العيد في الغربة



العيدُ يومٌ من أيام الله في الأرض، دعوةٌ للبهجةِ والسرور، ونبذٌ للخصوماتِ والشجاراتِ، تصفيةٌ للقلوبِ من الأحقادِ، وتعميقٌ لأواصرِ المحبة بين الناس؛ خصوصاً الأرحامْ.

العيدُ في الوطن يبدأ بصلاة العيد، ثم تأدية الشعائر في الأضحية، ويبدأ بعدها تزاورُ الأرحامِ، مشوارٌ طويلٌ من الصِلة قد يستمرُ من الصباحِ الباكرِ ولا ينتهي مع مغيبِ شمس اليوم الأول من العيد، وفي اليوم الثاني قد تستمر الكرّة.

تتذوقُ في جميع المنازل التي تزوروها إبداعات الأهل والأرحام والأصدقاء، فواحدةٌ منهنَّ قد أعدت "قراص العيد"، وأخرى قد أمضتْ يوم وقفة عرفة في تزيين كعك العيد، وثالثة أعدتْ من الحلويات ما تستلذه النفس، وترتاح له العين.

العيدُ في الغربةِ مختلفْ؛ قبل أن يبدأ العيد بعِدة أيامٍ تُعدُّ ثوب العيد بتكاسلٍ، الشغفُ ليوم العيد ميتْ، لا يدفعك إليه إلا إحياءً للسنن النبوية بارتداء ثوب العيد الجديد.

تذهبُ الى صلاةِ العيدِ وحيداً، تشتاق إلى أن تجهر بتكبيرات العيد بين أهلك وعزوتك، أن ترى والدك، إخوتك، ابنك إلى جانبك في الطريق الى المسجد، وعندما تصل وتنتظم في الصف؛ تنظر عن يمينك وشمالك فلا تتعرف إلى أحد، تستمعُ إلى خطبة العيد بذهنٍ شاردٍ، كإنسانٍ إستفاق من غيبوبةٍ طويلة، تنتظر أن يُنهي الإمام خطبته لتنطوي على نفسك، وتُلملم الجراح التي ينكأها العيدُ عن غير قصد.

وأنت خارجٌ من المسجدِ تشتاقُ إلى أن تعرف أحداً، تشتاقُ إلى من يبارك لك العيد، إلى أبٍ يأخذك في حضنه، أو أمٍ تطبع قبلةَ العيد على رأسها، أو ولدٍ يتلقّفُ يدك ليقبلها ويضعها على رأسه، تشتاقُ إلى إخوان وأقارب وجيران وأصدقاء تلاقيهم باب المسجد، وتتبادل التحايا والأحضان والقُبل إلى أن يتورّم خداك.

تذهبُ إلى المنزل خالي الوفاض، تماماً كالعائد بخفيّ حُنين، تخلعُ ثوب العيد وأنت تتحسرُ على الجهد المبذول في إعداده، تهوي على أقرب مقعدٍ، تفكرُ في أيّ نشاط مختلف يمكن أن تقوم فيه يوم العيد.

العيدُ في الغربة محصور ٌبشاشة لا يتعدى قُطرُها عدة إنشات، تنظر إلى هاتفك كل بضعةِ دقائق، لعلّ أحدهم تذكّرك بتهنئةٍ، أو لعلّ أحدهم قد بعث لك برسالةٍ، تحسبُ ضجيج الشارع رنةً لهاتفك؛ فتُسارع إلى النظر فيه، تُغيّر من مكانك لتتأكد من الشبكة، ولكن الهاتف يرزح تحت أعباء غيبوبةٍ طويلةٍ.

تملُ الإنتظار، تُقلّبُ محطات التلفاز لعلك تجدُ قناةً تبثُّ مسرحية "العيال كبرت" وتجدها لحسن حظك، ولكنها تفشلُ في أن ترسم البسمة على شفاهك أيضاً.

تعودُ الى فراشك وأنت منكسر البال، متكدّر المزاج، تتقلب فيه لعل النوم يجد إليك سبيلاً، تُحس ببلل على الوسادة، لتدرك أن الدموع تنهمر من عينيك، والحزن يعتصر قلبك حتى إنه ليكاد ينفجر من شدة الأسى، ثم تدخل إلى النوم، معلناً بذلك نهاية مراسم العيد.

يقولُ الكاتبُ الإماراتيّ ياسر حارب في كتاب "العبيد الجدد: "الغربةُ ليستْ مفارقة الأوطان، ولكنها مفارقةُ من تحبْ، والوطنُ الحقيقيُّ هو الذي نجِدُ فيه قلباً نأوي إليه كل مساء".



تعليقات القراء

لا يوجد تعليقات


أكتب تعليقا

تنويه :
تتم مراجعة كافة التعليقات ،وتنشر في حال الموافقة عليها فقط.
ويحتفظ موقع وكالة جراسا الاخبارية بحق حذف أي تعليق في أي وقت ،ولأي سبب كان،ولن ينشر أي تعليق يتضمن اساءة أوخروجا عن الموضوع المطروح ،او ان يتضمن اسماء اية شخصيات او يتناول اثارة للنعرات الطائفية والمذهبية او العنصرية آملين التقيد بمستوى راقي بالتعليقات حيث انها تعبر عن مدى تقدم وثقافة زوار موقع وكالة جراسا الاخبارية علما ان التعليقات تعبر عن أصحابها فقط ولا تعبر عن رأي الموقع والقائمين عليه.

- يمكنك تسجيل اسمك المستعار الخاص بك لإستخدامه في تعليقاتك داخل الموقع
الاسم :
البريد الالكتروني :
اظهار البريد الالكتروني
التعليق :
رمز التحقق : تحديث الرمز
أكتب الرمز :

إقرأ أيضاً

رياضة وشباب

محليات