يتيم على مشارف الخمسين ..


المهندس عادل بصبوص

تركت وفاة والدي المفاجئة فراغاً كبيراً في قلوبنا .... كما تركت فراغاً مماثلاً في بيت العائلة حيث كان يقيم .... لم يبقى في البيت بعد وفاته سوى أمي وأصغرنا خليل الذي كان قد تزوج منذ ثلاثة سنوات فقط ... كانت أمي أكثر من تأثر بذلك ... فقد كان والدي الجليس والونيس لها بعد أن أصبحت فيه مُقْعَدَةً لا تغادر سريرها أثر خطأ طبي ارتكبه طبيب مشهور ... الأمر الذي حتم علينا أن نزيد من تواجدنا حولها حتى نملأ جزءاً من الفراغ الكبير الذي خلفه غياب زوجها ورفيق حياتها ....

كانت والدتي تعاني منذ سنوات من آلام مبرحة في الظهر أدت بمرور الأيام إلى صعوبة في المشي ... معاناة صعبة وقاسية جعلتها تتردد على الكثير من الأطباء المتخصصين كان آخرهم ذلك الطبيب الذي تسبب بتدمير حياتها ...
كان الطبيب متخصصاً في جراحة العظام والعمود الفقري سبق له أن تولى عمادة كلية الطب في الجامعة الأردنية ... وكان ذائع السمعة والصيت ... قادنا حظنا السيء ذات يوم من أيام شهر حزيران عام 1999 إلى عيادته المسائية في مستشفى الجامعة الأردنية .... طلب منها أن تسير أمامه جيئة وذهاباً ثم قام بمعاينتها على سرير الفحص وأوعز بعد ذلك بإجراء تحاليل وصور شعاعية ... ليخبرنا بعدها بأن الموضوع قابل للشفاء التام من خلال إجراء جراحة في العمود الفقري بعدها سوف تختفي الآلام وتعود لها القدرة على المشي بشكل طبيعي ... بترجعي تمشي زي "الرهوان" هكذا قال ... ولما سألتُهُ عن مخاطر مثل هذه العملية في حال فشلها ... أجابني لا شيء ... يبقى وضعها كما هو دون تحسن ...

لم نكن جميعاً متحمسين لإجراء العملية .... إلا أن والدتي وبسبب ما تعانيه من آلام مبرحة وبسبب الصعوبة التي تواجهها في المشي والحركة قد دَفَعَتْ باتجاه إجرائها ...

تم تحديد موعد العملية ... وقمنا بإدخال والدتي قبل يومين لإجراء التحضيرات والفحوصات اللازمة ... وفي صباح اليوم التالي تم اخبار والدتي وعلى نحو غير متوقع بإرجاء العملية لمدة أسبوعين بسبب ظرف مفاجئ للطبيب المعالج ... هَرَعْتُ اليها لدى علمي بذلك لأجدها منهارة تبكي وتندب حظها العاثر ... اصطحبتها إلى البيت محاولاً أن أخفف ما استطعت من شعورها بالحزن والخيبة ...

تنفسنا الصعداء بسبب تأجيل العملية وتمنينا أن تصرف أمي النظر عن الموضوع وتعود للمسكنات التي اعتادت أن تتناولها كلما اشتد عليها الألم ... إلا أن والدتي كانت مصممة على العملية وكانت تستعجل مرور الأيام والليالي لإجرائها .... فقد أحيا الطبيب لديها الأمل بأن الآلام الشديدة والمعاناة سوف تختفي بعدها إلى غير رجعة ....

كان من المفروض أن تستغرق العملية ثلاث ساعات ... إلا أننا قد استبشرنا خيراً عندما رأينا الممرضات يُخْرِجْنَها من غرفة العمليات بعد ساعتين ونصف فقط ويدفعن سريرها نحو غرفة الإنعاش .... انتظرنا قرابة ساعة .... بدأت أمي تصحو من التخدير .... فتحت عينيها أجالت النظر فيمن حولها ثم بدأت بالأنين وبمرور الوقت وبتلاشي مفعول التخدير بدأ الأنين يتحول إلى تأوه ثم إلى صراخ مستمر لا يتوقف ... هرعنا على أثره لاستدعاء أيِ من الأطباء المعنيين الذين لم يقابلوا خوفنا وهلعنا بالكثير من الاهتمام مؤكدين بأن هذه الآلام هي من أثر الجراحة وأن كل شيء سيكون على ما يرام خلال وقت قصير ....

