر واقع على دولتي المصب، تتحكم من خلاله في النيل الأزرق بصورة مطلقة، بمعزل عن القانون الدولي. وأكدت مصر أنها "تراقب عن كثب عملية ملء وتشغيل سد النهضة، وتحتفظ بحقها المكفول بموجب المواثيق الدولية للدفاع عن أمنها المائي والقومي في حال تعرضه للضرر".

لم تتأخر إثيوبيا في الرد، اتهمت مصر بالتمسك بعقلية الحقبة الاستعمارية وإقامة الحواجز أمام الجهود الرامية إلى التقارب، وأكدت أن هدف المفاوضات "بناء وتعزيز الثقة بين الدول الثلاث (...) وليس حرمان إثيوبيا من حقوقها في استغلال مياه النيل".

على مدى سنوات التفاوض، أظهرت أديس أبابا رغبتها العارمة - رويداً رويداً - في الهيمنة على النيل الأزرق. دأبت على المماطلة لكسب الوقت وفرض الأمر الواقع بنظام "الحقن البطيء"، ومراوغة المصريين والسودانيين. تتفق على نقاط، ثم تتراجع عنها قبيل التوقيع، مثلما حدث عندما توصلت الدول الثلاث لتوافقات بشأن الاتفاق النهائي خلال مباحثات واشنطن في شباط (فبراير) 2020 بحضور الوسيط الأميركي، ثم تغيبت إثيوبيا عن جلسة توقيع الاتفاق النهائي، ما أثار غيظ الرئيس الأميركي السابق دونالد ترامب وأبدى استغرابه علناً من أن المصريين لم يقصفوا السد حتى الآن.

إن فشل المفاوضات نابع من تعنت إثيوبيا، وتصورها لإمكانية تطبيق مبدأ السيادة الوطنية على مورد مائي مشترك عابر للحدود، ورفضها الالتزام بالاتفاقيات والقرارات الدولية، حتى الصادرة عن مجلس الأمن، ولاتفاقية المبادئ الموقعة عام 2015 في الخرطوم.

بؤرة توتر
يشكل السد الإثيوبي بؤرة توتر إقليمي في حوض النيل والمنطقة برمتها، تبلغ تكلفته 3.5 مليارات يورو، وتسعى أديس أبابا لاحتجاز 74 مليار متر مكعب مياه وتوليد خمسة آلاف ميغاوات كهرباء، برغم أن الإيراد السنوي للنيل الأزرق يبلغ 50 مليار متر، وترجح المعلومات الواردة من إثيوبيا قيامها بوضع الحجر الأساس لسد جديد جنوب سد النهضة مطلع العام الجديد 2024، ما يمكنها من التحكم الكامل في النهر، في تكرار لمأساة نهري دجلة والفرات. إنه تحد جيوسياسي من إثيوبيا للسودان ومصر، بكل ما يحمله من تبعات؛ تتعلق أولاً بحتمية إدارة النهر إبان سنوات الجفاف، على النحو الذي يضمن عدم تعطيش دولتي المصب، ويرتبط ثانياً بوضع ضوابط لأي منشآت تقام على مجرى النهر، بحيث لا تؤثر على الشركاء، وهو ما يتعلق بالخطة الإثيوبية لبناء المزيد من السدود على مجرى النيل، وقد تتبعها بقية دول الحوض لو نجحت في فرض إرادتها، ما يجعل وصول مياه النيل إلى مصر أمراً متعذراً ذات يوم، ما يهدد بزوالها من الوجود، وهو ما لا يمكن تصور وقوف الخرطوم والقاهرة إزاءه موقف المتفرج.

عبّر السودان عن قلقه إزاء تنظيم وسلامة إمدادات المياه والسدود الخاصة به، كما أن ضعف معامل الأمان يجعل السد الإثيوبي بمثابة قنبلة نووية مائية في حالة انهياره، بمعنى الموت غرقاً أو عطشاً للشعبين السوداني والمصري، بينما تعتبر مصر السد تهديداً وجودياً، إذ تعتمد على النيل في 97 في المئة من احتياجاتها المائية. وسبق لوزير الري هاني سويلم أن حذر أمام مؤتمر الأمم المتحدة للمياه، من أن استمرار التحركات الأحادية لإثيوبيا يشكل خطراً وجودياً على 150 مليون مواطن، أما سامح شكري وزير الخارجية فأبرزت تصريحاته أن جميع الخيارات مفتوحة، بما فيها الخيار العسكري، لمعالجة مهددات الأمن القومي.

