بيت البيدر المسكون .. الجزء الأول


(هذه الرواية بكافة شخصياتها و بكافة احداثها و اجزائها من نسيج خيال الكاتب، فأي تشابه بينها و بين شخصيات و احداث واقعية هو غير قصود و من نتاج الصدفة، لذا اقتضى التنويه،)

المادة 18+
نظر طوني الى اصدقائه بإستياء كبير و هم يقومون بشتمه على جُبْنِهِ بأبشع الألفاظ على الإطلاق، فكلما غادر بيته للعب معهم تكون الإمور على ما يرام الى حين، فيلعبون الكرة لبعض الوقت ثم يبدأون بالتنمر عليه، كانت نفس القصة تتكرر في كل مرة مما كان يشعره بضيق كبير، كان صديقه جابي متكبر للغاية، فكان ابن اثرياء بقرية عين ابل فكان يحضر والده له آخر صيحات الموضة من بيروت و الألعاب حينما كان يذهب الى الى العاصمة لإدارة شركاته، و كان قد احضر له في آخر مرة هاتف ذكي ثمين من نوع سامسونج كهدية له على نجاحه بالإمتحانات في المدرسة، و كان صديقه فؤاد ابن اقطاعي يمتلك مساحات كبيرة من اراضي عين ابل حيث يقوم بزراعتها و بيع محاصيلها الى تجار كبار بالمنطقة، ليكون طوني هو الأقل حظ بينهم، فكانت والدته ربة منزل و كان والده موظف بسيط بالبلديه، حتى جوني الذي كان يقف معهم كان يشاركهم الإستهزاء به في الكثير من الاحيان، فكانوا اهل فؤاد يرسلون لبيته بعض من الفواكه الطازجة و الخضار من باب المساعدة فكانوا من دائرة اقربائهم، فلم يرد ان يغضب منه فؤاد إطلاقا،

التقط جابي كرة القدم و وقف مع اصدقائه في منطقة ظهر البيدر و صرخ بوجه طوني "يا جبان!!! أتخاف ان تدخل بيت البيدر!!!"
اجاب طوني مجادلاً "لست جبان، انا شجاع و اشجع منكم، انا استطيع فعل ما تطلبوه مني،"
ابتدأت الغيوم رويدا رويدا بالتكاثر بالسماء فغاب ما تبقى من نور شمس النهار لتصبح الأجواء معتمة بعض الشيئ، حيث اعلنت دائرة الأرصاد الجوية منذ الأمس عن انقلاب خريفية مفاجئ بالطقس و احتمال تساقط بعض من الأمطار المصحوبة بالبرق و الرعد،
اجاب فؤاد "انت الوحيد الذي لم تدخل بيت البيدر منا، فكلنا قد دخلناه بأمس ليس ببعيد وتعدينا الأرض من حوله و وقفنا امامه لدقيقة كاملة، انت الوحيد الذي رفضت القيام بذلك، يا جبان!!!"
صرخ جوني "هذا الكلام صحيح، اذا اردت الإنضمام رسميا الى مجموعتنا يجب ان تكون رجلا، و يجب ان تسير نحو بيت البيدر و في هذا الليل و يجب عليك ان تقف امامه لدقيقتين كاملتين،"
صرخ الجمع بإتفاق امام طوني مرحبين بالفكرة، قال لهم طوني و هو متردد قليلا "و لكنهم يقولون ان البيت مسكون بالأشباح،"
اجاب فؤاد بإبتسامة مؤكدا "لن تنضم الى مجموعتنا و ستبقى جبان في نظرنا، الرجل لا يخاف شيئ،"
اجاب جابي "نحن بلغنا الرابعة عشر من العمر و لسنا صغار، نحن في الصف التاسع،" اغمض جابي اعينه و ابتدأ بالبكاء و الإستهزاء من طوني "انا اريد امي، انا خائف!!!" ضحك الجميع بعدها ضحكات جعلت طوني يشعر بالقهر،
نظر الى البيت المذكور، كانوا يقفون على طرف شارع عريض بمنطقة كبيرة يطلق عليها ظهر البيدر، و كان حولهم اراضٍ فسيحة و غير آهلة بالسكان او حتى بالأبنية، كان اقرب منزل لهم على مسافة نصف كيلو متر، فكان بيت البيدر مشيد بمنطقة تعرف بزاوية من زوايا عين ابل البعيدة، يتقدم البيت ستة دونومات من الأراضي المهملة و المليئة باشجار عارية الأغصان و الأعشاب الطويلة، فلم يهتم احد بالارض منذ عقود طويلة، لم يُسْكَنْ البيت منذ فترة بعيدة فمنذ ان ماتت ساكنته الوحيدة و فقد سكان المنطقة الرغبة بشرائه او المتاجرة او التصرف به لصالح اي جهة، فماتت وسط شائعات كثيرة تفيد انها قتلت بخلاف نتائج التحقيقات الأمنية، كانت من اهل الضيعة و لكن قاطعها اهلها لكثرة الأنباء السيئة حولها خصوصا بعد وفاة زوجها المثيرة للجدل، فقيل عنها انها ساهمت بوفاته لأنها كانت تطمع بميراث الأرض و المنزل، كثرت الأنباء حولها بعد هذه الحادثة بأنها تمارس السحر و الشعوذة، فبعد ان اضحت ارملة كانت تزورها نساء كثيرات من بنت جبيل لتصنع لهن الأعمال و الأحجبة لتفك الأسحار عنهن و لتمنع ازواجهن من الزواج بأخريات، ذاع صيتها بأنها تسامر الجن و الأرواح فلم يقم احد بزياراتها الا زبائنها من نساء المناطق المحيطة بعين ابل من حين لأخر، فانعزل اهل الضيعة عنها تماما و عاشت لبضعة سنين قبل ان تموت وحيدة بالمنزل، فقال الطب الشرعي حينها انها سقطت من شرفة المنزل و وقعت من الطابق الأول على الأرض، و لكن انطلقت عاصفة من الشائعات بعد هذه الحادثة تفيد ان الجن قد اخذ روحها،

