سائق محترف ..


المهندس عادل بصبوص

أدى تنفيذ مشروع تطوير البنية التحتية في المناطق الفقيرة إلى تحسين الظروف المعيشية لسكان هذه المناطق ... ولكنه أحدث أيضاً تأثيراً كبيراً وقفزة نوعية في حياتي وحياة عائلتي .... فقد بددَ الراتب المرتفع الذي حصلت عليه أخيراً شعور الخيبة الذي كان يلازمني طيلة السنوات الماضية بسبب اختيار وظيفة القطاع العام وسيلة لكسب العيش ... براتبها الهزيل الذي كان بالكاد يكفي احتياجات أسرتي الضرورية على الرغم من كون رواتب المهندسين في ذلك الوقت تفوق بشكل جوهري رواتب معظم فئات موظفي القطاع العام ... في الوقت الذي كان فيه مهندسو القطاع الخاص سواء من كان يعمل في شركات محلية أو في دول الخليج يحققون دخولاً تعادل أضعاف رواتب مهندسي القطاع العام ...

لم يكن ضمن تطلعاتي المستقبلية ان أبقى موظفاً في القطاع العام ... كان الشعار الذي رفعته منذ البداية .... هو قضاء بضع سنوات في الحكومة لإكتساب الخبرة وبعدها الانطلاق إلى فضاء القطاع الخاص ... إلا أن الرهبة والخوف من التغيير والإطمئنان إلى الأمان الوظيفي الذي توفره الوظيفة العامة قد حال دون تحقيق هذه الخطوة على الرغم من العرض الذي تلقيته بعد انتقالي إلى مشروع أبو نصير من مقاول مشروع اسكان الصحفيين للعمل معه... والرد الإيجابي الذي تلقيته بعد ذلك من شركة في السعودية كنت قد قدمت إليها طلباً للتوظيف ... لم ينقلني راتبي الجديد من الفقر إلى الغنى ولكنه وفر لي فائضاً كان من المستحيل توفيره من راتبي السابق ... مكنني من شراء سيارة حديثة بدل سيارة الداتسون 140J موديل سنة 1977 ... التي آلت إليَّ سابقاً من أخي ابراهيم ... اضافة إلى تجديد الكثير من أثاث ولوازم البيت ... وتسديد ثمن قطعة أرض كنت حصلت عليها من المؤسسة في موقع أبو نصير نقداً بدلاً من التقسيط الميسر على فترات طويلة .... والأهم من ذلك كله الشعور بالرضا والإطمئنان بأن أبنائي لن يواجهوا ولو جزءاً بسيطاً مما واجهته وعانيت منه في طفولتي وبواكير شبابي ... هؤلاء الأبناء الذين كبروا وأصبح اثنان منهما على اعتاب المرحلة الثانوية ...

التحق أولادي جميعاً كما أمهم وأبوهم سابقاً بالمدارس الحكومية ... لم يحدث أن تلقى أي منهم دروساً خصوصية في أي موضوع ... ولم نشعر في أي لحظة بضرورة التدخل ومراجعة الدروس والواجبات مع أي منهم ... كنا فقط نراقب نتائجهم الفصلية والسنوية والتي كانت دوماً مُرْضِيِّة ... لم أكن قاسياً أو شديداً في تربية أولادي خاصة البنات ... ولم ألعب دور الواعظ أو من يستهويه إلقاء الخطب ... كنت أحرص فقط أن تكون تصرفاتي وأفعالي أمامهم جيدة وسليمة ما استطعت إلى ذلك سبيلا ... كنت أشعر بشيء من الندم والتقصير لاحقاً عندما كنت أرى أبناءً من الأقرباء أو المحيطين تبدو عليهم مظاهر الخوف الشديد أو الرهبة إذا استشعروا غضباً أو عدم رضاً من طرف آبائهم تجاه ما قاموا به من أفعال أو ممارسات ... لتثبت لي الأيام لاحقاً أن أولادي الذين لم يعيشوا مثل هذا الدور في حياتهم هم من أكثر الأبناء طاعة لوالديهم ....

تم إنشاء وزارة التخطيط في عام 1984 خلفاً للمجلس الأعلى للتخطيط ووفقاً لقانونه الذي ما زال سارياً حتى الآن وقد كان د. عبد الله النسور –رئيس الوزراء لاحقاً- أول من تولى حقيبة وزارة التخطيط ... وقد لاحظت بمرور الوقت أن الوزارة تقوم بالقليل من التخطيط فيما تركز أغلب جهودها في مجال الحصول على القروض والمنح من الدول والوكالات والمنظمات المتخصصة وهو ما يطلق عليه اصطلاحاً "التعاون الدولي" وهو ما تمت إضافته لاحقاً إلى اسم الوزارة لتصبح وزارة التخطيط والتعاون الدولي ... وقد اشتركت أكثر من مرة بحكم عملي في الإجتماعات الأردنية الألمانية التي كانت تناقش موضوع المنح والقروض الألمانية للأردن والتي كان يرأسها من الجانب الأردني أمين عام الوزارة ... وقد كان يسوؤني دائماً أن نكون نحن في موضع اليد السفلى من المعادلة وكنت أتساءل إلى متى سيستمر ذلك ... وقد كدت أنفجر ضاحكاً ذات مرة خلال اجتماع مع الوزير .... على مبدأ شر البلية ما يُضحك .... عندما سمعته يقول وهو يتحدث عن الإنجازات التي حققتها الوزارة ذلك العام بأننا قد أحرزنا نجاحاً كبيراً باتجاه كسب دولة "كذا الأوروبية" كمصدر جديد للمنح والقروض ...