الخيارات مفتوحة
البيان المصري الأخير يعنى أيضاً أن جميع الخيارات مفتوحة، وأن القاهرة "تحتفظ بحق الرد". في موازاة الموقف الرسمي يشعر المصريون أن هذا الشعار "مستهلك"، عديم الفعالية بدون إجراءات على الأرض، تكبح الصلف الإثيوبي، حفاظاً على حق المصريين والسودانيين في الحياة. وقد اقترح الخبير الاستراتيجي جمال طه خطوات تصاعدية عدة في هذا المضمار، على سبيل المثال إلغاء إعلان المبادئ عام 2015، كإجراء سياسي وتحذيري لأديس أبابا، وأن تستعين القاهرة ببيوت خبرة دولية لها مصداقيتها في مجال السدود، لإعداد دراسة مدققة للأضرار التي ستقع على دولتي المصب، ثم تقدم الدراسة إلى مجلس الأمن، وتودعها كوثيقة بالأمم المتحدة والاتحاد الأفريقي، واعتبار الأمر مهدداً للسلم الدولي، والاستناد إلى المادة 51 من الفصل السابع بشأن حق الدفاع الشرعي وفقاً للقانون الدولي، ما يبرر منع إثيوبيا من تعلية السد للملء الخامس أو بناء سد جديد، حتى باستخدام القوة؛ برغم إدراك مصر والسودان أن مجلس الأمن لن يغير في الأمر شيئاً، لأن الولايات المتحدة والصين وروسيا أصحاب مصالح في إثيوبيا، وهي دول منابع تدعم الهيمنة على الأنهار، ولن تبادر بالتحرك ما دامت الأزمة لا تمس مصالحها، وإذا تحركت فسوف تنحاز لأديس أبابا، على نحو ما أكدته تجربة العرض على المجلس في أيلول (سبتمبر) 2021.

إن الظروف التي أدت إلى تمرير عمليات ملء السد السابقة بإرادة منفردة، شجعت إثيوبيا على التمادي في الأمر؛ هذا التمادي ناتج من استبعاد إثيوبيا إقدام مصر على عمل عسكري ضد السد، لأن مخزون بحيرة السد كفيل بإغراق السودان، كما أن ظروف مصر الاقتصادية، وفقدان الدعم الجيوسياسي السوداني قد يعرقل إقدامها على عمل عسكري، خاصة أنه لن يجد التأييد من المجتمع الدولي، بل قد يقابل بالإدانة والعقوبات، بالإضافة إلى أن الحرب الأهلية في السودان انعكست سلبياً على أزمة سد النهضة، وحرمت مصر من الضغوط التي مثلها وجود أسراب الطيران المصري بقاعدة "مروي"، على مقربة من السد.

في الإطار نفسه، تعمل إثيوبيا على إشغال القاهرة بالتهديدات، إذ تسعى أديس أبابا لتأسيس قوة بحرية، تنتشر بموانئ القرن الأفريقي، بمدخل البحر الأحمر قرب طريق التجارة عبر قناة السويس، ما يؤثر على الأمن القومي المصري والعربي. في المقابل، تراقب مصر الطموحات الإثيوبية، وقد استبقتها بتوقيع اتفاقيات تعاون اقتصادي وعسكري وأمني مع دول النيل والقرن الأفريقي، لتطويق إثيوبيا وإبقائها تحت ضغط دائم، كما أن الجيش المصري هو الأقوى عربياً وأفريقياً، والمقارنة بينه وبين الجيش الإثيوبي محسومة لمصلحته، وتسير القاهرة على مسارين: الصبر الاستراتيجي، والتزود بكل عناصر القوة الممكنة استعداداً للحظة المناسبة. كشف موقع "أفريكا أنتلجنس" الفرنسي عن أن مصر تتفاوض مع مجموعة "نافال" الفرنسية لشراء ست غواصات شبحية من نوع "براكودا" مزودة بصواريخ كروز. أما صحيفة "لا تريبيون" فأشارت إلى اهتمام القاهرة بالحصول على حاملة الطائرات "شارل ديغول"، القادرة على حمل مقاتلات "رافال"؛ للدفاع عن أمن مصر المائي ضد المخاطر بمنابع النيل، لو تعذر التنسيق مع السودان.

يضيق الخناق على مصر من جميع الاتجاهات الاستراتيجية؛ من غزة، والسودان، وباب المندب، وليبيا والمتوسط؛ لكن تظل المياه قضية حياة أو موت، في عصر أضحت فيه القوة الوسيلة للدفاع عن مصالح الدول، حتى لو تعارضت مع قواعد القانون ومبادئ العدالة.



تعليقات القراء

لا يوجد تعليقات


أكتب تعليقا

تنويه :
تتم مراجعة كافة التعليقات ،وتنشر في حال الموافقة عليها فقط.
ويحتفظ موقع وكالة جراسا الاخبارية بحق حذف أي تعليق في أي وقت ،ولأي سبب كان،ولن ينشر أي تعليق يتضمن اساءة أوخروجا عن الموضوع المطروح ،او ان يتضمن اسماء اية شخصيات او يتناول اثارة للنعرات الطائفية والمذهبية او العنصرية آملين التقيد بمستوى راقي بالتعليقات حيث انها تعبر عن مدى تقدم وثقافة زوار موقع وكالة جراسا الاخبارية علما ان التعليقات تعبر عن أصحابها فقط ولا تعبر عن رأي الموقع والقائمين عليه.

- يمكنك تسجيل اسمك المستعار الخاص بك لإستخدامه في تعليقاتك داخل الموقع
الاسم :
البريد الالكتروني :
اظهار البريد الالكتروني
التعليق :
رمز التحقق : تحديث الرمز
أكتب الرمز :

إقرأ أيضاً

رياضة وشباب

محليات