ما يطلبه الجمهور


بدأتُ الكتابة قبل عشر سنوات من الآن، ونشرتُ مقالاتٍ في العديد من الصحف الأردنية والقطرية والعربية، وعملتُ على تأليف عدة كتب، وكنتُ أتسأل دوماً عن سبب ضعف التفاعل والإقبال من قِبل المتابعين للصحف التي أنشرُ بها، أو عبر وسائل التواصل الاجتماعيّ، عندها بدأتُ بمتابعة التعليقاتِ والمتابعاتِ لمقالاتِ كُتّابٍ كبار، لهم قامة أدبية رفيعة، وسمعة طيبة.

لمْ يختلف الامر كثيراً عندهم، هنالك ضعف عام في المتابعة للمقالات والكتابات المختلفة، ووجدتُ أنه من المفيد أن أبحث عن الأسباب.

وجدتُ الإجابة في كلام وجهه أفلاطون الى جورجياس يقول فيه: "في جدالٍ حول الغذاء أمام جمهور من الأطفال؛ فإنَّ الحلوانيّ كفيلٌ بأن يهزم الطبيب، وفي جدالٍ أمام جمهور من الكِبار؛ فإن سياسياً تسلّح بالقدرة الخطابية وحِيَل الإقناع كفيلٌ بأن يهزم أيَّ مهندس أو عسكريّ، حتى لو كان موضوع الجدال هو من تخصص هذين الأخيرين، وليكن تشييد الحصون أو الثغور".

وختم أفلاطون كلامه بجملة وجدتُها حكمة تنطبق تماماً على ما نعيشه اليوم فقال: "إنَّ دغدغة عواطف الجمهور ورغباته لأشدُّ إقناعاً من أي إحتكام إلى العقل".

هنالك فرق كبير بين ما يحتاجه الناس؛ وما يريدونه، فهم بلا شك يحتاجون إلى العلوم التي تبسّط لهم حياتهم، وإلى المعارف التي تمكنهم من أداء واجباتهم، وإلى المهارات التي يتواصلون بها مع مَنْ حولهم. وكل هذا يحتاج إلى جهد كبير، ومغالبة للنفس، تماماً كالدواء مر الطعم.

ولكنهم بدل ذلك يريدون المتعة واللعب واللهو، يحتاجون إلى مقاطع فيديو كوميدية، ومقالات فكاهية قصيرة، وفضائح للفنانين والمشاهير والمسؤولين، وبالتالي يبحثون عن ذلك كله.

والآن؛ إليك هذه الوصفة السحرية: إذا أردت أن تجد المتابعة الحثيثة لما تقوم به؛ عليك أن تحرص على القيام بما يطلبه الجمهور، لا داعي لأن تشغل نفسك بأمور كبيرة، أو أن تقرأ كتاباً لعدة أيام وتضع مُلخّصه على طبق من ذهب للجمهور في عدة كلمات، ولا أن تذهب لأقاصي الأرض لكي تخرج ببرنامج علمي رهيب، ولا أن تغوص في أعماق السياسة لكي تشرح للجمهور حقائق القرارات السياسية وبواطنها، من مكانك؛ مقطعٌ كوميديٌ تافه، سيجوبُ أرجاء العالم، وستحصد ملايين المشاهدات والمتابعات خلال ساعات بسيطة.

إنَّ الصعود السريع للمدونين "البلوجرز" والمشاهير على شبكات التواصل أصبح واضحاً للجميع، أنت تحتاج إلى الجرأة مع بعض قلة الأدب، والانسلاخ عن الدين والعادات والتقاليد، ولبعض عمليات التجميل أحياناً، وتخرج إلى الجمهور بمواضيع تافهة، وستصبح نجماً في فترة قصيرة جداً.

بإمكانك أيضاً أن تطلب الشهرة من خلال طرح المواضيع الساخنة، والنقاط الجدلية، التي قد تكون موضع نقاش حاد عند البعض، وعندها ستتصدر "الترند" خلال فترة وجيزة.

المشكلة أننا جميعاً نعرف جيداً أن هؤلاء "البلوجرز" يتم صناعتهم، وكل واحد منهم له هدف محدد، ووظيفته بأن يصل الى الجماهير الى مستوى معين من الدونية والإنحطاط، وبعدها يتم حرقه، وتحضير آخر مكانه ليكمل مسيرته.

شخصياً أدرك الوصفة المطلوبة للشهرة تماماً، ولكنني عندما بدأتُ الكتابة قبل عقد من الزمن؛ تعهدتُ أمام نفسي بميثاق شرف، أن أكتب لما فيه خير الأمة فقط، أن أسعى الى نشر الثقافة والأدب، وأن أساهم في توعية الأجيال، وأن أترك كل كتاباتي أرثاً أسأل الله أجره يوم القيامة، ولستُ أبتغي من وراء ذلك الشهرة أبداً.



تعليقات القراء

لا يوجد تعليقات


أكتب تعليقا

تنويه :
تتم مراجعة كافة التعليقات ،وتنشر في حال الموافقة عليها فقط.
ويحتفظ موقع وكالة جراسا الاخبارية بحق حذف أي تعليق في أي وقت ،ولأي سبب كان،ولن ينشر أي تعليق يتضمن اساءة أوخروجا عن الموضوع المطروح ،او ان يتضمن اسماء اية شخصيات او يتناول اثارة للنعرات الطائفية والمذهبية او العنصرية آملين التقيد بمستوى راقي بالتعليقات حيث انها تعبر عن مدى تقدم وثقافة زوار موقع وكالة جراسا الاخبارية علما ان التعليقات تعبر عن أصحابها فقط ولا تعبر عن رأي الموقع والقائمين عليه.

- يمكنك تسجيل اسمك المستعار الخاص بك لإستخدامه في تعليقاتك داخل الموقع
الاسم :
البريد الالكتروني :
اظهار البريد الالكتروني
التعليق :
رمز التحقق : تحديث الرمز
أكتب الرمز :

إقرأ أيضاً

رياضة وشباب

محليات