من الإسكان إلى التخطيط .. فَرْكِة كَعْب


وأخيراً وبعد أكثر من سبعة عشر عاماً سأترك مؤسسة الإسكان للعمل منسقاً لمشروع تطوير البنية التحتية في المناطق الفقيرة وهو المكون الأبرز من مكونات حزمة الأمان الاجتماعي التي أطلقتها وتُشرف عليها وزارة التخطيط .... مشروع سوف تتولى مؤسسة الإسكان تنفيذ الجزء الأكبر منه .... فيما سينفذ الجزء الباقي من المشروع بنك تنمية المدن والقرى ... أما برنامج الأمم المتحدة الإنمائي UNDP فهي الجهة التي تعهدت بتمويل نفقات وحدة إدارة الحزمة في وزارة التخطيط على أن تتولى اختيار الخبراء والموظفين الذين سيعملون في هذه الوحدة ويقوم بالتعاقد معهم ودفع رواتبهم ... مع بقاء هؤلاء الموظفين تابعين إدارياً لهذه الوزارة ...

وقعتُ عقد عمل مبدئي مع برنامج UNDP لمدة ثلاثة شهور وهي الفترة التجريبية ... وحصلتُ على موافقة مجلس الوزراء على إعارتي من مؤسسة الإسكان لمدة سنة للعمل في وزارة التخطيط منسقاً مسؤولاً عن ذلك المشروع ...

انتقلت للعمل في وزارة التخطيط اعتباراً من منتصف شهر تشرين ثاني 1998 في عهد الوزير المرحوم نبيل عماري ... استمرت علاقتي مع مؤسسة الإسكان ... ليس موظفاً فيها وإنما مسؤولاً عن الأعمال التي ستقوم بتنفيذها ضمن المشروع الذي عُيِنتُ منسقاً له ... وهي نفس العلاقة التي أصبحت تربطني ببنك تنمية المدن والقرى الجهة التنفيذية الأخرى للمشروع ...

كان عملي ضمن وحدة إدارة برنامج حزمة الأمان الاجتماعي في الوزارة .... وقد فوجئت بأن مدير الوحدة هو د. غيث فريز الذي كان موظفاً في مؤسسة الإسكان عندما عُيِّنتُ فيها عام 1981 وكنا نستقل نفس باص التويوتا للوصول إلى المشاريع التي نعمل فيها .... أنا إلى إسكان الصحفيين في طبربور وهو إلى مشروع إسكان الزرقاء ... كانت الوحدة تضم بضعة موظفين من ضمنهم ناصر الشريدة نائب رئيس الوزراء للشؤون الاقتصادية حالياً وقد كان وقتها منسقاً لمكون برنامج القروض الصغيرة ...

وزارة التخطيط كانت تَشغلُ الجزء الأكبر من مبنى مؤسسة الإسكان الواقع في جبل عمان مقابل المقر القديم لرئاسة الوزراء في منطقة الدوار الثالث .. فيما كانت المؤسسة تَشغل الجزء الباقي ... لذا لم يكن الانتقال من المؤسسة إلى الوزارة يتطلب سوى مغادرة جزء من المبنى إلى الجزء الآخر منه ... واستعمال المدخل الجنوبي للمبنى بدلاً من مدخله الشمالي ...

كانت وزارة التخطيط تستقطب خيرة الموظفين وكانت تشكل دار خبرة ومرجعاً في الكثير من المجالات والاختصاصات ... إضافة إلى توليها المهام المتصلة بالتعاون الدولي ووضع وتنسيق الخطط والاستراتيجيات ومتابعة تنفيذها وتقييمها .. كان العمل فيها يمثل حلماً للكثيرين ... فلموظفيها امتيازات مادية ومعنوية لا تتوفر في كثير من وزارات ومؤسسات الدولة ... إضافة إلى طبيعة مهامها التي تتطلب العمل مع السفارات الاجنبية والوكالات والجهات الدولية المختلفة ... مما يمنح موظفيها شعوراً بالأهمية والتميز عن الآخرين ...

قارب عقدي الموقع مع برنامج UNDP والبالغة مدته ثلاثة شهور على الانتهاء ... في هذا الوقت اندلع خلاف حاد بين مدير البرنامج في ذلك الوقت "يرجن لسنر" والوزارة ... مما أدى إلى قيام الأخيرة بإنهاء العلاقة مع البرنامج ومخاطبة مجلس الوزراء للموافقة على توفير التمويل اللازم لوحدة الحزمة في الوزارة من منحة للصندوق العربي للإنماء الاقتصادي والاجتماعي إضافة إلى الموافقة على استمرار إعارة موظفي الوحدة من مؤسساتهم إلى وزارة التخطيط حتى استكمال تنفيذ الحزمة مما يعني انتفاء الحاجة لتجديد الإعارة بشكل سنوي ...

