جدو عادل


كان يوم سبت عادي من أواخر خريف عام 2009 كان الجو معتدلاً ذلك النهار لكن مزاجي لم يكن كذلك ... مشاعر متناقضة هيمنت علي في ذلك الصباح ... شيء من الارتياح ... بعض الاضطراب .... وكثير من الحزن والقلق ... هل هذا طبيعي ... أم أن حساسيتي المرهفة وروحي القلقة دوماً هي السبب في هذا المزيج الغريب من الانفعالات ...

أليس من الطبيعي أن أكون فرحاً مبتهجاً وابنتي ميناس سوف تزف إلى عريسها الليلة ... هي سعيدة بلا ريب ... لماذا لا أكون سعيداً أنا أيضاً ... فهي ستبقى قريبة مني ليس من حيث المكان فقط وبيتها سيكون على مرمى حجر مني فقط ... بل ستبقى ضمن نفس العائلة ... ستكون في بيت عمها وفي كنف ابن عمها محمد الذي هام بها حباً ... وأصر على الخطبة وكتب الكتاب قبل تخرجها من الجامعة بأشهر .... هل أنت قلق على مستقبلها وهي الرقيقة شديدة الحساسية ... ولكن محمد الهادئ تماماً والمحب دوماً هو الشخص المناسب لها تماماً ... لو كان أحدٌ غيره لجاز لك أن تحمل الهم وتقلق ... ماذا إذن ... هل اكتشفتَ فجأة أنك كبرت وطويت من السنين الكثير واعتباراً من هذه الليلة ستصبح حماً وستكون مؤهلاً لأن تصبح "جدو" أيضاً عما قريب .... هي إذن طباع الرجل الشرقي الفلاح الدايمي الذي كان حتى عهد قريب يشعر بالفقد والانكسار وشيء من الهزيمة إذا خرجت ابنته من بيته إلى بيت زوجها .... فلا يرافقها في موكب العرس من ذكور العائلة سوى والدها وأشقاؤها فقط .... هون عليك يا رجل .... اصرف عن نفسك كل المشاعر السلبية ... فاليوم يوم فرح وسرور ... واستعد لاستقبال ضيوفك في حفل العرس هذا المساء ومنهم اصدقاء مقربون وزملاء وزميلات عمل ....

حَفِلَتْ مسيرة ميناس بالكثير من الحكايا .... كانت الثالثة بعد اختها هزار وشقيقها نزار ... في أشهر الحمل الأولى كانت أمها تواقة لمعرفة جنس الجنين ... فالنتيجة ستكون اثنين مقابل واحد ولكن لصالح من ... بالنسبة لي كسليل مجتمع ذكوري قروي كنت أريد أخاً لنزار فيما أمها تريدها أختاً لهزار ... رافَقْتُها إلى موعدها مع الطبيب الذي كان يتابع مراحل الحمل .... سأل الطبيب وهو يتفحص صورة الجنين على الجهاز ... شو عندك اولاد ... اجبته ولد وبنت ... هيك بصيروا ولدين وبنت ... مبروك ...

خرجنا من عند الطبيب والسرور يغمرني ... وقلت لزوجتي اذا حدا سألك احكي بنت ... لماذا سألَتْ زوجتي ... قلت خليها تكون مفاجأة للكل لما بيجي الولد ...
لم يأتي الولد ... وجاءت بدلاً منه بنت سمراء جميلة ... سَبَبَ ذلك لي خيبة أمل مؤقتة وددت وقتها أن أذهب فارعاً دارعاً إلى ذلك الطبيب "الأحمق" فأطالبه بالاعتذار والتعويض عما سببه لي من "ضرر" ... ولكنني حمدت الله كثيراً فالوضع كان سيكون أكثر "ضرراً" لو أعلنا منذ البداية أن القادم الجديد ولد كما أخبرنا ذلك "الألمعي" ....