مسح طوني الدمع من عينيها و قال لهم بنبرة متردده "سأدخل حديقة المنزل و ساسير نحو المنزل و سأصوره على هاتف نقالي و سأرسل صورة للمنزل على الواتس اب، لتتأكدوا انني رجل و لست جبان كما تدعون،"
اجاب جابي ابتسامة المنتصر و قال "حينها سأقول عنك انك تستحق الإنضمام الى قائمة اصدقائي، حينها سنودع عالم الصغار،"
فجأة لمعت صاعقة بالسماء التي اضحت ملبدة بالغيوم الداكنة، كانت اعمدة انارة الشارع ما تزال تعمل، كان الظلام الدامس يحيط بالمكان ما عدا ما استطاعت اعمدة الإنارة توضيحه امامهم، نظر طوني الى البوابة العتيقة التي كانت امامه، كانت رغم حجمها الكبير و حالتها المهترءه مقفلة امام المارة، كانت حمراء اللون من كثرة الصدأ عليها، نظر الى هاتفه الخلوي، فكانت طاقة بطاريته جيدة، كان قديما ذو شاشة مكسورة و لكنه كان يفي بالغرض تماما، كانت تشير الساعة عليه الى السابعة مساءا، شمس الخريف كانت خجولة عن سماء عين ابل فاختفت باكرا خلف سماء تلبدة بغيوم ابتدأ غضبها يعصف بالمنطقة، خاف قليلا من الأجواء و لكنه تمالك نفسه اخيرا امام التحديي و ضغط رفاقه، فاتجه صوب بيت البيدر، امسك بوابته و فتحها، لمعت صاعقة آخرى فوق المنطقة و سرعان ما تبعها صوت الرعد الجبار، نظر اليه اصدقائه بترقب الى ما سيفعله، فظنوا انه سيتخاذل قائلين في ما بينهم"اظنه لن يفعلها،" ضحكوا بصوت عالٍ وهم يراقبون خطوات طوني الحذرة،

