العالم يوشك على الانتحار


جراسا -

كشفت الحرب في أوكرانيا عن هشاشة حالة الأمان في عالم بات قادراً على الانتحار، بل يقترب منه. الحرب وقود السياسة، بيئة لتدوير الزوايا والمنافع والأوجاع بين المتصارعين. يدور صراع جيوبولتيكي بين روسيا وأميركا يصعب تخيل نهايته إلا بتدمير أو هزيمة أحد الطرفين، صراع بين اليابسة والبحر، أميركا ودول أوروبية تحتل البحر، تحوز مزاياه بحيوية لوجستية، بينما روسيا أسيرة اليابسة تريد الانعتاق من ديكتاتورية الجغرافيا بالوصول إلى المياه الدافئة؛ إنه صراع الأمبراطوريات على "أوراسيا" قلب العالم!

الخاصرة اللينة
جوهر الأمر أن السيطرة على منطقة أوراسيا بين الأقطاب الرئيسة في عالم اليوم، روسيا والولايات المتحدة ودول أوروبية ثم الصين، تتيح للفائز مكاسب سياسية واستراتيجية واقتصادية هائلة. لذا نجد الطرف الأوروبي مستعداً للتضحية بعلاقته مع موسكو، لبلوغ مقاصده الأوراسية بالتعاون مع واشنطن؛ بتشكيل كتلة "أطلسية" تحاصر روسيا وتلجم قدراتها؛ عبر تمدد حلف "الناتو" إلى أوكرانيا وإغلاق البحر الأسود بوجه روسيا ما يعنى نهايتها كدولة عظمى. ولو نجحت تلك "المحاولة الأطلسية" فإنها ستكون تمهيداً نيرانياً، للاستيلاء على مخزن الطاقة القزويني، للحد من قدرات الصين الصاعدة وربما الهند، وتقليل الاعتماد على نفط الشرق الأوسط.

ظلت أوروبا الشرقية خاصرة "أوراسيا اللينة"، تعرضت لعملية إعادة تشكيل في متوالية جيو-استراتيجية حساسة، عبر قرون، وبسقوط جدار برلين ثم انهيار الاتحاد السوفياتي، تفككت جبهة أوروبا الشرقية وتداعى حلف وارسو لمصلحة أوروبا الغربية ولتتوج أميركا نفسها قطباً وحيداً في عالم ما بعد الحرب الباردة. الجغرافيا السياسية علم عن الحدود المتحركة والحية، تنظر إلى الدول باعتبارها أشكالاً للحياة، أقطاب متغيرة بصورة دينامية، والحدود أشبه بمعطف من بشرة الجلد، جلد الدولة، بحسب وصف المفكر الروسي ألكسندر دوغين، في كتابه "الجغرافيا السياسية لما بعد الحداثة - عصر الإمبراطوريات الجديدة". تفسر كتابات دوغين السلوك الروسي في الأزمة الأوكرانية، يرى، في كتابه "الجيوبوليتيكا"، أن أوكرانيا تمثل النقطة الأضعف والأخطر في الحزام الروسي الغربي. فصل أوكرانيا على المستوى الجيوبوليتيكي، بمثابة إعلان حرب على روسيا. وهذا ما تصنعه والقوى البحرية الأطلسية؛ لذلك يطالب دوغين صانع القرار الروسي برد قوي على ما سماه "ضربة استراتيجية" موجهة لروسيا.