مرت الدقائق ببطء شديد وصراخ أمي يستمر ويزداد .... اندفعنا في الممرات باحثين عن الأطباء حتى عثرنا على أحد مساعدي الطبيب الذي أجرى العملية وأخبرناه بما تعاني منه أمي من آلام لم تتوقف منذ خروجها من غرفة العمليات .... حاول الطبيب أن يهون من الموضوع إلا أن اصرارنا الذي تحول إلى احتجاج وصراخ قد جعله يهاتف الطبيب المعالج ... ثم يقوم بعدها بإحضار جهاز فحص الأشعة إلى غرفة الإنعاش ليقوموا بتصوير موضع العملية ....

أخرجونا من غرفة الإنعاش وبدأوا بعملية التصوير .... بعدها بنحو ربع ساعة خرجوا واجمين مما أصابنا بالهلع .... ولدى استفسارنا عن النتيجة .... صعقنا عندما أخبرنا الطبيب بارتباك وتلعثم ... بأن العملية قد تضمنت تثبيت قضيبين معدنيين في موضع محدد حول العمود الفقري ... وأن أحد هذين القضيبين قد سقط من مكانه .... ما العمل إذن صرخنا فزعين .... جاء الجواب صادماً ... سوف نعيدها إلى غرفة العمليات لإعادة تثبيت القضيب في مكانه المحدد .... يا الله أية معاناة هذه ... تباً لكم جميعاً ... لقد أشعرتمونا وكأن الموضوع يتعلق بسمكري أو ميكانيكي مبتدئ يحاول أن يشرع بتصليح سيارة للمرة الأولى في حياته ....

عادت أمي إلى غرفة العمليات لتغيب قرابة تسعين دقيقة ولتخرج بعدها ثانية إلى غرفة الإنعاش ....
استفاقت أمي وذهب مفعول التخدير وتمت اعادتها إلى غرفتها ... مر يومٌ ثم آخرُ فثالثٌ ... وأمي ما زالت مستلقية على سريرها لا تستطيع الحركة أو القيام من مكانها ... ونحن في حيرة شديدة لم تبددها تطمينات الأطباء المساعدين الذين كانوا يمرون بكرة وعشياً بأن الأمور طبيعية وأن النتائج الإيجابية سوف تظهر بعد أيام ....

لم تتحسن حالة أمي .... ليتبين لاحقاً بأن العملية قد فشلت تماماً وأن خطأً طبياً فادحاً قد أُرتكب وتسبب في شلل دائم في الأطراف السفلية وأضرار جسيمة أخرى ... أما عن الطبيب الذي أجرى العملية فقد اختفى ولم يقم بزيارتها في غرفتها على الإطلاق .... وكأن شيئاً لم يكن ....
غادرت أمي المستشفى على كرسي متحرك وهي التي دخلته ماشية على رجليها .... أية كارثة حلت عليكِ يا أمي .... بل علينا جميعاً ....

قمت بكتابة رسالة إلى مدير المستشفى شرحت فيها ما حصل لأمي وطلبت من خلالها تحميل المتسبب بهذه الكارثة المسؤولية المادية والمعنوية عن ذلك ... وقبل ارسال الرسالة أشار علي أحد زملاء العمل باستشارة قريبهِ الذي كان يعمل أميناً عاماً لوزارة الصحة في ذلك الوقت ... وقد نصحني أمين عام الوزارة بعدم إضاعة الوقت والجهد في محاولة مثل هذه ... لأن الأمر سينتهي بتشكيل لجنة تحقيق من عدد من الأطباء سوف ينحازون في النهاية إلى زميلهم في المهنة .... وقد خطر ببالنا بعدها أن نتوجه إلى القضاء ... فعارضت والدتي ذلك بشدة قائلة هل سيصلح القضاء لي ما أفسده ذلك الطبيب عديم المروءة والانسانية ...

عادت أمي إلى البيت التي كانت تذرعه على قدميها طولا وعرضاً مرات لا تنتهي في اليوم الواحد .... دخلته على كرسي يحمله ابناؤها ليستقبلها سريرها الذي أصبح مستقرها الدائم الذي لا تغادره ساعة في ليل أو نهار ....