دخل طوني حديقة المنزل و سار صوب البيت، لم يستطيع رؤيته الا من خلال ضوء الصواعق المتتالية فكان الظلام الدامس يحيط به من كل ناحية، داس التربة تحت قدميه فارتفعت بالأجواء من حين لاخر صوت تكسر اوراق الأشجار اليابسة، اضاءت الصواعق لثوان معدودة الحديقة الموحشة من حوله فنظر الى اغصان الشجر الكبيرة العارية التي فجأة احاطت به من كل ناحية، كانت بلا روح و حياة فبدت له و كأنها اذرعٍ متوحشة على وشك الإمساك به، انتشر صوت الرعد من جديد فكان عاليا جدا هذه المرة فكانت الصواعق قريبة من يبس الأرض، صار اسرع من قبل صوب المنزل و قلبه ينبض بسرعة اكبر، فارتعب من ما كان يحيط به، سمع نباع كلاب بالمدى البعيد فتملكته نوبة رعب شديدة، كان يعلم انه كلما انجز مهمته بسرعة عاد سالما الى اصدقائه، فجأة اغمض عينيه و جرى بسرعة صوب المنزل المهجور، فجأة شعر بشيئ يطير فوق رأسه فصرخ بصوت عالٍ من الخوف، سمع اصدقائه يصرخون اليه من بعيد "جبان!!! لا تصرخ!!!" فجأة اختفت اصواتهم و هو يجري صوب المنزل فعلم انهم اصبحوا على مسافة بعيدة عنه، ارتطم بشجرة وسط ارتباكه فظن ان احدهم يحاول الإمساك به، صرخ و ضرب الشجرة بقوة و لكن ليتألم من صلابة خشبها، نظر اليها لوهلة فشعر ابغصانها تتحرك نحوه، صرخ "يا امي!!!" و اكمل جريه وسط الحقول اليابسة نحو هدفه المنشود، كان يعلم انه اذا فشل بإتمام مهمته سيصبح مسخرة المدرسة بايام قليلة، اقترب منه عويل الكلاب فازداد الرعب في داخله، شعر و كأنها تحيط به من كل ناحية، فجأة شاهده امامه،