الثغرة القاتلة
هكذا ينظر الفكر الاستراتيجي الروسي إلى الحرب الأوكرانية بوصفها مسألة حياة أو موت. تقدم أوكرانيا كدولة إلى روسيا مساحة واسعة من المناورة على الجغرافيا في وقت الحرب. هشاشة الحدود الروسية الغربية مع أوروبا، تؤكد هذا المعطى. هذه الحدود الثغرة الأخطر أو القاتلة للأمن القومي الروسي. يمتد السهل الأوروبي الشمالي من دول البلطيق شمالاً إلى جبال الكاربات في رومانيا جنوباً، وهو الجزء الأهم من السهل الأوروبي، الممتد من جبال الأورال حتى فرنسا وجبال البيرينيه؛ فلا حواجز طبيعية قادرة على صد الغزوات. هذه المنطقة كانت تاريخياً الممر للغزوات الأوروبية، ومنها غزو نابليون وهتلر أراضي روسيا. من هنا، تعتبر أوكرانيا حائط صد للغزاة، تصنع مسافة فاصلة عن حدودها. التهديد الأشد لموسكو هذه المرة يأتي من وراء الأطلسي، تدرك الولايات المتحدة أهمية السيطرة على "أوراسيا"، وحصار روسيا داخل حدودها، تراهن على الذراع العسكرية "الناتو" لاستتباع أوروبا، وتعمل واشنطن في مسارين لتحديد الخطوط العامة للجغرافيا السياسية في القرن الحادي والعشرين: تفكيك أي تكتل مناوئ لسياستها في "أوراسيا"، وإغراء دول آسيا الوسطى اقتصادياً لإبعادها عن روسيا والصين.

أوضح زبيغنيو بريجنسكي مستشار الأمن القومي الأميركي الأسبق خريطة الصراع العالمي، في كتابه الذائع "رقعة الشطرنج الكبرى"؛ شدد على ضرورة أن تحرم الولايات المتحدة روسيا من ثلاث دول، تعد ركائز جيوسياسية بحكم موقعها الجغرافي ومواردها الطبيعية: أوكرانيا وأوزبكستان وأذربيجان. تطل أوكرانيا على البحر الأسود المؤدي إلى المضائق التركية منبهاً إلى أن الوجود الأميركي في أوكرانيا يمنع روسيا من نشر أساطيلها حول أوروبا وآسيا أو الوصول إلى البحر المتوسط والشرق الأوسط، وتشكل أوزبكستان مركز الدائرة بآسيا الوسطى، دولة غنية بإمكاناتها النفطية والزراعية، فيما تطل أذربيجان على بحر قزوين مستودع البترول في المنطقة، وهي مجاورة لروسيا، وتتيح لأميركا التواجد في العمق البري لآسيا الوسطى. وينبه بريجنسكي إلى أهمية توطيد العلاقات الأميركية - الألمانية - الفرنسية، من أجل بناء أوروبي متماسك مرتبط بأميركا؛ من دونه لا يمكن بناء منظومة تعاون أوراسي - أطلسي؛ لمواجهة الطموح الجيوسياسي الروسي تجاه أوروبا ومنع قيام كيانات معادية لواشنطن.

تعكس رؤية زبيغنيو بريجنسكي محورية الصراع على أوراسيا؛ إذ يربط مصير السيطرة الأميركية بمنع أي قوة أخرى - أي روسيا - من التمدد في المنطقة. يقول بريجنسكي إنه في حال "تمدد أي قوة في أوراسيا فإن واشنطن تخسر هيمنتها، وهو ما يجب الحيلولة دون حدوثه، لمنع أي قوة منافسة من السيطرة على المنطقة، ومنافسة أميركا. إن أوكرانيا "مساحة مهمة من رقعة الشطرنج الأوراسية"، و"مفتاح الاتجاهات الجيوبوليتيكية فيها"؛ وبالتالي هي ذات وظيفة جيو-استراتيجية أساسية لمنع روسيا من التمدد كقوة برية نحو البحر الأسود، وسلوك مسارها الجيوبوليتيكي – التاريخي نحو المياه الدافئة. من دون أوكرانيا "لا تكون روسيا إمبراطورية"؛ لذلك نحن أمام "مبارزة كونية" بين القوى الأطلسية (أميركا وأوروبا الغربية) وروسيا، في شكل هجوم جيوسياسي تشنّه حضارة البحر "الأطلسية" على حضارة اليابسة "الأوراسية"، لتطويق روسيا.

