عشية صدور نتائج الثانوية العامة .. ( الجامعيُّ العجيبُ) !


في بداية قصتي هذه التي سوف أسردها لكم لا أطلب منكم أيها الطلبة الأعزاء و أنتم في طريقكم - إن شاء الله - للدراسة في الجامعة بعد أن صدرت نتائج الثانوية العامة أن تعيشوا على التقشف ولا الخبز الناشف و لا على المصروف القليل ، بل نريد منكم التخطيط والتنظيم ووإعداد موازنة أسبوعية ترأف بالوالد والاعتماد على الطبخ اليدوي في السكن بمشاركة جماعية و التعاون بينكم في المصروف، و مراعاة ظروف بعضكم في الدراسة والخدمة في السكن ؛ لأنها تعتبر البداية ما بعد الجامعة في اكتساب الخبرة وتكوين الأسرة فيما بعد .

كانت ظروفنا المعيشية في الجامعة صعبة جدا و كنا نحاول قدر الإمكان معايشة الظروف و الشعور مع الوالدين ، أذكر قبل حوالي (٢٤) سنة قد زاملت صديقا في الجامعة في أول أيام دراستي في السنة الأولى و كانت ظروفه الإقتصادية صعبة جدا ، علاوة على أنه يتيم الأب والأم ، فقد تم تعيينه خادماً في أحد المساجد النائية البعيدة عن البيوت و المحلات و المراكز المختلفة، و كان تعيينه على نفقة صندوق الزكاة في ذلك الوقت ، مقابل (٥٠) ديناراً و ذلك مراعاة لظروفه الصعبة ، حيث أمضى فترة دراسته في الجامعة و هو يعمل خادما للمسجد ، و كنت في أول أيام دراستي الجامعية أذهب عنده و أشعر بالرعب والخوف ، حيث أن الطريق المؤدي له غير مضاءة و الكلاب تنبح على قارعة الطريق ، و كنت أسمع أصوات مخيفة حتى أنني كنت أخشى أن التفت إلى الوراء و كأنني كنت أشعر أن أحدا يمشي خلفي ، حيث أمضي مسيري و أنا اقرأ المعوذات خوفا من أن تلاحقني الكلاب التي كان نباحها مخيفاً، خاصة وأنت تمشي في الظلام في منطقة خالية و لا يوجد بيوت ولا سيارات لا سيما أنني كذلك طالب جديد لا أعرف شيئا عن تلك المنطقة و ليس لديّ هاتف خلوي في ذلك الوقت ، حيث أصل صديقي بعد معاناة حقيقية و الخوف يعتريني من كل جانب .

كان صديقي يسكن في غرفة بجانب المسجد الذي عين فيه خادما ، و كنت في كل مرة أذهب إليه يخفي معاناته ومشاعره الحزينة ، فقد كانت البسمة تعلو محياه في حديثه معي ، رغم أن والدته توفيت قبل دخوله الجامعة بسنتين و والده قبل دخول الجامعة بأشهر قليلة ، كنت أستغرب قوة شخصيته رغم أنه في سن (١٨) . لقد كان طيباً جداً لمجرد أن أصلَ عنده يضع ابريق الشاي على البابور ، و يقوم بعمل قلاية بندورة ، كنت أتعمد الذهاب لديه في وضح النهار ، خوفا من الطريق المظلمة في الليل .

كان صديقي يثير الدهشة والغرابة عندما تجالسه ، فهو يمضي الوقت و أنت تجالسه يسرد الأحاديث الحسنة و يشكر الله تعالى أن سخر له العمل خادما في المسجد البعيد عن الناس ، كان لا يتذمر و لا يشكو ، فقد كنت أستغرب كيف لطالب جديد يسكن في غرفة بعيدة عن الناس و المجتمع أن تشاهده و هو في حالة من الفرح والإبتسامة ، و كنت عندما أستيقظ من النوم أشاهده و هو يمضي ساعات الليل و هو يقرأ القرأن الكريم ، و يستمع لآيات من الذكر الحكيم بواسطة المسجل ، كان يتصرف و كأنه خالٍ من الهموم والأحزان ، حيث كنت أرقد عنده في تلك الغرفة عندما أذهب إليه في جنح الظلام والساعات المتأخرة أحيانا ، حيث أخشى الرجوع إلى بيتي في الساعات المتأخرة، أنتظر قدوم الفجر و بعدها بساعتين اغادر و يكون وقتها الظلام قد ولى .