كان بيت كبير من طابقين، كان طابقه الأول ذو باب كبير مكسور فلم يكن مغلق تماما امامه، اشتدت الرياح من حوله و تحرك الباب و اصدر اصوات زقزقت عالية من مفاصله المهترئة، كانت نوافذ غرفه مكسورة و جدرانه الخارجية مهترئة و بالية الألوان، كان الحَجَرُ الخارجي متشقق و تتخلله تجويفات كثيرة و كانت الأرض من حوله مليئة بحجارةٍ كانت تتساقط من طابقه الأول، كان الطابق العلوي بنفس الحالة السيئة ما عدا شرفة طويلة كانت تمتد على طول جانب من جوانبه، استطاع رؤية تفاصيل المكان من الصواعق المتتالية فكان الظلام شديد و المكان خالي من اية انارة، شعر طوني بخوف من البيت فلم يكن ذو اطلالة تشجع الإقتراب منه اطلاقا، ارتفع نباح الكلاب اكثر فتيقن انها اقتربت منه كثيرا، شعر بأنها مجموعة كبيرة من اصواتها و شراسة صرخاتها، اخرج هاتفه و ابتعد قليلا ليصور المكان بالكاميرا، اشعل الفلاش بالكاميرا و نظر من شاشة الهاتف جيدا، تريث ريثما بلغ العِيَار الأوتوماتيكي للكاميرا الوضوح المطلوب و اخذ الصورة، ارتاح قليلا لإنجازه، نظر الى الصورة على الهاتف، قال في ذاته "سيخرس زملائي عني بعد هذا الإنجاز" برقت صاعقة قوية فوق المنزل مباشرة و هو ينظر الى الطابق العلوي، صرخ مذعورا من طيفها، كانت تطل عليه من على شرفة المنزل بثوبها الأزرق و شعرها الأسود الطويل، نظرت نظرةً اليه ارعبته ثم اختفت من امامه، صرخ باعلى صوته فنبحت الكلاب التي كانت قريبة منه بقوة، نظر الى الأشجار التي احاطت المنزل و صرخ لمنظر اغصانها العارية، فكانت تتجرك بعنف في مكانها، سمع بالمدى القريب تَكَسُرْ لأوارق شجر الخريف و كأن احدهم كان يدوسها بسرعة، صرخ باعلى صوته "النجدة!!!" و جرى باقصى سرعته نحو بوابة الحديقة، كانت المسافة بعيدة جدا و كان يسير على ارض ترابية تتخللها حجارة كثيرة، ارتفعت بشدة اصوات تكسر الأوراق اليابسة و هو يهرب من المكان، كان احدهم يجري ورائه، صرخ باعلى صوته "جابي!!! فؤاد!!! ساعدوني!!!"
سمع اصواتهم بالمدى البعيد و لكن لم يفهم ما كانوا يقولون له، فتيقن من اصواتهم انه يتجه نحو المكان الصحيح، ارتطم بشجرة فوقع على الأرض، سمع تكسر اوراق الشجر من حوله فشعر و كأن احدهم يقترب منه، نظر من حوله و لكنه لم يرى شيئ من الظلام الدامس، اقتربت الخطوات منه فنهض من جديد و جرى بنفس الإتجاه السالف، صرخ مرة ثانية "فؤاد!!! جابي!!! هنالك من يلحق بي!!!"
اجابه فؤاد "انت تتوهم يا طوني!!! سندخل الحديقة!!! هيا عد يا خائب!!!"
فتح فؤاد بوابة الحديقة ليدخل هو رفاقه و لكن صوت الكلاب التي تنبح بالمدى اخافتهم قليلا، قال فؤاد "هذه كلاب ضالة قد تؤذينا، لننتظر هنا وصول طوني!!!"
فجأة ارتفع صراخ زميلهم وسط الحديقة و يهو جري بجنون، انطفأت انارات الشارع فجأة و خيم الظلام بالكامل على المكان، ارتفعت بالخلفية اصوات بعض السيارات التي كانت تمر بالشارع الذي كان على مسافة منهم، خاف الجمع من الظلام الدامس و غادروا المكان تاركين طوني يصرخ اليهم من داخل الحديقة،
صرخ باعلى صوته "جابي!!! فؤاد!!! لم اعد ارى انارة الشارع اين انتم!!!"
و لكن لم يجبه احدا، خاف طوني كثيرا من صمت زملائه و اكمل جريه نحو ما كان يظن انها بوابة الحديقة، فجأة ارتفعت ضوضاء لشاحنات بعيدة في شارع البيدر فتبعها شاكرا الظروف التي كانت تسعفه، رأى اخيرا البوابة امامه، جرى نحوها و هو يطلق صرخات هستيريا من الخوف و الرعب، تعداها و امسكها و اغلقها بقوة وراءه، نظر اليها و هو يحاول التقاط انفاسه، سمع اصوات وقع اقدام قوية تقترب منه، حاول اخذ خطوات الى الوراء و لكن تجمدت الدماء بعروقه فجأة، ثقلت قدميه من الرعب و هو ينظر الى الظلام الدامس امامه فاقترب وقع الأقدام منه و هو خلف البوابة، كانت الخطوات كثيفة و كأنها لعدة قوائم تسير معا، سمع اصوات تنفس خشنة و عالية جدا و كأنها لكائن ضخم، فجأة لمعت صاعقة آخرى فوق المكان فرأى حجر كبيرا يصطدم بالبوابة، صرخ بشدة فلولا حديد الوابة لأصابه الحجر مباشرة، دفعه هول الموقف الى الجرى صوب الشارع، طلب جابي على الهاتف و لكنه لم يجبه إطلاقا، وصل الى شارع ظهر البيدر و نظر بقليل من الطمانية لمنظر السيارات و هي تسير وسط الظلام الحالك، طلب فؤاد و لكنه لم يجبه فعلم انهم تخلوا عنه و هو بأمس الحاجة اليهم، سار مع الشارع بإتجاه منازل المدينة و هو يفكر بما كان يجري ورائه، ارسل لهم صور المنزل و كتب لهم على الواتس اب "لست جبان بعد اليوم، ها هو المنزل،"
*****************************
نظر سعيد الياس منصور الى غرفة الخزين التي كانت مغلقة امامه، كانت غرفة صغيرة استخدمها اهله لتخزين بعض من المواد التموينية و اكياس البقول التي كانوا يبتاعونها من السوق في اول كل شتاء، كانت عين ابل قرية قد كبرت بهذه الأيام فلم تعد القرية الصغيرة التي اعتاد عليها بطفولته، و لكن كانوا بعض من اهلها ينهجون النهج القديم بالعيش و في التموين لفصل الشتاء، فاستمروا بالعادات القديمة رغم التطور الذي اصاب المجتمع من حولهم، فانتشرت بالقرية المنازل و الأبنية الحديثة و تزينت بتصاميمها الراقية بعكس زمان سالف كان ضحية سطوة الدولة الإسرائيلية عليها، فلم تعش لبنانيتها كما كان يحلو لأهلها، فلذلك لم يكن بمقدور اهلها الذين عاش جزءا منهم بالغربة الإستقرار بها كما كان يريدون، لم تشهد نهضة عمرانية الا حين انتهاء الحرب حيث توافد اهلها في اشهر الصيف الدافئة للإستقرار و الإستثمار بها فتلونت بشتى المباني الجميلة التي انعشت طبيعتها بروح بشرية جميلة، و ازدهرت اصياف متعاقبة بالحفلات و العمران و الإنجازات المتنوعة و كبرت الى ان اصبحت مدينة آهلة بالسكان من جديد فتعانقت ايامها السعيدة مع السلام و الآمان اخيرا، فقرر المجيئ من الشيلي في اميريكا الجنوبية أخيرا و تصفية بعض من اعماله على امل ان يستقر بها، فبعد طول غياب وصل الى مطار بيروت قبل اسبوع من اليوم و تحمل مشقة السفر البري عابرا عدة مدن لبنانية لثلاثة ساعات الى ان وصل الى منزل اهله المهجور...ورثته الوحيدة منهم بعد ان توفوا منذ قترة من الزمن، فورث منزل العائلة منهم مع دنم من الأرض المزروعة بالأشجار المثمرة من حوله، و ورث اشقائه الثلاثة المقيمين بالخليج قطع من الاراضي المثمرة، و فتح بيت عائلته اخيرا بعد غياب ثلاثين سنة طويلة، فلم يدخله خلال هذه المدة الا ما ندر حينما كان يزور والديه، و كانت أخر مرة منذ ثلاثة سنين و لكنه لم يطق المكوث به طويلا بسبب فقدانه لِنَفَسْ و حِسْ ذويه، فاكمل مدة زيارته بفندق بمدينة مجاورة،