كنت أود أن أسمي القادمة الجديدة "مَحارْ" اسم على نفس الوزن والقافية لأسْمَيْ شقيقها وشقيقتها هزار ونزار وهو اسم عربي جميل يجنح في الخيال ويأخذك بعيداً إلى أعماق البحار والمحيطات ... لكنني تراجعت في النهاية فالاسم غريب وقد يسبب الحرج لحاملته في المستقبل ... تركت الاسم الغريب واخترت اسماً أشد غرابة سمعته ذات مرة وأعجبني "ميناس" .... وقد فاجأتني تيريز زميلتي الأرمنية في العمل في مشروع اسكان أبو نصير عندما قالت لي يوماً أن هذا الاسم عندهم اسم لذكر وأن أحد الكهنة لديهم يحمل الاسم ذاته ... لم أندم على اختياري ذلك الاسم فما زلت أحبه ومن تحمله كذلك حتى اليوم ....

لم تكن ميناس قد بلغت من العمر سوى عامين فقط عندما ظهرت عليها ذات يوم أعراض الإنفلونزا من سعال وضيق نفس وارتفاع حرارة ... لتزداد الأعراض شدة في المساء ... اتصلت بعيادة الدكتور طعمه الفانك في شارع بسمان الذي اعتدنا مراجعته في مثل هذه الحالات ... إلا أن الدكتور كان قد غادر العيادة وقتها ... لم أجد بداً من حملها إلى عيادات الطوارئ في مستشفى الجامعة ... وصف الطبيب المناوب العلاج اللازم بعد الفحص وعمل صورة شعاعية للصدر ... بعدها بدأ يراقب الكف اليسرى للطفلة التي كانت تحركها بشكل متواصل للحظات بين الفترة والأخرى ... ثم تبع ذلك بتوجيه أسئلة بدت لي غريبة ومفاجئة ... هل لاحظتم شيئاً غريباً على ابنتكم ... هل تلعب مع اخوتها بشكل طبيعي ... هل ظهرت عليها أعراض "الصفار" بعد الولادة ... هل استمر ذلك لفترة طويلة .... بعدها كتب الدكتور تحويلاً لعيادة الأطفال في المستشفى ... حاولت أن أعرف منه سبب التحويل وعما إذا كان هناك ما يخيف إلا أنه رفض وقال ستعرفون كل شيء من طبيب الأطفال ...

أصابني القلق الشديد مما قاله الدكتور ... لأعلم بعد ذلك بأن الطبيب قد فسر حركة يد الطفلة على أنها عرض من الأعراض الخطيرة جداً الناشئة عن عدم معالجة "الصفار" وقت حدوثه .... قضيت ليلة رهيبة وازداد هلعي عندما قالت لي زوجتي أشعر أن شيئاً ما يقف حائلاً بيني وبين طفلتي .... أحس أن الحليب قد جف في صدري ...

أفقت في اليوم التالي باكراً وكانت نفسي مكتئبة حزينة وعاجزة .... شعرت برغبة كبيرة في البكاء وكأن مصيبة كبيرة قد حلت علينا .... فقد تذكرت أن الطفلة قد عانت من "الصفار" فعلاً واستمر لفترة ليست قليلة وتلكأنا يومها في متابعة ذلك ...
راجعت في اليوم التالي عيادة الأطفال ... لتخبرني طبيبة مصرية كانت هناك بأن خير من يمكن أن يفتي في هذا الموضوع دكتورة اسمها نجوى خوري ... تركتها على الفور وهرعت ابحث بين الطوابق وفي الغرف عن الدكتورة نجوى ... لأجدها في جولتها اليومية على المرضى ... شرحت لها القصة وأنا شديد الاضطراب ألهث ... فقالت أحضروها إلى العيادة بعد ثلاثة أيام ... رجوتها وتوسلت اليها لتوافق بعدها على رؤيتها في اليوم التالي ...

الآن وبعد مرور أكثر من ثلاثة عقود ما زلت أشعر بالامتنان لتلك الطبيبة الرائعة التي بددت الكابوس الرهيب الذي أفزعني لأكثر من ثلاثة أيام متواصلة .... عندما ابتسمت بعد فحص ومعاينة مطولة قائلة بأن الطفلة طبيعية تماماً ولا داعي للخوف أو القلق ...

كانت ميناس مُجدة في دراستها مثل كل اخوتها وقد حصلت على منحة مجانية كاملة من إحدى المدارس الخاصة التي كانت تستقطب أوائل الطلبة والطالبات من المدارس الحكومية ... اجتازت امتحان الثانوية العامة التوجيهي بنجاح وحصلت على علامة مرتفعة نسبياً ...

