مدير فوق العادة


ترك باسم عوض الله وزارة التخطيط في شباط 2005 ليحل محله أمين عام الوزارة د. تيسير الصمادي في تعديل ثالث على حكومة فيصل الفايز ... لم تدم خدمة الصمادي في الوزارة بعد ذلك سوى شهرين اثنين وأيام قليلة فقط ... لتأتي بعده السيدة سهير العلي وزيرة للتخطيط والتعاون الدولي ضمن حكومة د. عدنان بدران التي لم تعمر طويلاً فيما استمرت العلي في منصبها عدة سنوات بعد ذلك ضمن عدة حكومات متتالية ...

لم يكن لي اتصال مباشر مع الوزيرة إلا من خلال المعاملات والمذكرات الرسمية التي تصلها عبرَ مدير الوحدة وأمين عام الوزارة ... قابلتها عدة مرات ضمن لقاءات عامة على مستوى الوحدة التي أعمل بها أو على مستوى الوزارة بشكل عام ... لذا لم تسنح لها الفرصة للتعرف عَلَيَّ بشكل قريب ومباشر ... فيما كانت علاقتي ممتازة بأمين عام الوزارة ناصر الشريدة والذي سبق أن تزاملت معه قبل سنوات ضمن وحدة حزمة الأمان الاجتماعي ...

تلقيت ظهر يوم من أواسط شهر تموز عام 2007 اتصالا هاتفياً من أميره مخيمر مديرة مكتب الوزيرة .... تفضل عنا معاليها بدها تشوفك ... جاء صوتها من الطابق الخامس عبر الهاتف ...
فاجَأني الاتصال غير المسبوق ... وتساءلت في نفسي ما الذي تريده مني معالي الوزيرة ... تحركت على الفور من مكتبي الواقع في الطابق الثالث وتوجهت للقاء الوزيرة ... لم انتظر وصول المصعد ... واسرعت ارتقي الدرج باتجاه مكتبها في الطابق الخامس ...

قادتني أميرة إلى غرفة اجتماعات جانبية ملحقة بمكتب الوزيرة ... انتظرتها بضع دقائق ... دخلت الوزيرة بابتسامتها المعهودة ... سألتني عن البرنامج ثم عن الوحدة ... وأبلغتني بنيتها عدم التجديد للمدير الحالي للبرنامج وأنها سوف تقوم بتعييني بديلاً عنه ... وطلبت مني أن أقدم لها تقريراً عن الوضع الحالي للبرنامج وعن اقتراحاتي للتطوير ... وأكدت أن قرار التعيين الذي سوف يصدر خلال ثلاثة أيام لا رجعة عنه وأنها تتوسم فِيَّ الخير وتتوقع مني الكثير ...

فوجئت بالقرار الذي أسعدني وأثلج صدري ... وإن جاء متأخراً سنوات طوال ... شكرت الوزيرة بأجمل العبارات التي استطعت "لَمْلَمَتها" في تلك اللحظة وقد شجعتني لهجة الوزيرة الودية أن أطلب منها أن يكون التعيين بالأصالة وليس بالوكالة كما درجت العادة في التعيينات الجديدة ... فردت الوزيرة تِكرَمْ سيكون تعيينك مديراً أصيلاً دون الحاجة إلى فترة اختبار أو تجربة ...

كان تعييني مديراً لبرنامج تعزيز الانتاجية الاقتصادية والاجتماعية هو التطور الأهم في حياتي المهنية .... ليس بسبب حصولي على رتبة مدير ... فقد سبق وحصلت عليها قبل أكثر من عشر سنوات في مؤسسة الإسكان وإنما بسبب أهمية البرنامج كونه يمثل المبادرة الحكومية الأبرز على مستوى المملكة لتحقيق التنمية المحلية ومحاربة الفقر والبطالة ... إضافة إلى حجم الموازنة التي كان يتم رصدها للبرنامج سنوياً والتي كانت تصل إلى خمسة وعشرين مليون دينار ... وتَنَوُّع الجهات التي يتعامل معها البرنامج سواء كانت منفذة أو شريكة أو مستفيدة .... والتي تشمل وزارات ومؤسسات حكومية وبلديات ومنظمات مجتمعية وهيئات أجنبية ...