حرفياً، تنفذ واشنطن الآن "رؤية بريجنسكي" الذي دعا في كتابه "رؤية استراتيجية" إلى "تحرير أوكرانيا" من النفوذ الروسي، بمقولات "الديموقراطية" و"الإصلاح" و"التنمية" و"الاقتصاد الحديث"؛ لتصبح بصورة ما "نقيضاً" لروسيا، وصولاً إلى الصراع المسلح، وتشارك أميركا وأوروبا في الحرب ضد روسيا، بالخطط والمعلومات والعتاد، لدرجة أن مفكرين أميركيين، مثل جون مارشيمر حملوا مسؤولية الصراع على أوكرانيا للقوى الغربية، بخاصة الولايات المتحدة؛ لإصرارها على توسيع حلف "الناتو"؛ ليصبح في قلب أوراسيا على مقربة من موسكو نفسها.

الاحتواء المزدوج
في الوقت نفسه، تسلط الحرب في أوكرانيا الضوء على هشاشة الأمن الأوروبي، وبينما ترسل أميركا قوات وأسلحة ومساعدات إلى المسرح الأوروبي وأوكرانيا، تتوافق رؤى روسيا والصين، على معارضة توسع "الناتو"، أو عودة الحرب الباردة، كما تعاطف الصينيون مع المقترح الروسي بإنشاء ضمانات أمنية طويلة الأجل فى أوروبا.

التوافق "النسبي" الروسي - الصيني أغضب واشنطن التي تبنت سياسة الاحتواء المزدوج تجاه موسكو وبكين، تمد ذراعاً في أوروبا وأخرى في آسيا والمحيط الهادئ.

يرجح ألكسندر دوغين، في "الجغرافيا السياسية لما بعد الحداثة" تصاعد المواجهة بين الإمبراطوريات، بين "المشروع الأطلسي" و"المشروع الأوراسي"، مستشهداً بعبارة للمفكر الأميركي صموئيل هنتغتون، تلخص ميزان القوى في السياسة الدولية: "الغرب ضد البقية"، مقولة تعطي انطباعاً في أنّ الغرب يعمل على إرساء نظام كوني على مقاسه، في حين تقف البقية الباقية حجر عثرة في طريقه. هذا معناه أن الحرب بين الإمبراطورية الكونية (المشروع الأطلسي)، وكوكبة الإمبراطوريات المتعددة (المشروع الأوراسي) ستستمر طويلاً، السلام بعيد، والشعوب المرهقة قد تتقبل أسوأ الخيارات، تتواصل الحرب في أوطانهم وعلى عتبات بيوتهم تقرر مخرجات الحرب أوزان اللاعبين في الساحة الدولية؛ فالأزمة الأوكرانية هي الجزء الطافي من جبل الجليد؛ تتحكم مسارات السياسة في فضاءات الجغرافيا، دول كثيرة متصدعة وتحتاج لإعادة تنظيم، ثمة عطش للحقوق والعدالة يطارده عطش آخر أكبر للطاقة والهيمنة بين الإمبراطوريات.



تعليقات القراء

لا يوجد تعليقات


أكتب تعليقا

تنويه :
تتم مراجعة كافة التعليقات ،وتنشر في حال الموافقة عليها فقط.
ويحتفظ موقع وكالة جراسا الاخبارية بحق حذف أي تعليق في أي وقت ،ولأي سبب كان،ولن ينشر أي تعليق يتضمن اساءة أوخروجا عن الموضوع المطروح ،او ان يتضمن اسماء اية شخصيات او يتناول اثارة للنعرات الطائفية والمذهبية او العنصرية آملين التقيد بمستوى راقي بالتعليقات حيث انها تعبر عن مدى تقدم وثقافة زوار موقع وكالة جراسا الاخبارية علما ان التعليقات تعبر عن أصحابها فقط ولا تعبر عن رأي الموقع والقائمين عليه.

- يمكنك تسجيل اسمك المستعار الخاص بك لإستخدامه في تعليقاتك داخل الموقع
الاسم :
البريد الالكتروني :
اظهار البريد الالكتروني
التعليق :
رمز التحقق : تحديث الرمز
أكتب الرمز :

إقرأ أيضاً

رياضة وشباب

محليات