شاهد زور ..


كان بنك تنمية المدن والقرى هو الجهة المسؤولة عن الجزء المتعلق بالبلديات ضمن مشروع تطوير البنية التحتية في المناطق الفقيرة ... وقد كان هذا الجزء يتعلق بتوفير بنى تحتية أساسية في معظم بلديات المملكة أهمها فتح وتعبيد شوارع باستخدام أسلوب الرصفة الحجرية وهو أسلوب قديم كان يتم اتباعه في إنشاء الشوارع منذ أيام الانتداب البريطاني ... تم تَبَنيه في المشروع لتوفير فرص عمل لأبناء المناطق المستهدفة ... نظراً لأن تنفيذه يتم من خلال العمال بدلاً من الأساليب الحديثة التي تعتمد على المعدات والآليات ... كذلك تَضَمَّنَ المشروع توفير وحدات إنارة خارجية يتم تركيبها على أعمدة الكهرباء في الشوارع ... تم طرح ثلاثة عطاءات لتوريد وتركيب وحدات الإنارة ... تمت احالة هذه العطاءات على شركة واحدة من خلال لجنة العطاءات الخاصة في البنك التي كنت عضواً فيها ممثلاً عن وزارة التخطيط ... إلا أن الشركة قد قامت بتوريد وحدات إنارة صَدِأة مخالفة للمواصفات وللعينة الموافق عليها ... مما دَفَعَ بنك التنمية إلى رفض هذه الوحدات .... تمت مصادرة كفالات حسن التنفيذ المقدمة من الشركة وتم طرح عطاء جديد لتوريد وحدات مطابقة للمواصفات وتحميل الشركة المخالِفة الكلف الإضافية التي ترتبت على ذلك.

كانت علاقتي جيدة مع المعنيين في البنك وخاصة مع مديره العام د. إبراهيم النسور الذي تولى إدارته خلفاً للدكتور حمد الكساسبه ... وقد رافقت د. النسور في زيارة لمدينة بريمن في ألمانيا لمدة أسبوع ضمن وفد ضم أيضاً أمين عام وزارة البلديات باسم الخطيب ورؤساء بلديات أيل والشعلة ودير علا ... كان برنامج الرحلة يتضمن أيضاً زيارة مدينة لندن في بريطانيا قبل أن يتم إلغاؤها في اللحظة الأخيرة بسبب عدم موافقة وزيرة البلديات حينها د. أمل الفرحان على السماح لكل من مدير البنك وأمين عام الوزارة التغيب عن العمل فترة أطول ...

أثناء رحلة العودة جلس بجانبي في الطائرة م. سليمان النعيمات رئيس بلدية أيل ... وقد شكا لي بأن شوارع البلدية حالتها سيئة وبحاجة للتعبيد وأن الوضع المالي الصعب للبلدية لا يسمح بذلك ... فسألته عن كلفة تعبيد الشوارع فقال حوالي خمسين ألف دينار ... فقلت له زودني بكتاب من البلدية بهذا المضمون وإن شاء الله خير ... وقد استطعت خلال أيام بعد عودتي من السفر الحصول على موافقة الوزير على تخصيص المبلغ المطلوب للبلدية ...

كنت أجلس في مكتبي في وزارة التخطيط ذات يوم من أيام شهر حزيران عام 2006 ... عندما دخلت هناء سعد زميلتي من مديرية الموارد البشرية وأغلقت الباب خلفها ... أفزعتني الخطوة وقمت عن مكتبي وتوجهت إليها قائلاً .... خير ست هنا شو في .... ردت بصوت منخفض ... في معي إلَكْ استدعاء من المدعي العام بتهمة شهادة الزور .... شو القصة ...
أجبت وقد صعقتني المفاجأة ... شهادة زور ... أنا ... ما بعرف ... تناولتُ الكتاب منها علني أجد فيه شيئاً يوضح الأمر .... إلا أنني لم أجد ....
يا الله أنا متهم بشهادة الزور ... أي بالكذب المتعمد ... أيُّ افتراءٍ هذا ... فلا أخلاقي ولا تربيتي ولا معتقداتي تسمح لي بذلك ... ولا أذكر على مدى ما طويت من أيام وليالي أنني قد كذبت على أي كان ... لا كذبة بيضاء ولا سوداء ولا من أي لون ...

شعرت بالانزعاج في البداية ثم انتابني قلق شديد من التهمة الموجهة لي والتي تمس الشرف والأخلاق ... حاولت أن استرجع ذاكرتي لعلي اهتدي لخيط يدلني على حيثيات الموضوع فلم استطع .... وقد دفعني الارتباك والقلق إلى الاتصال بزميلة تعمل قاضياً في محكمة البداية لاستشارتها في الموضوع فسألتني عن اسم المدعي العام الوارد في الاستدعاء فأخبرتها ... فوعدتني بالاتصال به وإعلامي ... لتخبرني لاحقاً بأنه قد أبلغها بأن الموضوع بسيط دون أن يعلمها بأية تفاصيل ...