أحدث قرار تعييني مديراً للبرنامج أصداء كبيرة في الوزارة وقوبل بالارتياح من كافة موظفي الوحدة ... فقد كنت الموظف الأقدم فيها والأكثر خبرة واطلاعاً على مختلف مكونات البرنامج ... وكانت تربطني بموظفي الوحدة الذين كان يتجاوز عددهم العشرين موظفاً وموظفة وشائج الصداقة والزمالة والاحترام المتبادل ...

لم يترتب على ترقيتي أي زيادة فورية في الراتب .... إلا أن المنصب الجديد كان يوفر امتيازات مادية ومكافئات من جهات متعددة خارج الوزارة ... وقد فوجئت بعد استلامي المنصب بشيك وصلني بقيمة مائتين وخمسين دينار من إحدى الجهات الشريكة ... ولدى استفساري عن ذلك ... علمت بأن هذا مبلغ يصرف بشكل دوري لمدير البرنامج وللمدير المالي في الوزارة نظير جهودهم المبذولة في تنفيذ الأنشطة المشتركة ... اعتذرت عن عدم قبولي الشيك وأعدته شاكراً ... فلم يكن قد مضى على وجودي في المنصب سوى أيام قليلة فقط ...

انتقلت من مكتبي القديم الذي ألِفَني وألِفْتُهُ لسنوات طوال ... إلى مكتب المدير الأوسع والأفخم والملحق به مكتب السكرتيرة .... ولعل الميزة الأهم التي أتاحها المنصب الجديد هي سيارة الهوندا CRV البيضاء الحديثة التي تم تخصيصها لاستعمال مدير البرنامج وتم توريدها على حساب مشروع النباتات الطبية والعطرية وهو مشروع ريادي وهام ممول من البنك الدولي كان يتم تنفيذه تحت مظلة برنامج تعزيز الانتاجية الاقتصادية ...

حافظت على علاقة جيدة مع الوزيرة واكتسبت ثقتها ... من خلال العمل الجاد والدؤوب ... وبالمقابل فقد وجدت فيها القائد صاحب الشخصية والكاريزما .... سمات لمستها من خلال لقاءاتها مع أعضاء مجلس النواب التي كنت أحضرها بمعيتها ... كان النواب يقدمون طلبات لتمويل مشاريع وأنشطة لجمعيات تعاونية وخيرية وأندية وهيئات مختلفة من مناطقهم الانتخابية .... كانت لطيفة ولبقة مع زائريها ولكنها لم تكن تسترضي أياً منهم وكانت لا تتردد في رفض أية طلبات لا تنسجم مع معايير التمويل المقرة للبرنامج ... كذلك لمست من طرفها الحرص الشديد على مراقبة الإنفاق المتعلق بمشاريع وأنشطة البرنامج ... فقد بِذَلَتْ جهوداً كبيرة لدى ديوان المحاسبة حتى وافق بأن يقوم بالتدقيق المسبق لكافة معاملات الصرف الخاصة بالبرنامج بدلاً من "التدقيق اللاحق" على عينة فقط من هذه المعاملات ...

لم تكن الوزيرة شديدة الحساسية تجاه ظهوري في وسائل الإعلام للحديث عن البرنامج ... فقد تمت استضافتي كمتحدث رئيسي في برنامج "يوم جديد" الذي بثه التلفزيون الأردني على الهواء مباشرة مع المذيعة سمر غرايبه قمت في نهايته بالرد على اتصالات المواطنين بخصوص البرنامج ... كذلك أجرت معي الصَحَفِيَّة جمانه غنيمات التي كانت تعمل في جريدة الرأي وقتها – تولت منصب وزيرة الإعلام لاحقاً- مقابلة مطولة عن البرنامج احتلت أكثر من ثلث صفحة من صفحات الجريدة ... اضافة إلى مقابلات أخرى صحفية واذاعية وتلفزيونية ....