أجد نفسي الآن وبعد مرور أكثر من عشرين سنة على تلك الفترة ملزماً بتقديم الشكر والامتنان بأثر رجعي لبرنامج الأمم المتحدة الإنمائي UNDP الذي لولا وجوده في تلك المرحلة لتم تعيين موظفي وحدة الحزمة وفق الأساليب والممارسات التي كان يتم التعيين بموجبها في الحكومة في ذلك الوقت ... ولما استطاع مثلي أن يُعَتِّبَ مبنى الوزارة موظفاً ....

قامت الوزارة بصرف رواتبنا بالقيم التي تعاقدنا سابقاً عليها مع برنامج UNDP لمدة شهرين اثنين قبل أن يقوم "أولاد الحلال" في الوزارة بالتنسيب للدكتورة ريما خلف التي عادت وزيرة للتخطيط خلفاً للدكتور نبيل عماري بتخفيض رواتب كل منا بنسبة 10% نظراً لارتفاعها الشديد مقارنة برواتب موظفي الوزارة .... قرار لم أتأثر به شخصياً سوى بضعة أشهر فقط ... حيث جاء التعويض من مكافآت لجان العطاءات المتعلقة بالمشروع والتي تم تسميتي ممثلاً للوزارة فيها ...

كانت مهامي الرئيسية تتمثل في متابعة تنفيذ مشروع تطوير البنية التحتية الذي كان يستهدف تحديث البنى التحتية في مخيمات اللاجئين في الأردن من شبكات مياه وكهرباء وصرف صحي وطرق وممرات وأرصفة وكذلك في مواقع السكن العشوائي مثل جبل النظيف ووادي الحدادة والمصدار وسفح الهاشمي ووادي عبدون والقيسية وجناعة وغيرها اضافة الى إنشاء العديد من المدارس والمراكز الصحية والمراكز الاجتماعية وقد كانت هذه الأعمال التي تبلغ كلفتها حوالي أربعين مليون دينار تشكل الجزء – أ من المشروع وتقوم بتنفيذه مؤسسة الإسكان، أما الجزء – ب الذي كان ينفذه بنك تنمية المدن والقرى فكان يتمثل في تعبيد شوارع وتصريف مياه أمطار وإنشاء جدران استنادية وتوريد وحدات إنارة في معظم بلديات المملكة إضافة إلى إنشاء العديد من المراكز الصحية ومراكز التنمية الاجتماعية بكلفة اجمالية تتجاوز مبلغ عشرين مليون دينار ...

واجهت حزمة الأمان الاجتماعي عند اطلاقها ومشروع تطوير البنية التحتية في المناطق الفقيرة بالذات انتقادات حادة من سياسيين معارضين ... بدعوى أن ذلك هو مقدمة لتوطين اللاجئين الفلسطينيين ... لذا كانت الحكومة حريصة على عدم المساس قدر الامكان بالوضع القائم في هذه المناطق ... وخاصة مخيمات اللاجئين والتي تم حصر الأعمال فيها بتعبيد الشوارع القائمة وتجديد شبكات المياه والصرف الصحي فقط ....

تم توفير معظم التمويل اللازم لتنفيذ المشروع بقروض ومنح من البنك الدولي وجهات مانحة أخرى ... كان عملي يتطلب التعامل المباشر مع الجهات المنفذة والجهات الممولة والجهات المستفيدة من المشروع ... واعداد تقارير الإنجاز والمتابعة والتقييم ... كنت أعمل بمفردي وكان ذلك يتطلب الكثير من الجهد والمتابعة الدقيقة والمستمرة ... إلا أن ذلك كان مصدر سعادة كبيرة لي ... فأجواء العمل وطبيعة الجهات والمستويات التي كنت أتعامل معها كانت مختلفة تماماً عما خبرته سابقاً .... وقد كانت أول تجربة لي في هذا المجال حضور اجتماع اللجنة التوجيهية لبرنامج حزمة الأمان الاجتماعي الذي عُقد ذات مساء أواخر عام 1998 في قاعة الاجتماعات في وزارة التخطيط وكان برئاسة رئيس الوزراء د. فايز الطراونه ومشاركة العديد من الوزراء المعنيين ... وقتها لَفَتَ انتباهي قبيل الاجتماع شاب يذرع المكان بخطىً عَجلى جيئةً وذهاباً يتحدث طول الوقت بهاتفه الخلوي فيما يحمل بيده اليسرى بمجموعة من الأوراق ... ولما سألت عنه قيل لي هذا باسم عوض الله المستشار الاقتصادي في رئاسة الوزراء ...

