الدولة الفلسطينية .. منزوعة السلاح أم كاملة السيادة؟


جراسا -

لا شك في أنّ الحرب الأخيرة على قطاع غزة أعادت طرح قضية حلّ الدولتين ودفعتها إلى الواجهة، كما أعطت الحياة للمبادرة العربية والتي تقترح إقامة دولة فلسطينية على حدود 4 حزيران (يونيو) عام 1967 تكون عاصمتها القدس الشرقية. فرغم تعقّد الصراع الذي مرّ عليه أكثر من 75 عامًا إلاّ أنّه وصل إلى المسافة صفر، ليس فقط على مستوى طرح الحلول العملية للصراع، ولكن على مستوى تنفيذها أيضاً.

ويبقى السؤال عن شكل الدولة الفلسطينية المتخيّلة أو المتوقعة في المستقبل؟ وهل تقبل إسرائيل بإقامتها؟ وما معايير إقامة هذه الدولة الوليدة؟

دعونا نتفق أنّ إسرائيل لا تُريد سلاماً مع الفلسطينيين، فضلًا عن إقامة دولة فلسطينية على حدود الأراضي التي احتُلت في العام 1967، وكل مبادرات السلام التي طُرحت في السابق لم يبق منها سوى الحبر الذي كُتبت به، فإسرائيل تُريد أن تحصل على الأمن والأرض معاً.

واشنطن أدركت الآن أكثر من أي وقت مضى، أنّ تحقيق أمن إسرائيل بات مرهونًا بإقامة دولة فلسطينية. صحيح أنّ الإدارة الأميركية طرحت في أوقات سابقة ضرورة حلّ الدولتين، ولكن غابت الرغبة في أن يحصل الفلسطينيون على حقوقهم المشروعة في إقامة هذه الدولة، بدليل فشل كل مبادرات السلام التي وُقّعت برعاية أميركية، فكلها أفضت إلى لا شيء.

قناعة البيت الأبيض بضرورة حلّ الدولتين تمهيدًا لحلّ الصراع الفلسطيني- الإسرائيلي ونزغ فتيل الحرب المتوقّعة في منطقة الشرق الأوسط، والتي لن تقلّ في خطرها وأثرها عن الحربين العالميتين الأولى والثانية، وبالتالي لا بدّ من حلّ وحلّ عملي يُنهي الصراع من أساسه، وهو ما يكمن في إقامة دولة فلسطينية.

إقتراح طرح الدولتين سبق ودفع به الرئيس الأميركي الأسبق بيل كلينتون، فيما قال عنه رئيس الوزراء الإسرائيلي الأسبق ارييل شارون في تشرين الأول (أكتوبر) من العام 2001: إنّ الدولة الفلسطينية التي قد يوافق على قيامها يجب أن تُلبّي ما أسماه احتياجات إسرائيل الأمنية، بحيث تكون منزوعة السلاح ويراقب الجيش الإسرائيلي حدودها. كما أنّ أسحاق رابين كان له تصور لم يختلف كثيراً عن هذا الطرح.

ومنذ ذلك التاريخ والحديث مستمر عن دولة فلسطينية منزوعة السلاح، ففي تشرين الثاني (نوفمبر) من العام 2009، أعلن رئيس الوزراء الإسرائيلي بنيامين نتنياهو عن استعداده لقبول دولة فلسطينية منزوعة السلاح، ووضع شرطًا هو أن تعترف بإسرائيل وألاّ يُسمح لها بإمتلاك أي قوة عسكرية أو عتاد تسليحي.

الأمن يمثل هاجس إسرائيل من وراء أي طرح يتعلق بإقامة الدولة الفلسطينية؛ فإسرائيل وشركاؤها بدأوا يُدركون أنّه لا يمكن تحقيق أمن إسرائيل من دون إقامة هذه الدولة، وهو ما أعاد طرح حلّ القضيتين كبداية لحلّ الصراع الذي ظهر فيه عدد من التحولات، لعلّ أبرزها الصعود العسكري الكبير لحركات المقاومة الفلسطينية.

فإذا كانت واشنطن جادّة في حلّ الصراع، عليها أن تضغط من أجل إقامة الدولة الفلسطينية تمهيداً للاعتراف بها من قِبل المجتمع الدولي. ولكن السؤال الأهم على الأقل بالنسبة لإسرائيل، هل تحقّق هذه الدولة المتخيّلة أمن إسرائيل؟ الإجابة ببساطة شديدة، لا يمكن لهذه الدولة أن تُحقّق معايير الأمن بالنسبة لإسرائيل وهي منزوعة السلاح، وهنا يجب الإشارة إلى نقاط مهمّة عدة.

أولًا، إننا نتحدث عن حلّ للصراع، وبالتالي هذا الحلّ لا بدّ من أن يكون مرتبطًا بالحق الفلسطيني في تقرير مصيره وإقامة دولته، دولة ذات سيادة وكاملة الأهلية في الوقت نفسه، وبالتالي أي خلل يتعلّق بإقامة دولة منقوصة الأهلية يُساوي تمامًا فكرة عدم إقامة الدولة الفلسطينية، لأننا نتحدث عن إنهاء كامل للصراع، وهذا الصراع لن ينتهي إلاّ بعودة الحق الفلسطيني في إقامة دولة على الأقل على حدود عام 1967 وذات قوامة.

