عريس لَقْطَه ..


انتهى أول شهر لي كموظف حكومي ... لم يكن شهراً كاملاً ... كان ناقصاً ثلاثة أيام ... ذهبت مع الموظفين إلى مكاتب المؤسسة في جبل عمان لاستلام ما استحق لي من راتب .... 185 دينار قبضتها من المحاسب أبو محمد عادل الخليلي ... لم أصدق نفسي وهو يعد النقود علي ... وضعتها في جيبي ... وهرعت أسابق الريح إلى المنزل أكاد أطير من الفرح وكأن ثروة من السماء قد هبطت علي... أنتظرت حلول المساء واجتماع الأسرة للإحتفال بالحدث العظيم ... استعرضت المبلغ بين يدي ... وبدأت أوزع الأوراق النقدية ... عشرينات للكبار وعشرات أو خمسات للصغار ... واحتفظت بالباقي كمصروف شخصي للشهر القادم ...

توقف والدي عن العمل وكان عَلَيَّ أن أتقاسم مع اخي ابراهيم أعباء الإنفاق على الأسرة ... أصبحت أشعر بالمسؤولية تجاه أسرة منحتني كل شيء وجاء الوقت الذي أرد فيه بعضاً من جميل سيظل يطوق عنقي ما حييت ... كان أخي شحده في سنته النهائية يَدْرُسْ الرياضيات في الجامعة الأردنية وسوف يتخرج بحلول الصيف القادم ... وفي ذلك التوقيت سيكون ياسر قد أنهى تقديم امتحانات الثانوية العامة "التوجيهي" يتبعه في ذلك عدنان في السنة المقبلة .. فيما يتابع الصغيرين عبله وخليل الدراسة في المرحلة الابتدائية ....

استمرت أمي في تولي إدارة شؤون المنزل .... بكل الحنكة والمهارة التي تمتلكها والتي استطاعت من خلالها قيادة سفينة الأسرة في أصعب المراحل وأحلك الظروف .... كانت المهمة عليها أسهل والتحديات أقل ... ولم تعد هناك حاجة للتقتير أو شد الأحزمة على البطون ....بالرغم من ازدياد حجم الأسرة وتشعب متطلباتها...

كان عملي في اسكان الصحفيين ممتعاً فقد كانت مهمتي مع زملائي الإشراف على عمل المقاول الذي كان يتولى تنفيذ المشروع وهو مهندس سبق له العمل في المؤسسة قبل ان يتركها ويأسس شركة للمقاولات ... كان جهاز الشركة الرئيسي يتكون من والد المهندس وأشقائه وكانت أساليب العمل في ذلك الوقت بدائية نوعاً ما مقارنة بأساليب تنفيذ الإنشاءات في يومنا هذا ... كانت أعمال صب الخرسانة تتم من خلال عدد من العمال المصريين الذي يعملون على خلاطة صغيرة ... ثم يحملون الخرسانة بصفائح على أكتافهم ... وكثيراً ما كان يتم نقل الخلاطة بِدَفْعِها على سقالة خشبية إلى الطابق الأول أو الثاني لصب الأعمدة والجدران فيها ... كان التحدي الأكبر عندما يكون هناك صب لعقدة "سقف" أحد الطوابق حيث كانت الشركة تجلب فرقة متخصصة من العمال الوافدين مع خلاطة كبيرة وونش لهذا الغرض ... فلم تكن شركات انتاج الخرسانة الجاهزة قد ظهرت بعد ... كان عمال هذه الفرقة من المتمرسين في صب العقدات ومن ذوي القدرات البدنية العالية ... وكان همهم انجاز صب العقدة والانتهاء منها بأسرع وقت ممكن ... لذلك كانوا يَسْعَون لملء الخلاطة بأكبر كمية ممكنة من الحصمة وبما يزيد كثيراً عما هو مُحَدَّد مما يؤدي إلى تدني قوة الخرسانة الناتجة عن ذلك ... كنت لا اعتمد على مُلاحِظ الخلاطة أو المراقب الذي كان عليه ضبط هذه العملية .... فأتصدى لهم بنفسي وأقف أمامهم كشرطي المرور لأمنعهم من وضع أية تنكة اضافية من الحصمة .... أما عن "المكعبات" أو عينات الخرسانة التي تُؤخَذ للفحص فكانت تشكل "هَمَّاً" بحد ذاتها ... فيجب أن تخرج نتائج الفحص ناجحة ومقبولة ... وقد كانت الإدارة – وأعني هنا إدارة المؤسسة- تضع اللوم على جهازها المشرف في حالة رسوب هذه العينات وتحمله المسؤولية ... أكثر مما تلوم المتعهد صاحب المسؤولية الفعلي عن ذلك ... كنت أُحِسُّ أن كلمة المتعهدين مسموعةً لدى بعض من مسؤولي المؤسسة أكثر من كلمة أجهزتها المُشْرِفَة .... وكانت هذه أول مواجهة مباشرة لي مع عيوب القطاع العام وعِلَلِهِ المزمنة ...

