ارفع سياستك عن شعري .. وعن رحمي


جراسا -

هكذا تصرخ كيانا كاييني، فقد يطفح بها الكيل وهي ترى بنات كبار المسؤولين الإيرانيين بلباس البحر يكاد لا يخفي شيئاً على شواطئ لوس انجلس، في حين يستل حراس الظلام همجيتهم انتقاماً من بضع خصال شعر لمهسا أميني.

لم يسمح ظلام الملالي لمهسا بحمل اسمها الكردي، وفرض عليها حتى بعد موتها اسم مهسا الفارسي. ليصبح اسمها المحظور رمزاً ضد جريمة تُنفذ مقابل قطعة قماش سوداء صارت رمزاً لشرعية الاستبداد.

في مشرقنا العاثر، إذ تقص المرأة شعرها وتحرق منديلها، فإنها تكفر! تكفر لا بتدينها، ولا باحترامها لذاتها وجسدها، بل تكفر بعبودية سياسية مريرة جعلت من خرقة سوداء أساس الشرعية للنظام السياسي الذكوري. فبعد أن سرق النظام رمز تدينهن، ليحوله أداة للقمع، تقول لهم جينا "إنكم لملوك عراة" أخلاقياً وانسانياً.

لم تُرد جينا يوماً، أن تكون بطلة، لكنها بعفوية أنوثتها النبيلة، صارت رمزاً للاحتجاج السياسي ليس في شوارع طهران ومدن إيران فحسب، بل وفي العالم بأسره.

كسرت خصلات جينا العقد الاجتماعي المؤسس لسلطة المؤسسة الدينية. وإذ يخنع الرجال حتى الحضيض لهرمية الاستبداد، يطفح الكيل بالنساء من ذكورة تخلت، وغرقت في لعبة الاستبداد، فلا عادت تحمي مستقبل بلادها ولا أبنائها ولا نساءها من قرون الظلام.

في زيارتي الأولى لطهران، اكتشفت كم هي غشيمة صورتنا النمطية عن هذا الشعب العريق. صورة نمطية شيطانية في العداء وصورة نمطية غبية في الموالاة والتأليه والقدسية. فإضافة للبعد الثري للثقافة، ثمة مجتمع وحركة نسائية احتجاجية وطنية أحنيت رأسي لها. شُدهت لقوة الشكيمة والثقة والنخبوية الرفيعة لبعض من أهم النساء ممن عرفت، يقاتلن لكسر قضبان السجن الذكوري. كان الحديث يتم عن النضال للارتقاء بقيمة المرأة عن تشيّئها وسلعنة جسدها (تحويله لمجرد سلعة)، وكان النقاش والعمل أكثر تقدماً من العديد من الدول العربية في عمقه وتجذره وحكمته.

منذ عام 1895 وفي أولى إرهاصات النضال النسوي الإيراني، تقترح الكاتبة الساخرة بيبي خانوم أستار آبادي في كتابها "عيوب الرجال"، أن يتوقف الرجال عن محاولة تعليم النساء بل أن يستثمروا في بناء أنفسهم". ومنذ بداية القرن العشرين، خاضت المرأة الإيرانية، حرب مواقع مريرة، إلى أن قام شاه إيران بإصلاحات الحقوق المدنية، وعين أول امرأة عام 1968، فاروخرو بارسا وزيرة للتعليم، وفتح باب القضاء، ثم مُنحت المرأة حقوقاً متساوية في الزواج والطلاق، وحق الحضانة، ورفع سن زواج النساء إلى 18 عاماً، وألغى عملياً تعدد الزوجات، ومن دون كثير من الضجيج صار الإجهاض متاحاً.

كان أول شيء فعله الخميني عام 1979، إلغاء قانون الأحوال الشخصية، وعاقب مخالفة الحجاب بالجلد، وخفض سن الزواج للبنات حتى التاسعة، واستعيدت عقوبة الرجم، وأجيز تعدد الزوجات، والزواج الموقت، وأقر "حق" الرجال في الطلاق التعسفي ومنع توظيف زوجاتهم وحضانة الأطفال. وفي النهاية تم إعدام فاروخرو بارسا.
فأي إنجازات تحررية وعظيمة لهذه الثورة الإسلامية الإيرانية؟

في مواجهة ذلك، عملت نساء الطبقة الوسطى، من فوق التشادور ومن تحته، على إيقاظ المكانة السياسية للنساء. فجمع مليون توقيع لإلغاء القوانين التمييزية عام 2006 في طهران على يد نوشين أحمدي خراساني وبارفين أردلان اللتين سجنتا ثلاث سنوات لـ"تهديد الأمن القومي".

اما اليوم، فيتعامل نظام الملالي مع جيل Z لما بعد الثورة ليخوض منذ عقد حرباً مع نفسه. لم يعد جيل Z خجولاً، ولا خانعاً كما في فترة "الإصلاح". وها هي المرأة الإيرانية تشعل حجابها أمام الشرطة، بعد أن اكتفت بالبكاء على رفاق صفها المقتولين عام 2019، بل تنقذ صديقها الطالب بركلة عالية لمرتزقة النظام المذهولين، وتصرخ "الموت للديكتاتور!". بل ها هي تتجرأ وتطيح بعمائم الملالي في الطريق، في تهكم صارخ من سلطة بلغت حد الاهتراء.

