طوائف اليوم وأندلس أخرى!


جراسا -

على أسوار قصر الحمراء ومدينة غرناطة، لم أجد غادة اندلسية تنتظرني كما وجد نزار قباني في قصيدته الشهيرة اليي قال فيها:
في مدخل الحمراء كان لقاؤنا
ما أطـيب اللقـيا بلا ميعاد

بل وجدتُ مثل كل مرة أزور فيها الأندلس وأنا أحبها حتماً، وجدتُ ذاك الثقل الوجداني لتاريخ أيام العرب الأخيرة فيها، وكيف ياالله يشبه حاضرنا العربي اليوم، ما يجعلها لحظات مثقلة بالوجد والحزن معاً.

وبطبيعة الحال لم أجد في الطائرة غادة أخرى كما وجدها الشاعر عمر أبو ريشة في قصيدته الأسبق أيضا عن الأندلس، وهو يقول للجميلة بجانبه في مقعد الطائرة برحلة له :

(قلت يا حسناء مَن أنت? ومن
أي دوح أفرع الغصن وطالا

فرنت شامخة أحسبها
فوق أنساب البرايا تتعالى

وأجابت أنا من أندلس
جنة الدنيا سهولا وجبالا

لم أجد ذلك، فأنا دخلت الأندلس على متن سفينة أولا في البحر لا طائرة، ومشيت في سهولها بسيارتي ثانية، اتفقد قصة أخرى لا تزال تسكن خاطري مع كل إطلالة اقوم بها لهذه الأرض الجميلة.

اعني بذلك قصة ملوك الطوائف العربية في آخر أيامهم، (وما اشبه الليلة بالبارحة) مع تغير الأرض حيث غدا الوطن العربي كله اندلس أخرى في آخر أيامها، تتنازعه سيوف الطوائف!.

لا أحتاج إلى حديث مطول عن المشترك الثقافي، وعلاقتنا بتاريخ هذه الأرض، من نغمة أغاني الأندلس الحزينة التي قُدّت من مواويل جبال قريتنا، وكأني أسمع رجع صدى للحن يماني إلى كل أثر وخط تراه هناك.

ومن يعود إلى تاريخ المعافر في تعز قلب اليمن، سيجد امتداد بريقه على هذه الجبال، وكنت قد سعدت بالمشاركة في الإشراف على اصدار سلسلة كتب عن تعز عاصمة الثقافة اليمنية، منذ قُرابة عشر سنوات، وبدأناها بكتاب هام عن المعافرين في الأندلس، أما صدمة البصر في كل زيارة أقوم بها للاندلس فهي تزيد الأمر شجنا أكثر، ولا يرتد خَاسِئًا وَهُوَ حَسِيرٌ).

وفي مدينة مالقه التي تتباهى بأنها مسقط رأس بيكاسو، تضج من حولك موسيقى الفرح وتجد خلف كل حجر ونغم قصة جرح لا يندمل، حيث كانت مجازر الاستيلاء على المدينة أكثر قصص التاريخ وحشية، فقد دافع السكان عن مدينتهم حتى صارت الجثث تغطي شوارعها، ولم يدخل غزو الشمال لها بعد تدميرها لأيام بسبب صعوبة تقبل رائحة الجثث التي تعفنت.

وبعد قرون صارت القوى السياسية تخجل من إحياء تلك المجازر واعتبارها انتصارات.
يعتبر سقوط مالقة أحد أكثر الأحداث قسوة في تاريخ سقوط الأندلس، ولم يكن هذا الوصف من قبل أحد المؤرخين المسلمين أو المهتمين بالشأن الموريسكي فقط، بل كان هذا التوصيف هو توصيف أحد أكبر الأحزاب السياسية الإسبانية هو "حزب الشعب" كما قرأت، والذي أظهر رفضه الشديد لإحياء ذكرى هذه الأحداث الوحشية، كما وصفها بيان الحزب.

وإذا كانت الأندلس تتجاوز أزمة التأريخ، وهي تحيي آثار الأمس، من أجل المستقبل الذي يتجاوز جروحاً غائرة، ستبقى ماثلة في رقصة الفلاح المنكوب التي صارت اسمها "فلامنكو" .

وكما قال المفكر الألماني والتر بنيامين وهو يتحدث عن تمثال في برلين وهو عبارة عن ملاك ينظر إلى الخلف ،"ان النظر إلى الخلف أمر جوهري من أجل المستقبل، ومن أجل الحياة ومن أجل الذاكرة".

لكن بالنسبة الي الأمر يختلف، أسير في جبال نسخت من ملامح أجدادنا (اليمانيون) الذين تاهوا عشقا ذات يوم في هذه الأرض، وأنا مشدود لواقع عربي معاش مؤلم، لم يستنسخ من ذاك التاريخ العريق والأرض المشرقة، إلا شتات طوائفه واحتراب قادته، وأغاني الشجن، اذ تركنا كل ماله علاقة بالحضارة والإنجاز، وابقينا على وصمة صراع ملوك الطوائف العربية في آخر أيامهم في الأندلس تجتاحنا اليوم .
ولا أدري إذا كان ما يجري لنا الآن عربيا من إحتراب هو آخر أيامنا، أم يمهد القدر ليقظة أخرى ستأتي بأندلس جديدة. ؟!

اسأل وفي خاطري قصيدة احمد عبدالمعطي حجازي إلى جاك بيرك:

(فلنقلْ، نحن هنا أندلسيّونَ!
فلا نطلب في الأرض سوى ما يطلب الحُجَّاجُ،
أبناءُ السبيلْ



تعليقات القراء

لا يوجد تعليقات


أكتب تعليقا

تنويه :
تتم مراجعة كافة التعليقات ،وتنشر في حال الموافقة عليها فقط.
ويحتفظ موقع وكالة جراسا الاخبارية بحق حذف أي تعليق في أي وقت ،ولأي سبب كان،ولن ينشر أي تعليق يتضمن اساءة أوخروجا عن الموضوع المطروح ،او ان يتضمن اسماء اية شخصيات او يتناول اثارة للنعرات الطائفية والمذهبية او العنصرية آملين التقيد بمستوى راقي بالتعليقات حيث انها تعبر عن مدى تقدم وثقافة زوار موقع وكالة جراسا الاخبارية علما ان التعليقات تعبر عن أصحابها فقط ولا تعبر عن رأي الموقع والقائمين عليه.

- يمكنك تسجيل اسمك المستعار الخاص بك لإستخدامه في تعليقاتك داخل الموقع
الاسم :
البريد الالكتروني :
اظهار البريد الالكتروني
التعليق :
رمز التحقق : تحديث الرمز
أكتب الرمز :

إقرأ أيضاً

رياضة وشباب

محليات