لم يكن منصب مدير البرنامج يقتصر على ترأس وحدة تضم العديد من الموظفين والموظفات وإنما المسؤولية المباشرة عن برنامج موازنته بالملايين ويوفر التمويل لمشاريع وأنشطة بعشرات ومئات الآلاف من الدنانير لكل منها ... لم أكن صاحب القرار النهائي في ذلك فهناك لجان تدرس وتُنَسِب وهناك موافقة الوزيرة في النهاية .... إلا أن دوري كان أساسياً ومحورياً في هذا المجال .... وبهذه الصفة فقد اكتسبت الكثير من الأهمية والتأثير مما فتح لي المجال للتواصل مع الكثير من الأشخاص الفاعلين في الحكومة وخارجها منهم وزراء وأمناء عامين ومدراء عامين ورؤساء بلديات وممثلي هيئات مختلفة كانت تقصد الوزارة للحصول على التمويل ... واستذكر هنا مدرب المنتخب الوطني لكرة القدم المرحوم محمود الجوهري الذي زارني مرتين برفقة خليل السالم عضو اتحاد كرة القدم لتمويل برنامج لتدريب الناشئين والواعدين على مهارات وفنون اللعبة ... اضافة إلى ذلك فقد اكتسبتُ عضوية عدد من اللجان والهيئات ذات الصلة بالبرنامج منها عضو مجلس إدارة مؤسسة التدريب المهني واللجنة المشرفة على مسابقة الملكة علياء للعمل التطوعي واللجنة المشرفة على مشاريع جمعيات المتقاعدين العسكريين واللجنة المشرفة على برنامج التدريب العسكري لطلبة المدارس وغيرها الكثير ...

قمت أوائل عام 2008 بترتيب زيارة للوزيرة سهير العلي إلى منطقة وادي عربه ... كان للبرنامج العديد من المشاريع والأنشطة التي تم تنفيذها في المنطقة .... لم يكن الهدف الرئيسي للزيارة هو تفقد المشاريع وانما الالتقاء بأهالي المنطقة للرد على ما سبق وأشاعَتْهُ عضو مجلس النواب وقتها ناريمان الروسان ... من أن الوزيرة قد وصفت خلال حديث لها أهالي وادي عربة بكلمة "المطاريد" وهو مصطلح عشائري يحط من شأنهم ومن مكانتهم اجتماعياً ... الأمر الذي نفته الوزيرة بشدة جملة وتفصيلا ... رافَقْتُ الوزيرة في تلك الزيارة التي كانت ناجحة بكل المقاييس ... استقبل الأهالي الوزيرة بالترحاب الشديد وكان في الاستقبال أيضاً محافظ العقبة سمير المبيضين - وزير الداخلية لاحقاً -... تم تبادل الكلمات الترحيبية بين الوزيرة والأهالي الذين أصروا على تقديم المناسف وقت الغداء كواجب من واجبات الضيافة للوزيرة والحضور وكَرَدٍ من قبلهم على من أشاع تلك المقولة بحق الوزيرة ومن رددها كذلك ...

برغم انشغالاتي الكثيرة كمدير لبرنامج تعزيز الإنتاجية فقد سنحت لي الفرصة للسفر خارج البلاد عدة مرات إحداها إلى اليابان لمدة تسعة عشر يوماً ضمن وفد ضم تسعة أشخاص من مختلف القطاعات بينهم المهندس عمر أبو وشاح صاحب شركة بترا للمكيفات للتعرف على التجربة اليابانية في التعليم المهني ... كانت رحلة ممتعة جداً ومفيدة ... تعرفت فيها عن كثب على شعب يعيش المستقبل فيما نكابد نحن للانعتاق من أغلال الماضي وقيوده دون جدوى ... شملت الزيارة العديد من المؤسسات والمرافق منها مصنع سيارات سبارو ... شاهدنا فيه خط انتاج السيارات ... شيء بدا لنا كالسحر أو اللامعقول ... سيارة جديدة مكتملة يتم تجميعها خلال دقائق فقط ...

