جَذْوَةٌ مِنْ أَمَل ..


بحلول عام 2004 تم استكمال تنفيذ مشروع تطوير البنية التحتية في المناطق الفقيرة ... قام البنك الدولي بإرسال بعثة لتقييم أثر المشروع في تحسين الظروف المعيشية لسكان المناطق المستهدفة ... صَدَر تقرير البنك في كانون أول 2004 والذي خَلَصَ إلى أن المشروع قد نجح في تحقيق الأهداف التي نُفِّذَ من أجلها ...

تابعت مهامي بعدها مسؤولاً عن مشاريع البنية التحتية والإسكان التي يتم تنفيذها ضمن "برنامج تعزيز الإنتاجية" ... وقد سنحت لي الفرصة للقيام بعدد من الرحلات الخارجية المرتبطة بطبيعة عملي حيث قمت بزيارة كل من سوريا وألمانيا وكينيا ...

كانت زيارة نيروبي في كينيا التي تمت أواخر شباط وأوائل آذار من عام 2005 للمشاركة في ورشة عمل عن مُلكية الأراضي مختلفة عن غيرها من الزيارات ... فهي قد حققت رغبة بقيت دفينة في نفسي منذ الأيام الأخيرة لي في مؤسسة الإسكان قبل نحو ست سنوات عندما تمت دعوتي لحضور ورشة عمل في نيروبي لم أتمكن من تلبيتها بسبب تزامن موعدها مع موعد انتقالي إلى وزارة التخطيط ... إضافة إلى أنها المرة الأولى التي أزور فيها بلداً أفريقي ...
توجهت إلى نيروبي عن طريق دبي التي قضيت فيها ليلة واحدة عند قريب لي ... تابعت السفر بعدها إلى القارة الأفريقية لنتوقف في مطار عنتيبي في أوغندا لبعض الوقت ... وصلت نيروبي أخيراً ... ركبت تكسي من المطار ..... دُهِشْتُ عندما رأيت مقود السيارة على اليمين وأن القيادة على الجانب الأيسر من الطريق ...

تم عقد ورشة العمل في منتجع ومحمية طبيعية كانت الغرف فيها على هيئة أكواخ منفصلة ... وحتى تستطيع النوم بهدوء وسلام كان عليك أن تغطي كامل السرير بقماش "التول" لحماية وجهك وجسمك من الناموس ...

انتهت أعمال الورشة وقبل المغادرة حجزت مع أحد المكاتب المتخصصة للقيام برحلة سفاري إلى الأدغال ... حاولت أن اصطحب معي أحداً من المشاركين في الورشة إلا أنني لم أنجح في ذلك ... وصلت المكتب وفوجئت أنني الوحيد الذي سيذهب في تلك الرحلة ذلك اليوم .... كانت الرحلة من خلال سيارة جيب "كَشِفْ"... جلس السائق خلف المقود وأنا وركبت في الجزء الخلفي واقفاً ... وصلنا منطقة الأدغال وتجولنا ما يزيد عن ساعة من الزمن .... شاهدت مختلف أنواع الحيوانات التي تتجول بِحُرِّيةٍ في الغابة ... فيلة زرافات قرود حُمُرٌ وحشية وحيد القرن ... بيد أننا لم نصادف أسوداً أو نموراً ... كذلك لم أشاهد طرزان فتى الأدغال الذي قرأنا عن مغامراته الكثير أيام الطفولة والصِبا .... فاجأنا أثناء الجولة قطيع من الثيران البرية الضخمة يتحرك نحونا وخلال ثواني كنا في وسط القطيع ... تجمد الدم في عروقي ... تَسَمَّرتُ في مكاني ... قبضتُ بقوة على الماسورة المعدنية المثبتة أمامي .... ماذا لو هاجمنا لحظتها أحد الثيران بقرونه الضخمة واستنصر له رفاقه .... أي مصير سألقاه في هذه البقعة من العالم .... تنفست الصعداء وآخِر الثيران يتجاوزنا بسلام ...

بعد العودة من نيروبي بأيام قليلة شعرت بوعكة خفيفة ... لم أُعر الموضوع الكثير من الاهتمام ... إلا أن استمرارها قد دفعني لمراجعة عيادات مستشفى الجامعة الأردنية ... تم تشخيص الحالة على أنها التهاب بسيط في المسالك البولية ... لم تختفي الآلام برغم انتظامي في تناول العلاج ... راجعت بعد أسبوعين لآخذ علاج آخر ... لم تتحسن حالتي .... رجعت إلى الطبيب مُجَدَّدَاً شاكياً من عدم جدوى الأدوية التي تناولتها .... عندها قال الدكتور يبدو أنك شخص قليل الصبر لذا سأختصر عليك المراحل بعمل تنظير للمثانة ... وأضاف قائلاً شغلة بسيطة ما بتوخذ ربع ساعة وبعدها بترَوِّحْ على طول بس هاي بدها تخدير كامل .... لم أتوقف كثيراً عند ما قاله الطبيب واعتبرت أن ذلك مجرد فحص طبي مثل تحاليل المختبر أو فحص الأشعة ...