كنت استغرب تصرفاته ، فهو يمضي الوقت و أنا أجالسه يذكر الصفات الحسنة و محاسن الآباء والأمهات القدامى بشكل عام، و كانت الابتسامة لا تفارقه رغم فقدانه لوالديه، بينما أنا كنت في البداية أتذمر من الفقر والمسكن و الظروف الصعبة تارة ، و أشكو له مرض والدتي تارة أخرى، وكيف أنها تكفلت بدراستي و أخشى أن تغادر إلى رحمة الله قبل إنهائي للدراسة الجامعية !!! و أحيانا يستحوذ عليَّ تفكيري بأنني سوف أترك الدراسة وفي كل مرة كان ينتقدني ويقول :" وحّد الله وكّل أمرك إلى الله يا يوسف ما في حدا بموت من الجوع " .

كانت لكلماته ولشخصيته أكبر الأثر في نفسي مما جعلني أقوى على صعوبات الحياة و زدادتني دافعية في تحمل الظروف الصعبة القاهرة بداية دراستي الجامعية التي كنت أعيشها في الجامعة ، وقد شجعني هذا الكلام لإكمال مسيرتي الجامعية خاصة في السنتين الأولى والثانية .

كنت في السنتين الأوليتين من دراستي الجامعية أعيش في غرفة شبه مهجورة تنعدم فيها وسائل السلامة ، حتى أنني كنت أشعر بطعم غريب في الماء الذي أشربه ، فلما أستأذنت من الجيران لكي أتفقد الخزان على السطح كون مجموعة من الجيران مستأجرين الطابق الثاني و خزاني مستقل على سطح بيتهم ، فلما صعدت عليه وجدت العجب العجاب وما يطير الألباب عندما رأيته مفتوحا فيه الحرابي والجرذان والضفادع والطحالب والأوساخ والرمال ، حيث أمضيت سنة كاملة وأنا أشرب منه و لا أعلم بعدم نظافته حتى أن جيراني أصيبوا بالدهشة عندما أخبرتهم أنني أشرب منه قائلين :" فكرناك بتشرب ماء صحية وما بتستخدمه إلا للغسيل" ، فلما أكتشفت عدم نظافته قمت بتنظيفه وأغلاقه بخشب وكيس بلاستيكي فلم يكن معي لشراء له غطاء ، كنت مجبرا على عدم ترك الغرفة المهجورة ، فقد كنت مستأجرها ب ( ١٥ ) دينارا دون دفع فاتورة الماء ولا الكهرباء ؛ لأنني كنت أقوم بتشغيل لمبة واحدة وبعض الأحيان استخدم فانوس الكاز عندما تنقطع الكهرباء ، وفي الشتاء لا أقوم بتشغيل التدفئة الكهربائية ، فقد التزمت أمام الجيران بذلك كون العداد مشترك ، بل كنت أمضي وقتي في الفراش وعندما اشعر بالبرد القارص أقوم بتشغيل البابور وأضع عليه غطاء من الحديد لزيادة الحرارة في تدفئة الغرفة ، وكنت أستغله وهو مشتعل لتسخين الماء ؛ لكي أغسل ثيابي وملابسي و تارة أخرى للإستحمام لعدم وجود القيزر و غير ذلك ، كما كنت استغله لعمل قلاية بندورة يوميا ؛ كون البندورة في ذلك الوقت رخيصة ، فقد كنت أشتري بكستين بندورة لأن معظم أكلي بندورة غداء و عشاء و شوربة عدس و غيرها من أكلات بسيطة كنت أنقلها معي من بيتنا في الطفيلة ، كنت أشعله في البرد القارص فقط حتى أوفر من مصروف الكاز رغم أن مادة الكاز في ذلك الوقت رخيصة جدا حتى أنني حاليا بعد مرور تلك السنوات ما زلت أشعر بأوجاع البرد التي كنت أعاني منها قبل أكثر من (٢٤) سنة، فقد كنت دائما أشرب الجعدة والمريمية أيام دراستي الجامعية خاصة في فصل الشتاء بسبب البرد وبعض الأحيان أعاني من أوجاع في القدمين عندما كنت أذهب إلى عيادة الجامعة كان يقول لي الطبيب: هذه الأوجاع بسبب البرد ، دفي حالك زين يا شب البرد شديد في الشتاء بنخر العظم" وقتها أرد عليه بإبتسامة خجولة صفراء .

كنت في الأيام التي أفتقر فيها للطعام في الجامعة خاصة في السنتين الأوليتين أقوم بدق الخبز الناشف في السكن و أضع عليه الشاي وملعقة من السمن البلدي الناتج من رعاية والدتي لثلاثة من الماعز تهتم بتربيتهن لكي تؤمن مصروفي الجامعي .

كما أقوم بتقديمه لزملائي الطلاب الذين كانوا يزورني فجأة بالليل ولا أجد ما أقدم لهم من ضيافة ، حيث يعجبون بلذتها و حلاوتها وعندما يسألونني عن المكونات وأقول لهم أنها كنافة بلدية دأبت والدتي على عملها مصنوعة من الخبز الناشف والشاي والسمن البلدي .