بمرور الوقت أصبح زملاء العمل بالنسبة لي أصدقاء مقربين ... وهنا أتذكر بكل الشوق والحنين المراقب الشركسي المرحوم أحمد يعقوب عرب لاعب النادي الفيصلي في الاربعينات ... الذي أصبح برغم فارق السن الكبير بيننا صديقاً حميماً لَدَيَّ بحكم صفاته النادرة الجميلة ولأنه كان يُذَكِّرُني دوماً بمن عرفت وأحببت من شراكسة وادي السير إضافة إلى أنه كان يمثل بالنسبة لي كتاباً مفتوحاً يحكي عن تاريخ عمان في الاربعينات والخمسينات من القرن الماضي ...

كان يومي يبدأ في السابعة صباحاً أتناول الإفطار ثم أتوجه للعمل لأعود للمنزل بحدود الخامسة عصراً ... لم أكن آكل خلال الدوام... وإنما بعد العودة من العمل حيث كنت أتناول وجبة واحدة تجمع الغداء والعشاء معاً .... في ممارسة بَقيتُ محافظاً عليها منذ ذلك الوقت وحتى يومنا هذا ....

كنت أشتري الكتب بين الحين والآخر وخاصة من معارض الكتب إلا أنني كنت مُقَلاً في القراءة إلى حد كبير ... وبقيت على شغفي بسماع الموسيقى والأغاني ... فقد كان أول ما اشتريته بعد مباشرة العمل واستلام أول راتب هو مسجل سانيو بسماعتين اثنتين بمبلغ خمسين ديناراً ...

مرت الشهور تباعاً ودخلنا في فترة الصيف ... وبدأت أسمع من المحيطين بي ومن الأقارب عبارات فاجأتني في البداية .... مضمونها يقول "دراسة ودَرَسِتْ وشغل واشتَغَلِتْ صار لازم نفرح فيك" .... فقد كنت على مشارف الخامسة والعشرين ويومها كان الكثيرون يتزوجون بأعمار تقل عن ذلك .... إلا أن الموضوع أصبح يكتسب الجدية شيئاً فشيئاً عندما بدأ يجد أصداءً لدى أفراد أسرتي ... ويلقى القبول والترحيب في داخلي وإن كنت أُبدي في الظاهرِ شيئاً من التريث والتمنع ...

خلص خلينا نِبْدا إنْدَوِّرْلَك على عروس قالت أمي ... بس يَمَّه لسه ما صار معي مصاري يدوب كل اللي معي ألف ليرة .... أَجَبْتُها ... المصاري مش مشكلة أخوك بيعطيك اللي بتحتاجه وبتسدو بعدين على مهلك ...
قلت لها ضاحكاً طيب المصاري مش مشكلة بس مين بدها تقبل فِيِّي .... ردت أمي وقد حَسِبَتْني جاداً ... شو بتقول ... مين بِصَحِلْها مثل هالشب الحلو ويكون مهندس كمان ... أصلاً انت عريس لَقْطَه ... والله اذا انتو شايفين هيك أنا ما عندي مشكلة قلتها بِخُبْثٍ متصنعاً الرضوخ والاستسلام .....



تعليقات القراء

لا يوجد تعليقات


أكتب تعليقا

تنويه :
تتم مراجعة كافة التعليقات ،وتنشر في حال الموافقة عليها فقط.
ويحتفظ موقع وكالة جراسا الاخبارية بحق حذف أي تعليق في أي وقت ،ولأي سبب كان،ولن ينشر أي تعليق يتضمن اساءة أوخروجا عن الموضوع المطروح ،او ان يتضمن اسماء اية شخصيات او يتناول اثارة للنعرات الطائفية والمذهبية او العنصرية آملين التقيد بمستوى راقي بالتعليقات حيث انها تعبر عن مدى تقدم وثقافة زوار موقع وكالة جراسا الاخبارية علما ان التعليقات تعبر عن أصحابها فقط ولا تعبر عن رأي الموقع والقائمين عليه.

- يمكنك تسجيل اسمك المستعار الخاص بك لإستخدامه في تعليقاتك داخل الموقع
الاسم :
البريد الالكتروني :
اظهار البريد الالكتروني
التعليق :
رمز التحقق : تحديث الرمز
أكتب الرمز :

إقرأ أيضاً

رياضة وشباب

محليات