الفيصل بين الموت والحياة


في عام 1347 للميلاد، دب الطاعون في مدينة كافا التي تقع على سواحل جزيرة القُرم، ومنها إنتقل الى صقلية وإيطاليا، وبعدها تفشى في أنحاء أوروبا المختلفة، ولم ينقضِ وقت طويل حتى وصل المرض الى جميع أنحاء العالم.

خلال الموجة الأولى من المرض التي أصابت أوروبا؛ تمكن المرض من حصد ثلث السكان هناك، وقضى بين 50 الى 60 مليون إنسان نتيجة لإصابتهم بالمرض في القرن الرابع عشر للميلاد.

سعى الأطباء لإيجاد الأدوية اللازمة لمكافحة المرض، ولكنهم فشلوا في تحديد سببه، وغلبتْ شكوكهم على أنه ينتقل بسبب سوء جودة الهواء، أو الاقتراب من المريض ومشاركته المكان ذاته، وخير ما توصوا اليه هو قناع الطاعون الأسود المعروف بمنقاره الطويل، حيث يضع الأطباء الأعشاب العطرية لتنقية الهواء قبل دخوله الى الأنف والفم.

تخيل أن الأطباء احتاجوا الى 600 عام لتحديد سبب المرض الذي هو عبارة عن بكتيريا وتحديداً عام 1898، تم ذلك بعد أن اجتاحت أمواج المرض المتلاحقة العالم أجمع، وتسبّبت في إبادة شعوب وقبائل عن بكرة أبيها. وبعدها تمكّن الأطباء من تصنيع المضادات الحيوية اللازمة للقضاء على المرض وتوقف إنتشاره.

قبل ثلاثة أعوام؛ إنتشر فيروس كوفيد 19 في العالم منطلقاً من مدينة ووهان الصينية، واحتاج العلماء الى شهر واحد فقط لعزل الفيروس المسبِب للمرض وتحديد نوعه وتطوره الجيني، وبعدها بعام واحد فقط تم الإعلان عن تطوير لقاح قادر على إنهاء المرض الذي أصاب العالم بالشلل، وغيّر شكل النشاطات البشرية وثقافتها وطريقة تفكيرها الى الأبد.

ربما نسخر اليوم من الطقوس الغريبة الى اتبعها الأطباء في القرن الرابع عشر، وربما نضع قناع الطاعون الأسود اليوم في المتاحف للسخرية والتندر عليه، ونصف ما قمنا به في القرن الواحد والعشرين بأنه قمة الحضارة والتقدم في مواجهة الأمراض.

ولكن الحقيقة مغايرة لذلك تماماً؛ فربما ما قمنا به من حظر التجوال وتوقف الأعمال ورحلات الطيران، وشلل الاقتصاد سيكون محل تندُّر الأجيال القادمة علينا، وربما يصبح العلم قادراً على تحديد الفيروس المُسبِب للمرض في عدة ساعات، وقادر على تطوير اللقاح المناسب في عدة أيام فقط.

اليوم حين أنظر الى الصور التي توثق فترة كوفيد 19 أستغرب كثيراً، كيف وافق الناس على الجلوس في المنازل لعدة أشهر؟ وكيف تم إقناع الطلاب بعدم الذهب الى لمدارس والجامعات؟ وكيف توقفت عجلة الحياة في قطاعات كبيرة أدت الى موتها؛ بينما إنتعشت قطاعات جديدة؟

يقولون بأن التاريخ يعيد نفسه من وقت لآخر، ربما كان هذا صحيحاً، فلقد فصل بين الوباءين ستة قرون فقط، ولكن إستجابة الإنسان للوباء الثاني إختلفت كثيراً عن إستجابته في الوباء الأول، وبدل أن تنتشر الإشاعات والخرافات حول الطاعون في الأول؛ نشر الأطباء ومنظمات الصحة الحقائق المزودة بالأرقام والإحصائيات حول سرعة إنتشار المرض ووفياته.

الإستثمار في الطب هو إستثمار في الحياة، فالدولة القوية هي التي تملك الخبرات الطبية القادرة على تشخيص الأمراض وتحليل أسبابها وصناعة الأدوية المناسبة لها.

لقد كان كوفيد 19 درساً قاسياً للجميع، فبينما حصل سكان الدول المتقدمة على الجرعة الثانية من اللقاح؛ كان هنالك شعوب كثيرة تدفن موتاها بعد أن تأخرت اللقاحات عليهم، لا لشيء إلا لأنهم من دول العالم الثالث، العالم الذي لا يملك العلم والطب، وبالتالي لا يحتاج الى الحياة.



تعليقات القراء

لا يوجد تعليقات


أكتب تعليقا

تنويه :
تتم مراجعة كافة التعليقات ،وتنشر في حال الموافقة عليها فقط.
ويحتفظ موقع وكالة جراسا الاخبارية بحق حذف أي تعليق في أي وقت ،ولأي سبب كان،ولن ينشر أي تعليق يتضمن اساءة أوخروجا عن الموضوع المطروح ،او ان يتضمن اسماء اية شخصيات او يتناول اثارة للنعرات الطائفية والمذهبية او العنصرية آملين التقيد بمستوى راقي بالتعليقات حيث انها تعبر عن مدى تقدم وثقافة زوار موقع وكالة جراسا الاخبارية علما ان التعليقات تعبر عن أصحابها فقط ولا تعبر عن رأي الموقع والقائمين عليه.

- يمكنك تسجيل اسمك المستعار الخاص بك لإستخدامه في تعليقاتك داخل الموقع
الاسم :
البريد الالكتروني :
اظهار البريد الالكتروني
التعليق :
رمز التحقق : تحديث الرمز
أكتب الرمز :

إقرأ أيضاً

رياضة وشباب

محليات