تونس ليست أوكرانيا


أسامة رمضاني

بعد 11 سنة من بدء رحلة "الانتقال الديموقراطي" المضطربة، ترسخت قناعة التونسيين بأنهم لن يستطيعوا الخروج من أزمتهم الاقتصادية الخانقة من دون مساعدة خارجية، وبخاصة من شركاء البلاد التقليديين في الغرب.


مهما تباينت المواقف السياسية، ومهما كانت دواعي الاحتراز تجاه المؤسسات المالية الدولية، ليس هناك اختلاف بين الخبراء الاقتصاديين على أن البلاد كانت في حاجة ماسة للقرض الذي وافق صندوق النقد الدولي مبدئياً على منحه لتونس في منتصف تشرين الأول (أكتوبر) الماضي بقيمة 1.9 مليار دولار، على أمل أن تتبعه قروض أخرى من الأشقاء والأصدقاء والشركاء. وهي تحتاج للموافقة النهائية على اتفاق القرض بمساندة من الدول الغربية الأعضاء في الصندوق.

أظهرت العشرية الماضية استعداد الكثير من الأطراف الخارجية لتقديم يد المساعدة لتونس، وجاء الدعم بالفعل من الشرق والغرب، وإن كان مستواه أقل من تطلعات الحكومات المتعاقبة التي كان البعض منها يحلم بمخطط مارشال عالمي لفائدة تونس.

لم يستغل الساسة التونسيون خلال العقد الماضي الزخم الخارجي لفائدتهم. فعوض اتخاذ القرارات الكفيلة بإصلاح الأوضاع الاقتصادية والاجتماعية، أدمنت الحكومات على الاقتراض بغرض الإنفاق على الرواتب وتوسيع رقعة التوظيف الحكومي. تصرفت وكأنما ذلك هو الحل الدائم، ما أضر بصدقية أصحاب القرار في تونس.

لم ينتبه أفراد النخبة الحاكمة في تونس إلى أن السخاء الخارجي ليس بلا مقابل أبداً. لم يأخذوا بالاعتبار أن هناك في كل ظرف مصالح استراتيجية واقتصادية وحتى أيديولوجية، تسعى الدول المؤثرة في العالم والمؤسسات الكبرى إلى تحقيقها من وراء المساعدة التي تقدمها.

كان الكثيرون ضمن النخبة السياسية يتصرفون وكأن الترحيب الغربي الذي لقيته انتفاضات الشوارع التي أسقطت نظام بن علي سنة 2011 سيتواصل إلى ما لا نهاية وبلا شروط. استمروا في قراراتهم الخاطئة، وإن نسفت مقوّمات الانتقال الديموقراطي الذي كان الغرب يسعى إلى تقديمه كـ"نموذج" تحتذيه الدول الأخرى في المنطقة.

لم تكن هناك عموماً رؤية واضحة من قبل الدبلوماسية التونسية لما تنشده البلاد من علاقاتها مع أميركا وأوروبا غير الحصول على مساعدات تلبي الحاجيات على المدى القصير.

كانت هناك، إبان حكم الرئيس الراحل الباجي قايد السبسي، محاولات نادرة لتطوير العلاقات مع الاتحاد الأوروبي (بوصفه الشريك الاقتصادي الأول لتونس) إلى مستوى أبعد مما يخوّله مفهوما "الشراكة" و"الجوار". حاولت الدبلوماسية التونسية الاستفادة من النظرة الغربية السائدة لتونس أيامها على أنها "ديموقراطية ناشئة" من أجل تركيز إطار أكثر تلاؤماً للعلاقة. ولكن الفكرة سرعان ما تبخرت مع غياب التركيز وتفاقم الصراعات السياسية.

وتكتشف تونس اليوم أن العالم تغير... وأنها لم تفعل الكثير لاستباق التغيرات أو التأقلم معها.
وهي تشاهد باهتمام كيف تتعالى الأصوات في الغرب، منادية بخطة مارشال جديدة من أجل إعادة إعمار أوكرانيا بعد الحرب الروسية، في مجهود استثنائي قد تبلغ قيمته 750 مليار دولار.

لم يكن هناك أبداً كلام جدي عن تخصيص مخطط مارشال غربي لمساعدة تونس. لكن البلاد تمتعت مباشرة بعد 2011 بموجة كبيرة من التعاطف والمساندة في الغرب. من الأمثلة المجسمة لهذا التعاطف كان منح الولايات المتحدة تونس سنة 2015 صفة "الحليف غير العضو في الناتو". في السنة نفسها حصل رباعي الحوار في تونس على جائزة نوبل للسلام.

ولكن هذه الموجة انحسرت تدريجياً إلى حد كبير. وهي لم ترتق أبداً وفي أي حال من الأحوال إلى مستوى الموقع الاستراتيجي الذي تحتله أوكرانيا اليوم ضمن الرؤية الأميركية والأطلسية للصراع مع روسيا.

يقارن الخبراء في الغرب برنامج الإعمار الجديد المزمع تنفيذه مع أوكرانيا بالنسخة الأولى لمخطط مارشال بعد الحرب العالمية الثانية. صوّت الكونغرس سنة 1948 على مشروع قانون تخصص بمقتضاه الولايات المتحدة ما يناهز 160 مليار دولار (بالقيمة الحالية للعملة الأميركية) لمساعدة 16 دولة أوروبية. كان الهدف هو إعادة بناء الدول الأوروبية لقدراتها، ولكن واشنطن كانت تراهن أيضاً على تلك المساعدة كي تبني أسس تحالف أطلسي دائم مع أوروبا، وتعزز مسار الاندماج الأوروبي بشكل يمتد لعقود مقبلة.