كما سافرت بعدها إلى دبي لحضور ورشة عمل عقدتها كلية دبي للإدارة الحكومية .... فوجئت بوجود د. باسم عوض الله في حفل الافتتاح .... بصفته عضو مجلس إدارة الكلية ... وليحضر جلسة بعد الظهر التي قَدَّمْتُ فيها عرضاً عن برنامج تعزيز الانتاجية الذي سبق أن أطلقه قبل سبع سنوات... ليأتي بعدها للسلام علي ولنتبادل الحديث بضع دقائق ... كانت هذه المرة الثالثة التي نتقابل فيها ونتحدث بشكل مباشر ... أما المرة الثانية فقد كانت في عام 2004 عندما قام بافتتاح ندوة عن إسكان الأسر الأشد فقراً في فندق الماريوت البحر الميت بحضور وزير التنمية الاجتماعية رياض أبو كركي ومدير مؤسسة الإسكان بشير الجغبير ... يومها كنت عريف الحفل وقد تحدثت عن الإسكان بأسلوب وعبارات أدبية جميلة لفتت انتباه الحضور ... ليقوم بعد انتهاء الحفل بالسؤال عني ... حيث حضرت وتبادلنا الحديث لدقائق معدودة أيضاً ... أما المرة الأولى فكانت قبل ذلك بعامين وبعد استلامه مهام منصبه بأسابيع قليلة يومها التقينا عند المصعد أنا بانتظار مصعد الموظفين وهو بانتظار مصعد الطابق الخامس المخصص للوزير ... نزل مصعده قبل مصعدي فأصر علي أن أرافقه في المصعد لنتبادل الحديث لدقيقة واحدة أو اثنتين ...

كان عوض الله شخصاً مجتهداً مثابراً شديد الذكاء ... ذكاء لم يجنبه ارتكاب خطأين جسيمين دمرا مستقبله وأورداه مورد الهلاك ... أولهما عندما مارس السلطة والنفوذ بصورة تجاوزت صلاحياته واختصاصاته ... متجاوزاً الكثير من الخطوط الحمر بما في ذلك محددات الجغرافيا والمنابت والأصول ... فاكتسب الكثير من الخصوم والأعداء ... أما ثانيهما فكان صعوده بعد ذلك بسنوات مغمض العينين إلى قارب يبحر بعيداً عن الوطن نحو الهاوية ... في خطأ فادح ساقه إلى خلف القضبان سنين عددا ....

عدت من دبي لأتابع مهام وواجبات عملي .... عملٌ كان يشعرني بالأهمية والنفوذ ويرضي الكثير من النوازع والأحاسيس الداخلية لَدَيَّ .... خاصة في ظل المساحة الواسعة نوعاً ما التي كان يتيحها لي أصحاب القرار .... إلا أن الصورة لم تكن جميلة زاهية الألوان دوماً .... فالقرارات تتعلق بتخصيص أموال لمشاريع وأنشطة مختلفة ... ولن تستطيع إرضاء الجميع اذا أردت أن تمارس قناعاتك ومبادئك التي نشأت عليها ... ممارسة قد تقودك أحياناً إلى مواجهات لن تقوى عليها ... عندها لن يكون أمامك من خيار سوى دفع أثمان وتحمل تكاليف قد تكون باهظة عليك في كثير من الأحيان ...



تعليقات القراء

لا يوجد تعليقات


أكتب تعليقا

تنويه :
تتم مراجعة كافة التعليقات ،وتنشر في حال الموافقة عليها فقط.
ويحتفظ موقع وكالة جراسا الاخبارية بحق حذف أي تعليق في أي وقت ،ولأي سبب كان،ولن ينشر أي تعليق يتضمن اساءة أوخروجا عن الموضوع المطروح ،او ان يتضمن اسماء اية شخصيات او يتناول اثارة للنعرات الطائفية والمذهبية او العنصرية آملين التقيد بمستوى راقي بالتعليقات حيث انها تعبر عن مدى تقدم وثقافة زوار موقع وكالة جراسا الاخبارية علما ان التعليقات تعبر عن أصحابها فقط ولا تعبر عن رأي الموقع والقائمين عليه.

- يمكنك تسجيل اسمك المستعار الخاص بك لإستخدامه في تعليقاتك داخل الموقع
الاسم :
البريد الالكتروني :
اظهار البريد الالكتروني
التعليق :
رمز التحقق : تحديث الرمز
أكتب الرمز :

إقرأ أيضاً

رياضة وشباب

محليات