بعدها بسنتين أنضم لي بعض الزملاء في السكن وقمنا بعمل صيانة خفيفة للغرفة و تشاركنا في أجرتها ومصروفها الأسبوعي وتحسن الوضع قليلا .

كان مصروفي الأسبوعي خمسة دنانير ، و كنت في بداية كل يوم أحد أجمع مقدار دينارين من كل زميل في السكن على شكل جمعية مصغرة، وأقوم بشراء صندوق (بكسة) بندورة و بطاطا وكيس بصل و سكر و شاي وأدخر مقدار دينار ونصف إلى منتصف الأسبوع لكي أشتري فيها دجاجة في ذلك الوقت وأطبخ لزملائي في السكن (مقلوبة أو مكمورة) .

كنت لا أكلف والدتي ، فقد كنت أشعر معها لأنها تكفلت بدراستي الجامعية بمصروفٍ مقداره خمسة دنانير أسبوعيا رغم أنني أبقى أسبوعًا كاملاً في الجامعة لا أغادرها إلا مساء الخميس من كل أسبوع إلى أهلي ، فعلى سبيل المثال كان زملائي في شهر رمضان المبارك يقرعون الباب على محاضرتي المتأخرة التي كانت تسبق آذان المغرب بساعة ، لكي أطبخ لهم ، عندها تسألهم الدكتورة التي كانت تدرس ذلك المساق عن حاجتهم لي ؛ فيقولون :" لكي يطبخ لنا فالوقت متأخر حيث لم يبق الكثير عن حلول آذان المغرب ( الإفطار ) ؛ فقد كنا لا نأكل في المطاعم بسبب ضيق الحال والفقر المدقع ، عندها تقوم الدكتورة بالتصفيق و إلقاء عبارات الإعجاب كيف لطلبة في الجامعة أن يعملوا فطرتهم في رمضان في السكن ، فقلت لها إنّ ما نقوم به من تناول الطعام ليس في رمضان فقط ، إنما ذلك يكون في كل الأوقات على مدار سنوات دراستنا الجامعية ، فلم يسبق لنا أن تناولنا الغداء في مطعم أو كفتيريا أو ما شابه ذلك شعورا مع الأهل ، ومع ذلك أصبح زملائي بعدما تخرجوا من الجامعة يشار لهم بالبنان ، وأصبحوا متميزين في عملهم رغم أن البعض منهم في دراسته الجامعية وأنا واحد منهم لم يكن معه نهاية الأسبوع أجرة الحافلة ، فيقوم بدفعها في الأسبوع الذي يليه ، هذا هو حالنا يا شباب ، لا أخجل من سرد تلك الحياة التي عشناها ، عندما أكون في إحدى الجلسات مع أصحابي كانوا ينبهونني لعدم الحديث أمام والديهم عن مصروفي الأسبوعي عندما كنت طالبا جامعيا ، وكان السبب أن والديهم إذا علموا بمصروفي سوف يتاخذونني قدوة لأبنائهم ، في حين أن طلابا آخرين يتجاوز مصروفهم ( ٢٥) دينارا في ذلك الوقت بالتحديد ، بينما كاتب هذا المقال كان مصروفه( ٥ ) دنانير شاملة لأجرة الحافلة ذهابا وإيابا من السكن إلى الجامعة وبالعكس، وهذا مما يثير الغرابة والدهشة عند الجيل الحالي الذي يتعدى مصروفه في الأسبوع في هذا الوقت (١٠٠) دينار ، ناهيك عن الملابس والخلويات وقل ما شئت من المظاهر ما أنزل الله بها من سلطان .



تعليقات القراء

لا يوجد تعليقات


أكتب تعليقا

تنويه :
تتم مراجعة كافة التعليقات ،وتنشر في حال الموافقة عليها فقط.
ويحتفظ موقع وكالة جراسا الاخبارية بحق حذف أي تعليق في أي وقت ،ولأي سبب كان،ولن ينشر أي تعليق يتضمن اساءة أوخروجا عن الموضوع المطروح ،او ان يتضمن اسماء اية شخصيات او يتناول اثارة للنعرات الطائفية والمذهبية او العنصرية آملين التقيد بمستوى راقي بالتعليقات حيث انها تعبر عن مدى تقدم وثقافة زوار موقع وكالة جراسا الاخبارية علما ان التعليقات تعبر عن أصحابها فقط ولا تعبر عن رأي الموقع والقائمين عليه.

- يمكنك تسجيل اسمك المستعار الخاص بك لإستخدامه في تعليقاتك داخل الموقع
الاسم :
البريد الالكتروني :
اظهار البريد الالكتروني
التعليق :
رمز التحقق : تحديث الرمز
أكتب الرمز :

إقرأ أيضاً

رياضة وشباب

محليات