اليوم تطفو أهداف استراتيجية جديدة على السطح من وراء خطة مارشال الجديدة، بعدما بدأت أوروبا التمهيد لانخراط أوكرانيا في الاتحاد الأوروبي، والعمل على تحقيق الظروف الملائمة من أجل انضمام كييف لاحقاً إلى الحلف الأطلسي حتى تمثل جدار صد أمام روسيا.

ومن البديهي أن تونس غير معنية بمثل هذه المسارات التي تدخل في نطاق الصراعات بين الشرق والغرب والتجاذبات الكبرى بين القوى العظمى.

وربما ليس هناك وجه للمقارنة بين تونس وأوكرانيا، ولكنّ هناك دروساً تُستشَف من الحالتين.

أيضاً، وحتى في غياب الرهانات الاستراتيجية الكبرى، كانت تونس دوماً معنية بمسارات التعاون مع شركائها في الغرب، وإن كانت هذه المسارات متذبذبة وخاضعة لحدود لا يمكن تجاوزها.

منذ نهاية عهد بورقيبة انتهت إمكانية الاصطفاف غير المشروط لتونس مع الغرب وأميركا على وجه التحديد. كما كان من الواضح قبل انهيار نظام بن علي أو بعده أن الحكومات التونسية أصبحت تأخذ في الاعتبار صعود التيارات المتوجسة من الغرب ضمن الرأي العام والنخب السياسية في البلاد. بقيت هذه التيارات تتغذى لعقود من الرفض الواسع للسياسات الأميركية في الشرق الأوسط والتضييقات الأوروبية على الهجرة وحرية التنقل ضمن فضاء شينغن.

وتبدو هذه التضييقات الأوروبية مؤهلة للتزايد في الفترة المقبلة، كرد فعل على تدفق الهجرة غير الشرعية من بلدان جنوب المتوسط (ومن بينها تونس)، وانعكاس للتخوفات الأمنية تجاه أنشطة المتطرفين ولصعود أقصى اليمين إلى السلطة في بلدان مثل السويد وإيطاليا، بعدما حقق نجاحات انتخابية غير مسبوقة إثر حملات تضمنت الدعوة إلى الحفاظ على "الهوية الأوروبية والمسيحية" إزاء خطر الهجرة من جنوب المتوسط.

أظهرت الحرب في أوكرانيا المعايير المزدوجة لأوروبا في قضية الهجرة. وفيما تستقبل أوروبا الملايين من اللاجئين الأوكرانيين بأذرع مفتوحة، تراها تعبئ جهودها لمقاومة الهجرة غير الشرعية عبر إيطاليا والبلقان. وتقول رئيسة الحكومة الإيطالية الجديدة جورجيا ميلوني في انزعاجها من قوارب الهجرة غير الشرعية المنطلقة من سواحل شمال أفريقيا، إن الأوكرانيين هم "المهاجرون الحقيقيون"، بما يعني أن القادمين من بلدان المغرب العربي وأفريقيا غير مرغوب فيهم.

ليس باستطاعة تونس أن تتجاهل العوائق والفوارق التي تفصلها عن الغرب، غير أن ذلك لا يمكن أن يبرر النزعات الشعبوية التي تحرّض على العداء للغرب.
ولا يمكن لتونس أن تتجاهل العديد من القواسم المشتركة التي جمعتها ولا تزال مع أوروبا وأميركا.

لا مفر لتونس في نهاية التحليل من أن تسلك طريق الواقعية في إطار هذه المعادلة، ولاستغلال ما لديها من موقع جغرافي متميز وكفاءات بشرية عالية وميزات أخرى، من أجل تعزيز رصيدها في مجال التعاون والشراكة مع الغرب كوسيلة من الوسائل التي لا يمكنها إهمالها في سعيها إلى رفع مختلف التحديات التي تواجهها.

أكيد أن تونس ليست أوكرانيا. وهي يجب ألا تغبط أوكرانيا على وضعها مهما كانت الاعتبارات. بل للتونسيين أن يحمدوا الله على نعمة السلام التي تتمتع بها بلادهم، بما يجعلها مؤهلة يوماً ما لانطلاقة جديدة، بخاصة إن اهتدت قياداتها إلى السياسات الصحيحة التي يمكن أن تنقذها من أزماتها.



تعليقات القراء

لا يوجد تعليقات


أكتب تعليقا

تنويه :
تتم مراجعة كافة التعليقات ،وتنشر في حال الموافقة عليها فقط.
ويحتفظ موقع وكالة جراسا الاخبارية بحق حذف أي تعليق في أي وقت ،ولأي سبب كان،ولن ينشر أي تعليق يتضمن اساءة أوخروجا عن الموضوع المطروح ،او ان يتضمن اسماء اية شخصيات او يتناول اثارة للنعرات الطائفية والمذهبية او العنصرية آملين التقيد بمستوى راقي بالتعليقات حيث انها تعبر عن مدى تقدم وثقافة زوار موقع وكالة جراسا الاخبارية علما ان التعليقات تعبر عن أصحابها فقط ولا تعبر عن رأي الموقع والقائمين عليه.

- يمكنك تسجيل اسمك المستعار الخاص بك لإستخدامه في تعليقاتك داخل الموقع
الاسم :
البريد الالكتروني :
اظهار البريد الالكتروني
التعليق :
رمز التحقق : تحديث الرمز
أكتب الرمز :

إقرأ أيضاً

رياضة وشباب

محليات