لقد أحدث تنفيذ المشروع آثاراً إيجابية في تحسين الظروف المعيشية للفئات القاطنة في المناطق التي شملها ... ولعل أكثر الآثار والبصمات الإيجابية التي تركها المشروع كانت في منطقة جبل النظيف ... التي كانت تعتبر من أكثر المناطق العشوائية اكتظاظاً ... كان يتم التنقل داخل المنطقة من خلال ممرات ضيقة لا تسمح لأية سيارة مهما كانت صغيرة بالمرور خلالها ... الأمر الذي كان يؤدي إلى معاناة لا حدود لها للقاطنين في تلك المنطقة فلا سيارة إسعاف أو سيارة إطفاء أو أيٍ من سيارات الخدمات الضرورية الأخرى يمكنها الوصول إلى قلب المنطقة .... لم يتعامل التصميم الأساسي للمشروع مع هذه القضية ... لأن أي حل لها ولو كان جزئياً كان يتطلب هدم وإزالة بيوت ومساكن وهو خط أحمر كانت الجهات المانحة تحظر الاقتراب منه .... إضافة إلى الكلف المرتفعة التي تترتب على دفع التعويضات للأسر التي يتم ترحيلها من الموقع .... والتي لا تمولها الجهات المانحة ويتعين تغطيتها من خزينة الحكومة .....

بحثت هذه النقطة مع المعنيين في مؤسسة الإسكان .... ووصلنا إلى قناعة مفادها أن العمل في الموقع دون استحداث شوارع جديدة تصل إلى وسط الجبل لن يؤدي إلى إحداث أي تحسين فعلي في مستوى معيشة المواطنين .... طلبت منهم تقدير كلف التعويضات التي قد تترتب على فتح شوارع كافية في الموقع ... فكان الجواب إن ذلك يتطلب حوالي مليون دينار وهو مبلغ كبير نسبياً .... تشاورت مع مدير الوحدة ومع المعنيين في الوزارة واقنعتهم بأهمية وضرورة ذلك ... ورفعنا بعد ذلك تنسيباً إلى الوزيرة د. ريما خلف التي وافقت على رصد التمويل المطلوب ... وطَلَبْتُ على إثر ذلك من مؤسسة الإسكان عمل التصاميم اللازمة لهذا الغرض .... لتأتي المفاجأة والصدمة الكبرى بعد أسابيع وبعد اكتمال الدراسات والتصاميم بأن مبلغ التعويضات المطلوب هو مليونان وربع المليون دينار ... رقم فلكي بكل المقاييس ... الأمر الذي استلزم أن أبدأ المحاولة من جديد لرصد هذا المبلغ الكبير والذي سيذهب فقط لتعويضات الهدم والإخلاء ... لم تكن المهمة سهلة على الإطلاق ... لكن الروح الإيجابية والشعور بالمسؤولية لأصحاب القرار في الوزارة قد سهل المهمة وتمت الموافقة على رصد المبلغ المطلوب ... وتم فتح الشوارع اللازمة والتي أحدثت ثورة حقيقية في موضوع الخدمات في تلك المنطقة ... كما وفرت للأسر التي هدمت مساكنها وأخْلَتْ الموقع تعويضات مجزية تزيد كثيراً عما كانت تصرفه أمانة عمان في حالات مشابهة ... وقد مكنت هذه التعويضات الأسر المتضررة من توفير سكن ملائم لها في مناطق أخرى بظروف أفضل من التي كانوا يعيشون فيها في النظيف ....



تعليقات القراء

لا يوجد تعليقات


أكتب تعليقا

تنويه :
تتم مراجعة كافة التعليقات ،وتنشر في حال الموافقة عليها فقط.
ويحتفظ موقع وكالة جراسا الاخبارية بحق حذف أي تعليق في أي وقت ،ولأي سبب كان،ولن ينشر أي تعليق يتضمن اساءة أوخروجا عن الموضوع المطروح ،او ان يتضمن اسماء اية شخصيات او يتناول اثارة للنعرات الطائفية والمذهبية او العنصرية آملين التقيد بمستوى راقي بالتعليقات حيث انها تعبر عن مدى تقدم وثقافة زوار موقع وكالة جراسا الاخبارية علما ان التعليقات تعبر عن أصحابها فقط ولا تعبر عن رأي الموقع والقائمين عليه.

- يمكنك تسجيل اسمك المستعار الخاص بك لإستخدامه في تعليقاتك داخل الموقع
الاسم :
البريد الالكتروني :
اظهار البريد الالكتروني
التعليق :
رمز التحقق : تحديث الرمز
أكتب الرمز :

إقرأ أيضاً

رياضة وشباب

محليات