نظر من حوله فكان المنزل على وضع يد والديه، فلم يتغير به شيئ، كان على طرف من اطارف القرية متاخم لطريق يؤدي الى مدينة بنت جبيل، و كان على مسافة ربع ساعة مسير من كنيسة القرية المارونية، كان كنب الصالة ذو الفرش الأحمر في مكانه، كنب ذو مقعيدن تحت شباك الصالة الكبير و كنب ذو ثلاثة مقاعد يرتكز على جدار من جداران الصالة، و كانت مقاعد فردية موزعة بترتيب حول الكنب مع طاولة خشبية بيضاء بالمنتصف، كانت طاولات صغيرة ذات خشب مطلي بالأبيض تتوزع بجانب الكنب بترتيب جميل عبق به ذوق المرحومة والدته الرفيع، فكان على وضع يديها بالتمام و كأنها قامت بترتيبه بالأمس، كان تلفازٌ قديم جدا بزاوية الصالة تملئه غبائر تشهد على مدة غيابه الطويلة عن منزله...و كأنها تعاتبه على اهماله لمزل والديه...و كأنها تقول له لماذا تركتني اتراكم على اثاث بيتك في بلدك...ألم تشتاق لتنفضني عن المكان...ألم تشتاق لتنفض غبائر الإهمال عن لبنان الذي عاش بقلبك في غربتك لسنين كثيرة...

كان فوق التلفاز لاقط قديم للمحطات، فكان منذ ايام القنوات الأرضية، تنهد عميقا لمنظره فقد وعد والديه كثيرا ان يغيره لهم و لكن كان القدر اسرع من اتمام وعوده، شعر بمشاعر ألم ممزوجة بأنين جميل للمكان فكاد ان يسمع ضحكات والدته و هي تلاقيه بعد وصوله من سفره، تخيل شعرها الأشيب الذي كان ينساب من حول رأسها و كتفيها و تخيل تجاعيد الزمن حول عينيها الزرقاء الجميلة و حول فمها و هي تضحك اثناء استقباله بحقائب سفره في باب المنزل...كاد ان يسمعها و هي تقول "اهلا و سهلا...نورت عين ابل و دارك يابني،" تذكر كم كان حضنها جميل و دافئ و هي تضمه و تقبل وجنتيه بتوق و لوعة...ذرفت عيناه الدمع و هو ينظر الى الغبائر التي كانت تملأ المكان ، فكانت تلك الغبائر التي تنتشر بعد ان يلمس كل جزء من المكان الآن من تلاقيه و تعانقه بدل والدته...غبائر سنين طويلة تراكمت لأن اليد التي كانت تنفضها عن اثاث المنزل غائبة...فاحتلت المكان عوض عن لمسات امه الرقيقة في المنزل...الذكريات التي عادت اليه كثيرة و هو يتجول بالمنزل فلم ترحمه إطلاقا...