قُبِلَتْ ميناس لدراسة الهندسية الصناعية في الجامعة الهاشمية في الوقت الذي كان فيه نزار في سنته النهائية في نفس الجامعة يدرس تخصص هندسة البرمجيات ...
فرحتُ شخصياً لحصولها على هذا التخصص الذي يشمل الكثير من التخصصات الفرعية المتصلة بالإدارة وضبط الجودة والتميز وهي مجالات تناسب كثيراً أي فتاة وعليها الكثير من الطلب ... لتصدمني بشدة لرفضها التخصص والجامعة معاً ... وأنها تريد دراسة التحاليل الطبية في الجامعة الأردنية حيث أختها هزار في المراحل الأخيرة من دراسة تخصص الأراضي والمياه والبيئة في نفس الجامعة ...

لم تثمر جهودي ومحاولاتي المستمرة لثنيها عن قرارها ... وحيث أن معدل القبول للتخصص الذي طلبته في الجامعة الأردنية يفوق معدلها في التوجيهي .... فقد تقدمنا بطلب لنقلها إلى الجامعة الأردنية لدراسة تخصص البيولوجيا لمدة سنة كاملة استطاعت أن تحصل فيها على علامات متفوقة أهَّلَتْها لتغيير التخصص إلى التحاليل الطبية ....

تفاجأتُ عندما قصدني أخي ابراهيم خاطباً ميناس لأبنه محمد ... كانت هي المرة الأولى التي أجد نفسي وأخي ابراهيم طرفين مختلفين متقابلين .... لم أقبل ذلك أبداً فتحركت من موضعي وجلست بجانبه ... وقلت له أنت أبوها وسميها .... ورفضتُ أن أقدم أي طلب أو اشتراطٍ مهما كان ... فهو من حدد المهر والتوابع والشروط والتواريخ وكل شيء ... كان الجو عاطفياً جداً متوتراً بعض الشيء ... فقلت له حتى أبدد جمود ذلك الجو الرسمي البروتوكولي ... لي طلب واحد فقط .... قال أخي أطلب احنا حاضرين .... فقلت له هذه موافقة مبدئية فقط ... لأضيف ضاحكاً أما الموافقة النهائية فبعد السؤال والتقصي عنكم وكذلك عن العريس ....

تمت الخطبة رسمياً بعد أيام وقد أصر أخي ابراهيم أن يتم الإعلان عن ذلك من خلال اقامة وليمة في بيتنا للعشيرة بأكملها وللأصدقاء والمحبين مستعيداً تقليداً قديماً كان سائداً قبل ذلك بسنوات وذلك إكراماً لميناس وأبيها ...

تزوجَتْ ميناس وأنجبت أول الأحفاد ... طفلة جميلة كأمها منحني والداها شرف تسميتها ... فكانت سلمى .... تزوجتْ هزار بعد ذلك ثم نزار فأحمد ... وليأتي الأحفاد تباعاً يملؤون البيت بالضجيج والصخب .... ويغمرون الأرواح بالحبور والسكينة والرضا ... جاء أيسر ونور وكريم وجاد وعادل جونيور وأخيراً زينه ... وليمنحوني اللقب الأجمل والأغلى والأحب إلى قلبي .... "جدو عادل" ...




تعليقات القراء

لا يوجد تعليقات


أكتب تعليقا

تنويه :
تتم مراجعة كافة التعليقات ،وتنشر في حال الموافقة عليها فقط.
ويحتفظ موقع وكالة جراسا الاخبارية بحق حذف أي تعليق في أي وقت ،ولأي سبب كان،ولن ينشر أي تعليق يتضمن اساءة أوخروجا عن الموضوع المطروح ،او ان يتضمن اسماء اية شخصيات او يتناول اثارة للنعرات الطائفية والمذهبية او العنصرية آملين التقيد بمستوى راقي بالتعليقات حيث انها تعبر عن مدى تقدم وثقافة زوار موقع وكالة جراسا الاخبارية علما ان التعليقات تعبر عن أصحابها فقط ولا تعبر عن رأي الموقع والقائمين عليه.

- يمكنك تسجيل اسمك المستعار الخاص بك لإستخدامه في تعليقاتك داخل الموقع
الاسم :
البريد الالكتروني :
اظهار البريد الالكتروني
التعليق :
رمز التحقق : تحديث الرمز
أكتب الرمز :

إقرأ أيضاً

رياضة وشباب

محليات