نعم، هذه المرة، كل شيء مختلف.
هذه المرة، وبعكس احتجاجات 2019 ورغم كثافة قوات الأمن تجاوزت حاجز الخوف، وانتقلت إلى طهران. وهذه المرة فشلت السلطات في حصر الحراك في كردستان. نساء تبريز صرخن: "أذربيجان مستيقظة، إنها تقف مع كردستان"، وهذه المرة، أيضاً بعد أن قتل "الحرس الثوري" أكثر من 40 مواطناً من الطائفة السنّية في محافظة سيستان وبلوشستان، صرخت النساء في مشهد: "مشهد، زاهدان، حياتي من أجل إيران". هذه المرة أيضاً، وضعت المعارضة الخارجية أغلب خلافاتها جانباً، وعزلت المترددين. هذه المرة صار الأكراد يقاتلون الدولة الإسلامية في سوريا، كما في إيران. وهذه المرة مختلفة: فانتفاضة 2009 أسستها الطبقة الحضرية والمتوسطة، وانتفاضة 2019 تزعمتها الطبقة العاملة، أما الآن، فقد شملت أنحاء البلاد، وكل مجموعة عرقية، ومختلف الطبقات، وبخاصة المتعلمين، والاغنياء.

وهذه المرة أيضاً لم يوفق النظام في تجميع تظاهرات مضادة. وهذه المرة لم تتورط الشخصيات الدينية والمدنية بإدانة الانتفاضة. وهذه المرة لا تقود النساء ثورة في المجتمع من أجل المزيد من الأجور، بل لإنهاء النظام. "الموت للديكتاتور!" هو شعار يمنحهن قوة غير عادية. فعبودية المرأة هي الحصن الحصين للدكتاتوريات الدينية، بل وغير الدينية. ليعلمنا التاريخ أن الحركات التي تشارك النساء في زعامتها تفتح طريقاً أفضل للتحول الديموقراطي المستدام. وهذه المرة مختلفة تماماً، اذ لم يتجرأ النظام على إقحام الباسيج الخبير في قمع الاضطرابات في إيران. فقتل المدنيين في سوريا والعراق ليس مثل قتل المدنيين في طهران.

أضفت النساء مرونة فائقة على هذه الاحتجاجات، وحددن نغمتها، وأوجدن طرقاً مبتكرة للتعبير عنها، وحين شارك الرجال، فباسم جينا أميني. لكن الحرارة الحقيقية لهذه الحركة تأتي من عقود من القمع واقتصاد السقوط الحر والفساد الجماعي ونفاق النخبة الحاكمة.
لا يعني كل ذلك أن هذه الموجة من الحراك الإيراني ستنتهي بالنصر الوشيك، ما يحصل هو تراكم عميق جداً كالجمر تحت التراب لتفاقم الشروخ وتتفكك البنية وهذا من أهم دلالات صعود الحركة النسوية. اذ يقف النظام والأجهزة الإيرانية، مرتبكان بشدة أمام هذه الظاهرة التي تسقط في يدهم وتهدد بقوة بنية السلطة.

من جديد، ورغم عظمة الحراك النسوي الإيراني، من المؤسف، مشاهدة الموقف الفكري والإعلامي العربي. وبعيداً من تطبيل مؤيدي نظام الملالي بالمؤامرة الكونية، بل وعلى الضفة المقابلة، يجري التعامل ببرودة مع الحراك طالما أنه لن ينتصر غداً. ومن دون محاولة لاستنباط عمق الحركة النسائية ودلالاتها التحررية، ولا التضامن بالقدر الكافي مع نساء وشعب إيران.

أما أنا فأقول: المجد لجنيا أميني ولخصلة ستهز عروشاً.



تعليقات القراء

لا يوجد تعليقات


أكتب تعليقا

تنويه :
تتم مراجعة كافة التعليقات ،وتنشر في حال الموافقة عليها فقط.
ويحتفظ موقع وكالة جراسا الاخبارية بحق حذف أي تعليق في أي وقت ،ولأي سبب كان،ولن ينشر أي تعليق يتضمن اساءة أوخروجا عن الموضوع المطروح ،او ان يتضمن اسماء اية شخصيات او يتناول اثارة للنعرات الطائفية والمذهبية او العنصرية آملين التقيد بمستوى راقي بالتعليقات حيث انها تعبر عن مدى تقدم وثقافة زوار موقع وكالة جراسا الاخبارية علما ان التعليقات تعبر عن أصحابها فقط ولا تعبر عن رأي الموقع والقائمين عليه.

- يمكنك تسجيل اسمك المستعار الخاص بك لإستخدامه في تعليقاتك داخل الموقع
الاسم :
البريد الالكتروني :
اظهار البريد الالكتروني
التعليق :
رمز التحقق : تحديث الرمز
أكتب الرمز :

إقرأ أيضاً

رياضة وشباب

محليات