نظر الى مدخل غرفة الخزين التي كانت في قلب المطبخ، كانت عبارة عن باب في زاوية من زواياه يؤدي الى غرفة مساحتها اربعة امتار بأربعة امتار، اقترب منها و ادار مفتاح الباب قليلا، فأصدر قفل الباب طقطقة صغيرة، كان الصدأ الأحمر يملأ المفتاح فنفض يديه قليلا ثم امسك مقبض الباب، فتح الباب القديم فأصدر اصوات زقزقتٍ عالية و هو يتحرك الى الوراء، كانت مفاصله مهترئة و بحاجة لصيانه، كانت الغرفة فارغة ما عدا بعض الكراكيب هنا و هناك على الأرض، ابتسم حينما تذكر انها لم تكن للخزين فقط، دخل اليها و الذكريات تتدفق في ذهنه، فكانت ترسله اليها والدته بعد توبيخ حاد في ايام مراهقته حينما كان يرتكب المعاصي و الأخطاء، كم زارها خصوصا بأيام كانت تصدر بها نتائج علاماته بالمدرسة، كانت تجعله يجلس وسط اكايس البقول و المونة و الأرفف المليئة بأوعية المخللات، ثم كانت تلحق به بعد عشرة دقائق و الحزام الجلد بيديها، كانت تغلق باب الغرفة و تجلده بالحزام على ساقيه لئلا يرتكب الخطأ مرة آخرى، تذكر كم كان ضرب امه يؤلمه، و لكنها كانت دائما تعود اليه بعد العقاب و تعانقه و تمسح دموعه بحنان، كانت تتحدث معه عن الخطأ الذي ارتكبه،

نظر الى ارجاء العرفة من حوله، كانت الأوعية القديمة و بعض من الأغطية تنتشر على الأرض هنا و هناك، كانت نافذة صغيرة في احد جدران الغرفة تطل على الحديقة من خلف المنزل، طار عصفور جميل من خلالها و استقر على رف عالٍ صنع له عش فيه، انتشرت زقزقت عصافير صغيرة بها فتبين له انه قد احضر لهم بمنقاره بعضا من الطعام، ابتسم للمنظر فاعأدت له الزقزقة ذكريات طبيعة القرية الذي اشتاق لها كثيرا، كان لا بد ان يطل على حديقة منزله فكانت على الأكيد مهملة و بحاجة الى صيانة،

فجأة نظر الى منضدة صغيرة كانت في زاوية من زواية الغرفة، كانت قديمة و مهترئة و تملئها غبائر كثيرة، كان عليها صندق خشبي صغير، كان يخص والده، تذكر انه من حين لآخر كان يراه يضع فيه بعض من مقتنايته الورقية، سار نحوه و امسكه بيده، كان به مفتاح في قفله الصغير، خرج من الغرفة و توجه نحو كنب الصالة، جلس عليه فانتشر الغبار من حوله، سعل بضعة مرات ريثما هدأت الأجواء من حوله، كم كان بيته بحاجة لتنظيف و ترتيب، في القريب العاجل سيبدأ بترتيبه و سيطلب من اقربائه صانعة لتساعدة بعمله، دار المفتاح في مكانه ففتح الصندوق الخشبي، كان بحجم ثلاثين سنتيمترا بعشرين سنتيمترا، نظر في داخله فكان به بعض من الأوراق و مفتاح، فتح الأراق و طالعها بتمعن، كانت تخص ملكية دكان والده في سوق القرية، كان على بعد عشرة دقائق مسير و كان ضمن مجمع تجاري صغير به ثلاثة محلات تجارية، كان هنالك محلين خالين لم يتم تأجيرهما منذ وفاة والده، و كان الثالث لمكتبة والده الذي كان يديرها، كانت على ما يذكر مليئة بالكتب الثقافية و الروايات و المؤلفات لكبار الشعراء و الكُتًاب اللبنانين و بعض من كُتًاب العرب،