بعدها بيومين أو ثلاثة راجعت المستشفى .... استكملت اجراءات الدخول ... لأجد نفسي بعد ذلك بوقت قصير مستلقياً على طاولة متحركة يدفعها ممرض تتبعه زوجتي باتجاه غرفة العمليات ... شعرت بالرهبة والخوف لدى دخولي غرفة عمليات للمرة الأولى في حياتي .... تبادل معي طبيب التخدير بضع كلمات باسماً وهو يُفْرِغُ الحقنة في جسمي قبل أن أغيب عن الوعي تماماً ...

لم أدري كم مضى من الوقت عندما بدأت استعيد الوعي في غرفة الإنعاش ... لمحت وجه زوجتي تقف قرب السرير ... لم تكن الصور واضحة في البداية .... ورويداً رويداً أصبحت الأمور أكثر وضوحاً .... الوضع غريب وغير متوقع ... برابيش وحقن وأكياس بلاستيكية موصولة بجسدي ... ما هذا كله ... ما الذي جرى ... حاولت أن استفهم من زوجتي عما حصل ... لم أظفر بشيء سوى أن الطبيب قد قرر إدخالي إلى المستشفى ...

أصابتني الحيرة التي تحولت إلى قلق ثم ذهول .... تأخر مرور الطبيب الذي كنت انتظره على أحر من الجمر ... ليصل أخيراً ويُقْبِلَ علي باسماً ومبتهجاً .... يا زلمه ربنا بحبك ... خير يا دكتور شو في ... مش حكيتلي شغلة بسيطة وبِتْرَوِّحْ شو اللي صار أجبته فَزِعَاً .... أشكر ربك يا رجل .... لقينا شوية "ثواليل" ... ثم أضاف بلهجته الحورانية ... "وقحفناهن من شروشهن" ... لم أفهم ولم أستوعب ما سمعته .... هل هذا إشي خطير ... سألته ... أجاب كان رح يكون خطير لو ما اكتشفناهن اليوم وقحفناهن .... وين الخطورة سألت مذهولاً .... هذا نوع من أنواع الأورام السرطانية أجاب ... أخذنا عينة للفحص وأرسلناها للمختبر ... لم أصدق ما سمعت وانفجرت في وجهه مُنْكِراً ... شو بتقول سرطان .... أنا ما عندي سرطان .... بعدين كيف عرفت إنه سرطان ولِسَه ما طلعت نتيجة العينة ... رد ببرود هذا شغلي وأنا بعرفه كويس .... بعدين ما تخاف هذا في مراحله الأولى ثم أدار ظهره ومضى ...

خرجت من المستشفى بعد أن قضيت فيه ليلتين كانتا الأصعب في حياتي على الإطلاق ... كنت ما زلت تحت تأثير الصدمة فأنا مريض بالسرطان .... تهاوت في لحظات قيمة كل شيء في حياتي ... وتبخرت كل الأهداف والتطلعات ... فَقَدَتْ الأشياء ألوانها الزاهية .... كل شيء بدا رمادياً أو أسود اللون ... لم يعد يشغلني أو يهمني شيء باستثناء الحالة التي وجدت نفسي فيها .... لم يكن أحد يعلم بالموضوع سوى زوجتي ثم أخي ابراهيم في مرحلة لاحقة ... كانت حالتي النفسية برغم تطمينات الطبيب في أدنى مستوياتها ... كنت أُمني النفس بأن ما قاله الطبيب هو حُكْمٌ متسرع وأن نتيجة المختبر سوف تثبت عكس ذلك ... أمَلٌ تشبثت به حتى موعد المراجعة بعد أسبوع عندما تأكد لي أن الأمر يتعلق بأنسجة سرطانية ... وأن ذلك لا يتطلب علاجاً كيماوياً وإنما فحص دوري للتأكد من عدم ظهور الأنسجة الخبيثة مرة أخرى ... فحصٌ يجب المواظبة على اجرائه لمدة خمس سنوات .... مرة واحدة كل ثلاثة شهور في السنة الأولى وكل ستة شهور في السنة الثانية ومرة واحدة فقط في كل من السنوات الثلاث اللاحقة ...

برغم الوضع النفسي السيء فقد عزمت على مواصلة مشوار الحياة كما في السابق ما استطعت إلى ذلك سبيلا وقد كنت حريصاً على أن لا يتراجع أدائي في العمل قيد أنملة ولا أن يشعر أولادي بأي تغير مهما كان ضئيلاً في تصرفاتي معهم أو أدائي لواجباتي تجاههم ....

كانت زوجتي في تلك الفترة حاملاً بمولودة أنثى وكانت في آخر مراحل الحمل وهو ما ضاعف من شعوري بالألم والانكسار ... ما ذنب هذه الطفلة أن تعيش يتيمة إذا غادرْتُ هذه الحياة مبكراً ... كنت قد نويت منذ شهور الحمل الأولى تسمية المولودة الجديدة "مرح" ... أما بعد تلك التطورات فقد خطر لي في لحظة ضعف أن أغير الاسم إلى "أمل" ليعكس حالة الرجاء والتشبث بالحياة التي سيطرَتْ عَلَيَّ بعدها ... إلا أنني سرعان ما عدلت عن فكرة التغيير تماماً ..