وإذا كانت إسرائيل تتعامل ببراغماتيه فلا بدّ لها من الموافقة على إقامة دولة فلسطينية كاملة السيادة، ولها جيش قوي؛ قوة الدولة الفلسطينية المتخيّلة هو من يُحافظ على أمن إسرائيل إذا التزمت الأخرى بمعاهدات السلام التي تربطها بالدولة الجارة، وهنا تبدو ضرورة وجود دولة فلسطينية ذات سيادة؛ فلا يمكن لهذه الدولة أن تُحقّق أمن إسرائيل كما تعتقد إسرائيل، من دون وجود جيش قوي لها، ولن يقبل الفلسطينيون أنصاف حلول لدولتهم.

فالحصول على نصف الحق سوف يخلق مقاومة جديدة لإسرائيل، وهنا سوف تُصبح الدولة الفلسطينية بقوى الأمن الداخلي أو الشرطة الداخلية، غير قادره على مواجهة أي قوة متصاعدة تُريد أن تحصل على باقي الحق الفلسطيني! هذا لو افترضنا موافقة حركات المقاومة الفلسطينية وفي مقدّمتهم "حماس"، على إقامة دولة فلسطينية منزوعة السلاح، مع العلم أنّ إسرائيل لا ترغب حقيقة في أن تكون عاصمة هذه الدولة القدس الشرقية، وهذه معضلة أخرى.

وهذا ما يدفعنا إلى القول، إنّ أمنيات إسرائيل شيء وما يجب أن تفعله وتوافق عليه شيء آخر، وحديثي هنا يرتبط بمعايير الأمن من وجهة نظر إسرائيل، التي لا بدّ من أن يضعها المفاوض الفلسطيني والعربي على الطاولة؛ فإقامة الدولة الفلسطينية بمثابة الدواء المر الذي لا بدّ من أن تتجرّعه إسرائيل، فهذه الدولة هي الوحيدة القادرة على تحييد خطر المقاومة على إسرائيل، بعد أن فشلت الأخيرة في حماية أمنها، وهنا يبقى التحوّل في ميزان القوة العسكرية لصالح المقاومة هو العين التي لا بدّ من أن ينظر من خلالها حلفاء إسرائيل.

طرح الدولة الفلسطينية كاملة السيادة ليس طرحاً عاطفياً، صحيح أنّه يُراعي الحق الفلسطيني في أرضه، ولكنه سوف يُحافظ على أمن إسرائيل أيضاً. هذه ليست دعوة للحصول على جزء من الحقوق، ولا دعوة لوضع أمن إسرائيل كأولوية في الحصول على الحق الغائب، ولكنه قراءة واقعية للصراع وفهم العقل الإسرائيلي المتوجس خوفاً من إقامة هذه الدولة، ومحاولة البناء على آخر نقطة يمكن للفلسطينيين أن يحصلوا من خلالها على جزء من حقوقهم المشروعة.

مقترحات إقامة دولة فلسطينية منزوعة السلاح تذهب إلى وجود قوات أمن داخلي؛ هذه القوات لن تكون قادرة على حفظ الأمن الداخلي ولا الخارجي، لأنّها قوات محدوده وذات تسليح محدود، كما أنّ إقامة دولة فلسطينية منقوصة السيادة سوف تدفع إلى ظهور مقاومة جديدة للحصول على باقي الحقوق الفلسطينية، والحل يكمن في إقامة دولة فلسطينية ذات سيادة وكاملة الأهلية، وما دون ذلك سوف نعود إلى مربّع الصراع الأول.

أعتقد أنّ حركات المقاومة الفلسطينية وفي مقدّمتها "حماس" لن يوافقوا على إقامة دولة فلسطينية منزوعة السلاح، وإنّ كنت أرى أنّ هذه الحركات باتت أكثر براغماتيه في التعامل مع المواقف السياسية، وأنّ "حماس" سبق وأن أعلنت قبولها بإقامة دولة فلسطينية على حدود 1967، وهو ما يمكن البناء عليه، لكن قضية التسليح سوف تكون مأزق الصراع الجديد، وحلّه في أن تتجرّع إسرائيل الدواء المر في قبول دولة فلسطينية كاملة السيادة على حدودها.

يبقى بعدها التزام إسرائيل بمعاهدات سلام والتزام هذه الدولة الفلسطينية الوليدة أيضاً بهذه المعاهدات. هذا هو التصوّر الوحيد الذي يمكن أن تُحافظ إسرائيل من خلاله على أمنها؛ إقامة دولة فلسطينية منزوعة السلاح تُساوي تماماً عدم إقامتها، ولن تُلبّي احتياجات الفلسطينيين ولا إسرائيل في الوقت نفسه.



تعليقات القراء

لا يوجد تعليقات


أكتب تعليقا

تنويه :
تتم مراجعة كافة التعليقات ،وتنشر في حال الموافقة عليها فقط.
ويحتفظ موقع وكالة جراسا الاخبارية بحق حذف أي تعليق في أي وقت ،ولأي سبب كان،ولن ينشر أي تعليق يتضمن اساءة أوخروجا عن الموضوع المطروح ،او ان يتضمن اسماء اية شخصيات او يتناول اثارة للنعرات الطائفية والمذهبية او العنصرية آملين التقيد بمستوى راقي بالتعليقات حيث انها تعبر عن مدى تقدم وثقافة زوار موقع وكالة جراسا الاخبارية علما ان التعليقات تعبر عن أصحابها فقط ولا تعبر عن رأي الموقع والقائمين عليه.

- يمكنك تسجيل اسمك المستعار الخاص بك لإستخدامه في تعليقاتك داخل الموقع
الاسم :
البريد الالكتروني :
اظهار البريد الالكتروني
التعليق :
رمز التحقق : تحديث الرمز
أكتب الرمز :

إقرأ أيضاً

رياضة وشباب

محليات