فجأة لفتت انتباهه ورقة كانت تلف مفتاح، كان مكتوب عليها مجموعة من الأحرف باللغة الفينيقية، منذ زمن لم يمارس المطالعة بهذه اللغة القديمة، و لكنه استطاع تذكر بعض من الرموز المكتوبة على الورقة، قرأ في ذاته "كتاب كنز الثقافة الفينيقية المترجم الى العربية لجورج هايدلي، تسآل " لماذا كان والده يحتفظ بها و لماذا كتب اسم الكتاب بالفينيققة؟" نظر الى الصندوق بإستغراب فلم يكن به شيئا آخر، نظر الى المفتاح جيدا، كان يبدو و كأنه مفتاح قفل لباب، قال في ذاته ربما كان لمتجر كتب والدي، اعاد كل شيئ الى الصندوق و هو يبتسم الى ما وجده، فكان من رائحة والده الذي كان يحبه كثيرا، وضع الصندوق على طاولة صغيرة كانت بجانب الكنب، امسك المفتاح مع الورقة و وضعهما في جيبه، قرر ان يذهب الى منزل جيرانه ليسلم عليهم و يسألهم عن خادمة تنظف المنزل، فكانوا اولاد عمه المتوفي ايضا، كان على يقين انهم سيساعدوه بهذا الأمر، و عزم على فتح متجر والده القديم في سوق البلد ليأخذ نظرة عليه،
*****************************
نظر منيب دياب الى منزل الياس منصور بتمعن شديد، لم يكن يعلم ان سعيد سيأتي للإستقرار في عين إبل فكان اولاد المرحوم في غربة عن ديارهم منذ سنين طويلة، فحينما سمع الأنباء لم يصدقها، فاعتقد انها اشاعة اطلقها احدهم كما كان يحدث من حين لآخر، فكانت الشائعات تكثر حول بيت آلمنصورلأنه كان مهجورا منذ سنين كثيرة، و لكن في هذه المرة قرر الذهاب بنفسه للتأكد، فالذي نشر الإشاعة جار قريب من منزل آلمنصور، ابتسم لمنظر سعيد و هو يخرج من بيته و يسير في الحديقة المحيطة لبيت اهله، اخذ سيجارة من علبة الدخان التي كانت بجانبه في السيارة و اشعلها، نفخ الدخان في الهواء و هو يرى سعيد يتأمل الشجر القديم و المهمل من حول منزله، ابتسم للأفكار التي كانت تتوارد الى ذهنه عن الإنجازات التي قد يحققها و سعيد بالقرية، فلثلاثين سنة انتظر هذه اللحظات بعدما فشلت محاولاته مع الياس منصور...يتبع




تعليقات القراء

لا يوجد تعليقات


أكتب تعليقا

تنويه :
تتم مراجعة كافة التعليقات ،وتنشر في حال الموافقة عليها فقط.
ويحتفظ موقع وكالة جراسا الاخبارية بحق حذف أي تعليق في أي وقت ،ولأي سبب كان،ولن ينشر أي تعليق يتضمن اساءة أوخروجا عن الموضوع المطروح ،او ان يتضمن اسماء اية شخصيات او يتناول اثارة للنعرات الطائفية والمذهبية او العنصرية آملين التقيد بمستوى راقي بالتعليقات حيث انها تعبر عن مدى تقدم وثقافة زوار موقع وكالة جراسا الاخبارية علما ان التعليقات تعبر عن أصحابها فقط ولا تعبر عن رأي الموقع والقائمين عليه.

- يمكنك تسجيل اسمك المستعار الخاص بك لإستخدامه في تعليقاتك داخل الموقع
الاسم :
البريد الالكتروني :
اظهار البريد الالكتروني
التعليق :
رمز التحقق : تحديث الرمز
أكتب الرمز :

إقرأ أيضاً

رياضة وشباب

محليات