حبٌ وسياسةٌ وأشياء أخرى ..


المهندس عادل بصبوص

مضت الأيام تباعاً وانسجمت الأسرة مع واقعها في المنزل الجديد ... فأيام المعاناة الشديدة قد وَلَّتْ إلى غير رجعة وجَوْدَة الحياة لأفرادها في تحسن مستمر ... أصبح لدى الأسرة ما لدى غالبية الأسر من أجهزة كهربائية ... دخل التلفاز المنزل أخيراً مشحوناً بالطائرة من ليبيا حيث يعمل ابراهيم ... كان ملوناً ومن ماركة شارب اليابانية .... يومها فقط استطاع أبناء الأسرة المشاركة في حوارات زملائهم في الدراسة حول البرامج التي يبثها التلفزيون ... المسلسلات المصرية والسورية والمحلية التي كانت تُبَثُ أسبوعياً وبرنامج "فكر وأربح" لرافع شاهين وحلقات المصارعة ... فيما بقيت تكاليف التعليم الجامعي تشكل عبئاً كبيراً على الأسرة ... حيث اضطر أخي شحده الذي التحق بالجامعة الأردنية بعدي بسنتين لدراسة الرياضيات ... أن يلجأ أيضاَ للاقتراض لسداد الأقساط الجامعية ... فحصل على قروض لهذه الغاية من لجنة اليتيم العربي ومن صندوق الجامعة أيضاً ...

في هذا الوقت كان الصغار يَكْبُرون فهذا ياسر قد أصبح في الصف الثالث الإعدادي جادٌ ومجتهدٌ يستعين بعكازتيه المعدنيتين للذهاب بكل نشاط إلى مدرسة عبد الله بن سراج القريبة وهذا عدنان رفيق ياسر الدائم يحمل له حقيبته المدرسية وهو يَقِّلُ عنه بصف واحد فقط ... وعبله وحيدة الأسرة وأميرتها في الصف الثالث الإبتدائي ... فيما خليل آخر العنقود ذو الشعر الأشقر مدلل الأسرة وطائرها الجميل في السنة الخامسة من عمره .... أما والدي فقد استمر كعهده دائماً يعمل بهمة الشباب في ورش البناء والإعمار ... في حين استمرت أمي سيدة المنزل والملاك الحارس للجميع في إدارة الدفة بكل همة ونشاط برغم ارتفاع الضغط وآلام الظهر التي لا ترحم ... وهي تَجْهَدُ هذه الأيام في مهمة لم تعتد عليها سابقاً ولم تصرح بها علناً لأفراد أسرتها ... فقد حان الوقت لأن تصبح حماة ولها كنة كما الكثيرات ... فالوقت يمضي ولا بد لها من أن تفرح أخيراً بزواج ابنها البكر ابراهيم ....
أما أنا فقد شارفت على استكمال سنتي الجامعية الثالثة ... الدراسة تسير حسب البرنامج وكما هو مخطط لها ... لم أكن شديد التعلق أو الشغف بالهندسة المدنية كتخصص ومسار لحياتي المهنية المستقبلية ... ولكنني كنت حريصاً أن أظل متحلياً بالحد الأدنى من الجدية والمثابرة بما يضمن لي نتيجة جيدة عند التخرج ....

كانت الجامعة ميداناً فسيحاً للدراسة والتعلم ليس فقط في مجالات الدراسات الاكاديمية المتخصصة ولكن أيضاً في مجالات أخرى مصاحبة ... فهواة الرياضة والموسيقى والفنون بأنواعها كانت لديهم الفرصة لممارسة هذه الهوايات وتنميتها ... مجالات كنت أحبها من بعيد ولكنني لم أكن يوماً ضمن الممارسين لها ....