لم تفلح تطمينات زميلتي القاضي في تبديد القلق الشديد الذي انتابني ... قلق استمر حتى صباح اليوم التالي عندما دخلت مكتب المدعي العام في قصر العدل في شارع الملك حسين ... لأعلم بأن الموضوع يتعلق بشهادة أَدْلَيْتُ بها في المحكمة قبل أكثر من سنتين في الدعوى التي رفعتها الشركة التي وَرَّدَتْ وحدات الإنارة المخالفة والصَدِأَة التي رفضها بنك التنمية ... دعوى طَلَبَتْ بموجبها إلزام البنك بدفع التعويض عن الربح الفائت والأضرار التي لحقت بها نتيجة رفضه لوحدات الإنارة المخالفة ... وقد طَلَبَتْ الشركة المتضررة وقتها شهادة أربعين شخصاً من ضمنهم أعضاء لجنة العطاءات الخاصة وأعضاء اللجان الفنية ... يومها تم طلبي للشهادة مع خمسة زملاء آخرين اثنين منهم من موظفي بنك التنمية وواحد من أمانة عمان الكبرى وآخر من شركة الكهرباء الأردنية والخامسة زميلة من دائرة اللوازم العامة ... استمَعَتْ القاضي مَلَكْ غزال إلى الشهادات الست وقررت رد الدعوى دون الانتظار لسماع بقية الشهود .. فما كان من الشركة إلا أن تابعت مراحل التقاضي الأخرى والتي تم ردها أيضاً من قبل كل من محكمتي الاستئناف والتمييز ليكتسب الحكم الدرجة القطعية ...

أُسْقِطَ في يد صاحب الشركة ... وطلب من محاميه النصح والمشورة ليأتي الرد بأن السبيل الوحيد لإعادة المحاكمة هو الطعن بصحة شهادة الشهود .... ليعكف المحامي على مراجعة التفاصيل الدقيقة لمضمون هذه الشهادات ... وليكتشف أن الشهود قد أقحموا أنفسهم بالحديث عن تفصيلة فنية دقيقة خارج اختصاص معظمهم تتعلق بمدى ملائمة فتحة وحدة الإنارة لِقُطُر ماسورة الذراع المعدني الحامل لهذه الوحدة وأن إفادتهم بهذا الخصوص لم تكن دقيقة تماماً ... بناء على ذلك سعت الشركة لاستغلال هذه الثغرة ورفع قضية شهادة الزور على الشهود الستة ....

تنفست الصعداء وتبدد الكثير من القلق لدي عندما علمت من المدعي العام حيثيات التهمة الموجه لي ... فالموضوع يتعلق بشركة حاولت بالخداع والاحتيال توريد وحدات إنارة صَدِأَة ومخالفة للمواصفات ... مما يعني أن المنطق يحتم رد الدعوى من قبل المدعي العام وأن لا يتم تحويلها للمحكمة ...
أخذ المدعي العام إفادتي ... راجعتها بعد طباعتها ووقعت عليها وغادرت متوقعاً أن يرد المدعي العام الدعوى ... وأن تنتهي القضية عند هذا الحد ... لأفاجأ بعد عودتي للوزارة باتصال من زميلتي القاضي التي استشرتها في الموضوع ... حيث بادرت لدى سماعها صوتي بالقول الحمد لله على السلامة ... رددت فوراً الله يسلمك خير ... قالت كنت خايفه المدعي العام يوَقْفَكْ ... بس ما حبيت أَخَوْفَك ....
لم تقلقني مكالمة القاضي كثيراً فقد كنت متأكداً أن لا قضية في الدعوى وأن الأمور ستنتهي على خير ...

نسيت الموضوع سريعاً في غمرة انشغالاتي الكثيرة والهم الكبير الذي كان يقلقني نتيجة فحوصات المثانة الدورية ... إلى أن استلمت ذات يوم في أواخر شهر تموز إشعاراً من محكمة جزاء عمان لحضور جلسة المحاكمة الأولى عن تهمة شهادة الزور التي ستعقد أوائل شهر أيلول ....
كانت صدمتي بلا حدود ... فقد عملت بشرف واخلاص وأمانة ولم أكن طيلة خدمتي الطويلة في القطاع العام أسعى لمغنم شخصي على حساب المصلحة العامة ... لم أكن انتظر شكراً أو امتناناً أو مكافأة على ذلك من أيٍ كان .... أما أن تكون النهاية تحويلي للمحاكمة وعن تهمة مخلة بالشرف .... فهذا آخر ما كنت أتوقعه ولا حتى في أشد الكوابيس قتامة وأحلكها ...