كان عملي في الوزارة مرتبط بمدير الوحدة ولم يكن لي ارتباط أو علاقة مباشرة مع الوزير وإن كنت على تواصل أحياناً مع الأمين العام وقتها د. عبد الرزاق بني هاني ... تقابلت مرتين أو ثلاث مرات مع الوزير المرحوم د. نبيل عماري أما د. ريما خلف فلم أقابلها إلا مرة واحدة في أواخر شباط عام 2000 عندما طافت على مكاتب الموظفين مُوَدِعَةً بعد أن قدمت استقالتها من حكومة عبد الرؤوف الروابدة .... يومها كانت تشغل منصب نائب رئيس الوزراء أيضاً .... منصب لم يشفع لها في تمرير قرار بتمديد خدمة سالم غاوي وهو أحد موظفي الوزارة الأكفاء المخضرمين بعد أن بلغ سن الستين ... قرار رفضه رئيس الوزراء فما كان منها إلا أن قدمت استقالتها احتجاجاً على ذلك ... موقف نادر الحدوث في الأردن سجله التاريخ لها كما سجل استقالتها بعد ذلك بسنوات من منصب الأمين العام المساعد للأمم المتحدة والأمين التنفيذي للجنة الاقتصادية والاجتماعية لغرب آسيا "إسكوا" رداً على طلب الأمين العام للأمم المتحدة سحب تقريري الاسكوا اللذين يدينان ممارسات إسرائيل بحق الشعب الفلسطيني ... لو قُدِّرَ لإمرأة أن تتولى منصب رئيس الوزراء في الأردن لكانت ريما خلف هي الأقدر على ذلك ... وبالعودة إلى سالم غاوي الذي كان سبب خروج ريما خلف من الحكومة ... فقد تمت إعادته للخدمة الحكومية في عهد رئيس وزراء لاحق موظفاً في وحدة التخاصية التابعة لرئاسة الوزراء ...

كان عملي يتطلب التنقل في كافة انحاء المملكة من شمالها إلى جنوبها ... وقد استلزم الأمر ذات مرة زيارة مدينة العقبة لمتابعة قضية تتعلق بمشروع تطوير موقع الشامية في المدينة ... وقد ارتأيت وقتها أن أقود سيارة الوزارة بنفسي بدلاً من مرافقة سائق كما جرت العادة ... كانت السيارة من طراز سوزوكي فيتارا جيب أسود اللون وكانت سيارة حديثة لم يمض على شرائها سوى بضعة أشهر ... وكان رفيقي في الرحلة الصديق المهندس غالب القضاة من مؤسسة نهر الأردن ... لم يكن معي يومها جهاز تلفون خلوي فقد كانت تلك الأجهزة في بداية انتشارها ... وقد أصر عَلَيَّ شقيقي ابراهيم أن آخذ جهازه الخلوي معي لاستعماله لأي طارئ ... تحركنا صباحاً أنا وغالب بإتجاه مدينة العقبة ... توقفنا في الطريق عند أول استراحة لشراء "زُوَّادَة" الطريق من عصائر وبسكويت وسكاكر ... وتابعنا الرحلة وكان كل شيء يبدو على ما يرام ...

كانت السيارة تنطلق بسرعة عالية عندما دخلنا إلى أحد المنعطفات مما تسبب بسقوط جهاز الخلوي من موقعه على تابلو السيارة إلى أرضيتها ... فقمت لا إرادياً بالانحناء للأسفل لالتقاط الجهاز وإعادته إلى مكانه ... لأجد السيارة لما اعتدلْتُ ثانية تنطلق منحرفة باتجاه المسرب الآخر من الطريق ... فقمت دون وعي بتحريك المقود بسرعة للإتجاه المعاكس لأفقد السيطرة على السيارة تماماً فتهوي إلى المنخفض المحاذي للطريق فتنقلب على ظهرها ثم تُعاود الانقلاب ثانية من شدة السرعة... لم يستغرق الأمر إلا ثواني معدودة أغلقت خلالها عينَيَ وبدأت بنطق الشهادتين .... وقد أدركت أنها النهاية لا محالة ...... لكن الله سلم فعمر الشقي بقي كما يقولون ... فتحت عيني بعد ان استقرت السيارة في مكانها وقد أصابها من الأضرار الجسيمة الكثير ... تفقدت نفسي فإذا انا سليم معافى ... نظرت إلى رفيقي ... فإذا هو بخير يحدق في وجهي ولسان حاله يقول ... شو اللي سويته يازلمه ... ثم نطق وهو يحاول فك حزام الأمان قائلاً ... الحمد لله على السلامه ... الله ستر ...



تعليقات القراء

لا يوجد تعليقات


أكتب تعليقا

تنويه :
تتم مراجعة كافة التعليقات ،وتنشر في حال الموافقة عليها فقط.
ويحتفظ موقع وكالة جراسا الاخبارية بحق حذف أي تعليق في أي وقت ،ولأي سبب كان،ولن ينشر أي تعليق يتضمن اساءة أوخروجا عن الموضوع المطروح ،او ان يتضمن اسماء اية شخصيات او يتناول اثارة للنعرات الطائفية والمذهبية او العنصرية آملين التقيد بمستوى راقي بالتعليقات حيث انها تعبر عن مدى تقدم وثقافة زوار موقع وكالة جراسا الاخبارية علما ان التعليقات تعبر عن أصحابها فقط ولا تعبر عن رأي الموقع والقائمين عليه.

- يمكنك تسجيل اسمك المستعار الخاص بك لإستخدامه في تعليقاتك داخل الموقع
الاسم :
البريد الالكتروني :
اظهار البريد الالكتروني
التعليق :
رمز التحقق : تحديث الرمز
أكتب الرمز :

إقرأ أيضاً

رياضة وشباب

محليات