لقد وفر جو الجامعة مثل أي جامعة في العالم المجال لممارسة اهتمامات أخرى بعيدة كل البعد عما تقدم ... فقد كانت ساحةً للاشتباك مع الجنس الآخر لمن يرغب أو ترغب في الشروع بعلاقة عاطفية قد تكون نهايتها اختيار وتحديد شريك العمر المستقبلي أو حتى لمجرد التسلية وتزجية الوقت ... وهنا أيضاً وجدت نفسي بعيداً كل البعد عن هذا المجال ... فلم تستطع أيٍ من حسناوات الكلية أو الكليات العلمية المجاورة ولا حتى الكليات الإنسانية الشقيقة أن تخطف قلب هذا الفتى ... الذي أسرته ذات يوم فتاة يافعة ... احتلته لسنوات ثلاث ثم أخلته بهدوء ليبقى موصد الأبواب بعدها عصياً على الاختراق ...

فئة محدودة من الطلاب كانت مهتمة بمجال آخر مختلف هو المجال السياسي ... يومها كانت الاحزاب السياسية محظورة تماماً ... بيد أن الحرم الجامعي كان يتمتع بحصانة من نوع ما لمن يريد أن يمارس مثل هذه الأنشطة ... وقد كنت شديد الدهشة والاستغراب في السنة الأولى عندما كنت أشاهد الأنشطة أو الاحتفالات للعديد من الاحزاب السياسية المحظورة إضافة للمنظمات الفدائية الفلسطينية ...

كانت الساحة السياسية في الجامعة مقتصرة على اتجاهين اثنين أولهما الأحزاب والحركات اليسارية والشيوعية والبعثية وهذه كانت الأكثر نشاطاً وحضوراً ... وثانيهما الإتجاهات الإسلامية ممثلة بشكل رئيسي بجماعة الإخوان المسلمين ...

تم الإعلان في بداية سنتي الجامعية الأولى عن انتخابات جمعية طلاب كلية الهندسة فسارعت وزميلي نايف خوري للترشح لهذه الإنتخابات ... ليتضح بعد عدة أيام أن هناك كتلتين رئيسيتين قد ترشحتا للانتخابات وهما كتلة الإسلاميين برئاسة وائل السقا –أحد قيادات حزب جبهة العمل الإسلامي حالياً- وكتلة تحالف الإتجاهات اليسارية والليبرالية والعلمانية برئاسة غاده عمرو ... وأن لا مجال لنا للمنافسة وسط هذه الاجواء ليسارع كلانا إلى المرحوم د. محمد المقوسي –ابن بلدتي- المسؤول عن تنظيم هذه الإنتخابات لإبلاغه بإنسحابنا من هذه المواجهة ولنتفاجىء بسؤاله لكلينا هل ثمة من أحد ضغط عليكما للإنسحاب ... فازت قائمة الإسلاميين بالإنتخابات وأذكر هنا أن طالبة واحدة فقط كانت ترتدي الحجاب في ذلك الوقت من بين كافة طالبات الكلية الذي كان يبلغ عددهن نحو اربعين طالبة ...