كانت ثقتي في القضاء كبيرة ... وأن القضية سوف تُرَدُ في النهاية .... لكنني لم استطع أن أصرف عن ذهني التساؤلات التي كثيراً ما كانت تداهمني ... ماذا لو تمت إدانتي ... سيكون السجن مصيري ... والطرد من الوظيفة بلا أية حقوق أو تعويض ... ليس هذا فحسب ... أي عار سيلحق بي وبأبنائي وعائلتي ... عندما أصبح من أصحاب السوابق والجنح المخلة بالشرف ...
خفف عني بعض الشيء وجود الشهود الخمسة الآخرين معي في نفس القارب ... إضافة إلى الموقف المُشَرِّف الذي اتخذه بنك تنمية المدن والقرى ومديره العام د. ابراهيم النسور بتبني القضية وتوكيل محامي مخضرم للدفاع عن المتهمين وتحمل كافة الكلف المترتبة على ذلك مهما بلغت مراحل التقاضي ....

ذهبت إلى قصر العدل في العبدلي لحضور الجلسة الأولى للمحاكمة في الموعد المحدد ... كنت حريصاً على أن لا يعلم أحد في الوزارة بوجهتي ... كانت هي المرة الثالثة لي لدخول المحكمة ... إلا أنها الأولى لي كَمُتَّهَم ... صعدت إلى الطابق الثاني ... بحثت بين الحشود المزدحمة عن قاعة المحاكمة ... وجدتها أخيراً ... ووجدت عندها زملائي الخمسة الآخرين .... ابتسمنا بأسى ... دخلنا القاعة ... انتظرنا قليلاً .... دخل القاضي ... وقف الجميع احتراماً ... فَتَحَ ملف القضية ... تأكد من وجود المحامي وممثل الادعاء العام ... نادي علينا الواحد تلو الآخر ... سأل كل منا هل أنت مذنب ... جاءت الإجابات متتابعة لا لست مذنباً ...

بدأت الجلسة الأولى للمحاكمة ... وتبعتها عشرات الجلسات على مدى أكثر من سنتين ... شاهدٌ حَضَرَ وشاهدٌ غابَ وبَيِّنَةٌ تم قبولها وأخرى تم رفضها ... تَغَيَّرَ القاضي مرتين ... كل ثلاثة أسابيع أغادر الوزارة وأتوجه للمحكمة ... لا لشيء إلا لأن متعهداً أراد التكسب بممارسة الغش والتلاعب بالمواصفات ... ولما تم التصدي له لمنعه من المضي في غَيِّهِ ... استغل النصوص القانونية وما وجده من الثغرات لمعاقبة من حرموه من ذلك ...

أصدرت المحكمة حكمها أخيراً وقضت بعدم مسؤوليتنا عن تهمة شهادة الزور... قرار لم نقبل به ولم يقبل به صاحب الشركة أيضاً ... فنحن نريد البراءة وليس عدم المسؤولية ... وهو يريد إدانتنا ... قدم كلانا طلباً للاستئناف ... لترد محكمة الاستئناف كلا الطلبين وتسدل الستار على هذه القضية الغريبة التي عكست حجم الشر الكامن في بعض النفوس التي لا تتردد في السعي لتدمير سمعة أشخاص أبرياء ورميهم في السجن من أجل اكتساب حَفْناتٍ من الدنانير بالغَيِّ والضلال .... لكن شمس الحق بازغة لا محالة مهما طال ليل الباطل واشتدت قتامته ...



تعليقات القراء

لا يوجد تعليقات


أكتب تعليقا

تنويه :
تتم مراجعة كافة التعليقات ،وتنشر في حال الموافقة عليها فقط.
ويحتفظ موقع وكالة جراسا الاخبارية بحق حذف أي تعليق في أي وقت ،ولأي سبب كان،ولن ينشر أي تعليق يتضمن اساءة أوخروجا عن الموضوع المطروح ،او ان يتضمن اسماء اية شخصيات او يتناول اثارة للنعرات الطائفية والمذهبية او العنصرية آملين التقيد بمستوى راقي بالتعليقات حيث انها تعبر عن مدى تقدم وثقافة زوار موقع وكالة جراسا الاخبارية علما ان التعليقات تعبر عن أصحابها فقط ولا تعبر عن رأي الموقع والقائمين عليه.

- يمكنك تسجيل اسمك المستعار الخاص بك لإستخدامه في تعليقاتك داخل الموقع
الاسم :
البريد الالكتروني :
اظهار البريد الالكتروني
التعليق :
رمز التحقق : تحديث الرمز
أكتب الرمز :

إقرأ أيضاً

رياضة وشباب

محليات