لم تكن هذه التجربة المريرة هي أولى المعارك التي خاضتها أمي في هذا المجال فقبل ذلك بسنوات أصيبت بسرطان القولون .... يومها أخفينا عنها وعن معظم المحيطين طبيعة مرضها وقلنا لها أنه مجرد التهاب تمت معالجته من خلال عملية أجريت لها ... لتصاب هي ونحن أيضاً بالرعب عندما تساقط شعر رأسها بعد أول جرعة من العلاج الكيماوي ... فلم نكن نعلم في ذلك الوقت شيئاً عن أعراض هذا العلاج ... وقد تحملَتْ بصبر كبير كل تبعات الإصابة بذلك المرض الخبيث لعدة سنوات حتى كتب الله لها في النهاية الشفاء التام ....

بقيت أمي بعد وفاة أبي حبيسة سريرها ... تعاني الوحدة وآلام وتبعات الجلوس المستمر على السرير .... تنفرج أساريرها مساءً عندما نتجمع حولها ... تنسى ما عانته وكابدته ساعات النهار ... كان وجودها يوفر لنا الفرصة كإخوة للقاء بشكل يومي.... نتسامر بحضورها ونتجاذب أطراف الحديث ... ونحرص كل يوم على الحضور على الموعد ما استطعنا إلى ذلك سبيلاً ...

كانت أمي محبة للحياة مقبلة عليها فيما كانت الحياة مكفهرة في وجهها مدبرة عنها ..... بدأت حياتها تكابد الفقر والعوز وكرست سنين عمرها لتربية أبناءها الذين تعلموا منها الصبر والكفاح وكانت تتوق لذلك اليوم الذي تستمتع فيه بحياتها مثل كل "المِسْعَدين".... كانت أمي تعتب على الأقدار التي ابتلتها بالأمراض والعلل باكراً ولم تمهلها قليلاً للتمتع بنتائج صبرها وكفاحها ... ففي الوقت التي بدأ الزرع يزهر والجهود تعطي ثمارها ... بدأت رحلتها مع المرض ... ما أن تتعافى من مرحلة حتى تدخل بأخرى ... معاناة استمرت فصولها طويلاً .... إلى أن حل شهر رمضان للمرة الرابعة بعد رحيل والدي ... ليبدأ الفصل الأخير من هذه المعاناة .... نزيف مستمر ظهر فجأة في الأمعاء تم على أثره إجراء عملية جراحية مستعجلة لها لم يكتب لها النجاح ... لتفارق هذه الحياة في الأيام المباركة من ذلك الشهر الفضيل ...

كنت الأقرب إلى أمي على الدوام وكنت رفيقها الدائم لمراجعة الأطباء والمستشفيات ... وكنت أهرع إليها دائماً كلما حاصرتني المشاكل والهموم ... ولا زلت أذكر ذلك اليوم بعد وفاتها بأشهر طويلة عندما داهمني عارض صحي أقلقني بشدة فغادرت العمل فوراً باتجاهها ... أوقفت السيارة على باب الدخلة ... هممت بالنزول .... وقبل أن تطأ قدماي الأرض أجهشت بالبكاء .... فقد تذكرت لحظتها بأنني يتيم وأن أمي التي جئت للقائها قد غادرت هذه الدنيا إلى غير رجعة ...



تعليقات القراء

رحمة الله عليها
رحمة الله الواسعة عليها وعلى جميع امهاتنا وابائنا واجدادنا وجداتنا ...
22-11-2022 11:32 AM

أكتب تعليقا

تنويه :
تتم مراجعة كافة التعليقات ،وتنشر في حال الموافقة عليها فقط.
ويحتفظ موقع وكالة جراسا الاخبارية بحق حذف أي تعليق في أي وقت ،ولأي سبب كان،ولن ينشر أي تعليق يتضمن اساءة أوخروجا عن الموضوع المطروح ،او ان يتضمن اسماء اية شخصيات او يتناول اثارة للنعرات الطائفية والمذهبية او العنصرية آملين التقيد بمستوى راقي بالتعليقات حيث انها تعبر عن مدى تقدم وثقافة زوار موقع وكالة جراسا الاخبارية علما ان التعليقات تعبر عن أصحابها فقط ولا تعبر عن رأي الموقع والقائمين عليه.

- يمكنك تسجيل اسمك المستعار الخاص بك لإستخدامه في تعليقاتك داخل الموقع
الاسم :
البريد الالكتروني :
اظهار البريد الالكتروني
التعليق :
رمز التحقق : تحديث الرمز
أكتب الرمز :

إقرأ أيضاً

رياضة وشباب

محليات