جاءت مرح إلى هذه الدنيا قبل ثلاثة أسابيع من إجراء فحص التنظير الأول ... كانت الأيام تمر سريعة ومع مرورها يرتفع منسوب الخوف والقلق ... والذي يبلغ أوجه ساعة الدخول إلى غرفة العمليات وتَلَقي حقنة التخدير ... قصدت المستشفى لإجراء عملية التنظير ... بعد ذلك بحوالي ساعة واحدة كنت في غرفة الإنعاش أستعيد شيئاً من الوعي بعد انتهاء العملية ... تحسست جسمي فوجدته خالياً من أية برابيش ولا أكياس ولا حقن ... حمدت الله وتفاءلت بأن النتيجة جيدة وأن الورم لم يظهر ثانية وهو ما أكده الطبيب لاحقاً ... ليغمرني الفرح وترتفع معنوياتي وأعود مبتهجاً مقبلاً على الحياة ... شعور يستمر أسبوعين أو ثلاثة يبدأ بعدها بالتلاشي تدريجياً مع الاقتراب من موعد الفحص التالي حيث تبدأ مشاعر الخوف والقلق بالسيطرة من جديد .... دورة كاملة من المشاعر الايجابية والمشاعر النقيضة تكررت لدي خمس مرات على مدار سنة كاملة ونصف السنة قبل أن يحدث طارئ جديد يعيد خلط الأوراق من جديد ...

في شهر آذار من عام 2007 بدأت أشعر بآلام في البطن راجعت على أثرها أخصائي الجهاز الهضمي في مستشفى الجامعة الأردنية ... أخذت العلاج الذي وصفه الطبيب دون أن أشعر بأي تحسن ... طلب الطبيب بعدها اجراء صورة تلفزيونية لتشخيص الحالة بشكل دقيق ... صورة قامت بإجرائها طبيبة متخصصة .... بادرت بسؤالها عن النتيجة بعد انتهاء التصوير .... لتجيب بعد صمت وتردد .... شفت شغلة مش عاجبيتني في الكبد ... خير يا دكتورة شو في طمنيني في اشي بخوف ... مش عارفه هاي بدها صورة رنين مغناطيسي .... أجابت وهي تعيد النظر في الشاشة أمامها ...

أُسقط في يدي وتملكني الخوف الشديد ... ولسان حالي يقول اذن هو السرطان اللعين قد زحف من المثانة إلى الكبد ... يا الله رحمتك ولطفك ...

لم يكن لدي خيار سوى إجراء صورة الرنين المغناطيسي التي لم تكن تخيفني فقط وانما تتعبني أيضاً ... أدخَلَني فَنِّيُ التصوير الشاب ضمن جهاز التصوير وأكد على ضرورة الالتزام بالتعليمات .... مرت الدقائق بطيئة وثقيلة علي .... بعدها سمعت الشاب يقول خلص سلامتك ... سارعت بعدها للسؤال طَمِّني كيف الصورة ... أجاب ممتازة كله تمام ... أعدت السؤال كيف الكبد ... تمام ما شاء الله .... سألته أمتأكد أنت أجاب نعم ... قلت ولكنك لست طبيباً ... هز رأسه موافقاً وأضاف صحيح بس بعرف بالخبرة والممارسة ... قفزت من مكاني فرحاً وكدت أحضنه وأقبل وجنتيه ... وخرجت على الفور من المستشفى مُسرعاً لا ألوي على شيء ولم أعد له مرة ثانية بعدها لا بخصوص المثانة ... ولا بشأن الكبد ....



تعليقات القراء

لا يوجد تعليقات


أكتب تعليقا

تنويه :
تتم مراجعة كافة التعليقات ،وتنشر في حال الموافقة عليها فقط.
ويحتفظ موقع وكالة جراسا الاخبارية بحق حذف أي تعليق في أي وقت ،ولأي سبب كان،ولن ينشر أي تعليق يتضمن اساءة أوخروجا عن الموضوع المطروح ،او ان يتضمن اسماء اية شخصيات او يتناول اثارة للنعرات الطائفية والمذهبية او العنصرية آملين التقيد بمستوى راقي بالتعليقات حيث انها تعبر عن مدى تقدم وثقافة زوار موقع وكالة جراسا الاخبارية علما ان التعليقات تعبر عن أصحابها فقط ولا تعبر عن رأي الموقع والقائمين عليه.

- يمكنك تسجيل اسمك المستعار الخاص بك لإستخدامه في تعليقاتك داخل الموقع
الاسم :
البريد الالكتروني :
اظهار البريد الالكتروني
التعليق :
رمز التحقق : تحديث الرمز
أكتب الرمز :

إقرأ أيضاً

رياضة وشباب

محليات