أنا متدين بالفطرة ومواظب على أداء الصلاة منذ سنوات ... ولكنني بعيد كل البعد عن الإسلام السياسي والحركات الإسلامية لعدم القناعة التامة بالجانب السياسي من طروحاتها ... وقد حاول زملاء لي في الكلية كنت أحبهم واحترمهم كثيراً استمالتي للإنضمام لجماعة الإخوان المسلمين دون جدوى ... وخلال نفس الفترة كنت ألتقي كثيراً بصديق الدراسة الإعدادية الذي كان يدرس الفيزياء في الجامعة ... وكان يحدثني عن حزب التحرير الذي انضم إليه منذ فترة ... ويستفيض في الحديث عن الحلقات التي تعقدها المجموعة التي كان ينتمي إليها ... وكيف أن نهج الحزب هو السبيل الوحيد للخلاص وأن الهدف هو إقامة الخلافة الإسلامية من خلال مبدأ "أَخْذْ النُصرة" أي استمالة من لديهم القدرة أو القوة – مثل قادة الجيش مثلا- للإنضمام للحزب والإستيلاء على السلطة ... وأن التحريريين هم الأصوب نهجاً والاكثر تضحية بدليل مطاردة الدولة لهم وسجنهم وإجبار أعضاء الحزب الذين يتم توقيفهم على إعلان البراءة من الحزب في الصحف اليومية ... كان يعطيني نسخاً من البيانات التي يوزعونها سراً والتي تعرض مواقف الحزب من المستجدات السياسية في المنطقة والبلد ... كنت معجباً بفكر الحزب ولكنني غير مقتنع برؤيته لإقامة الخلافة ...
لم ينتظر صديقي كثيراً وعرض علي ذات يوم الإنضمام إلى الحزب ... مؤكداً أن عدم الانضمام هو إعراض عن الجهاد وأن نتيجته الخسران الشديد في الدنيا والآخرة وتلا عَلَيَّ الحديث الشريف " إذا تبايعتم بالعِينَةِ وأخذتم أذناب البقر ورضيتم بالزرع وتركتم الجهاد سَلَّطَ الله عليكم ذلاً لا ينزعه شيء حتى ترجعوا إلى دينكم" .... قال كلمته ومضى وتركني فريسة صراع حاد بين قبول الطلب وبين رفضه ... فقد كان لَدَيَّ مئة سبب وسبب للموافقة ومثلها للرفض ... لم أنم تلك الليلة بتاتاً ودخلت في وضع نفسي سيء أفضى إلى حالة من الإكتئاب لم أخرج منها إلا بعد أسابيع طوال ... تجنبت لقاء زميلي هذا بعدها ولم أعد أراه حتى تخرج من الجامعة ... لألتقيه بعد ذلك بسنوات عند صديق مشترك لأفاجىء بأنه قد ترك الحزب وتخلى عن كافة المبادىء التي حاول أن يقنعني بها ذات يوم ...

أدى توقيع معاهدة السلام المصرية الإسرائيلية في آذار 1979 وحلول يوم الأرض في تلك الفترة إلى إندلاع مظاهرات هي الأعنف في تاريخ الجامعة مع تنفيذ الطلبة لإضراب شامل عن الدراسة ... كانت الأسباب في البداية سياسية محضة تحولت بعد ذلك إلى المطالبة بالسماح بتشكيل إتحاد لطلبة الجامعة بدلاً من الجمعيات الطلابية وقد تم التعامل بشدة مع هذه الأحداث حيث شمل ذلك التعرض بالضرب للمشاركين واعتقال عدد منهم وقد أصيب رئيس الجامعة وقتها د. ناصر الدين الأسد بجلطة على أثر هذه الأحداث ... استمر طلبة كليتي الهندسة والطب في الإضراب عن الدراسة وقد أصدرت الجامعة قراراً بإلغاء التسجيل الجامعي لكافة الطلبة في الكليتين ما عدا طلبة السنة الاولى فيهما ... وتم منعهم من دخول الجامعة إلا مصطحبين معهم أولياء أمورهم أو كفلاء مقبولين لإعادة تسجيلهم بعد تقديم تعهدات بالتقيد بالأنظمة والتعليمات الجامعية وأن يكون دخولهم من بوابة كلية الطب وليس البوابة الرئيسية للجامعة ....



تعليقات القراء

لا يوجد تعليقات


أكتب تعليقا

تنويه :
تتم مراجعة كافة التعليقات ،وتنشر في حال الموافقة عليها فقط.
ويحتفظ موقع وكالة جراسا الاخبارية بحق حذف أي تعليق في أي وقت ،ولأي سبب كان،ولن ينشر أي تعليق يتضمن اساءة أوخروجا عن الموضوع المطروح ،او ان يتضمن اسماء اية شخصيات او يتناول اثارة للنعرات الطائفية والمذهبية او العنصرية آملين التقيد بمستوى راقي بالتعليقات حيث انها تعبر عن مدى تقدم وثقافة زوار موقع وكالة جراسا الاخبارية علما ان التعليقات تعبر عن أصحابها فقط ولا تعبر عن رأي الموقع والقائمين عليه.

- يمكنك تسجيل اسمك المستعار الخاص بك لإستخدامه في تعليقاتك داخل الموقع
الاسم :
البريد الالكتروني :
اظهار البريد الالكتروني
التعليق :
رمز التحقق : تحديث الرمز
أكتب الرمز :

إقرأ أيضاً

رياضة وشباب

محليات