وادي السير رفقاً بقلبي




كان الصيف مختلفاً هذا العام ... ليس فقط بسبب انتهاء سنتي الجامعية الأولى بنجاح ... إنما أيضاً لحدث انتظرناه طويلاً ... أخيراً وبعد ثلاث سنوات من الغربة المتواصلة في ليبيا ... أخي ابراهيم يأتينا زائراً ... كانت الفرحة أكبر من أن تستوعبها القلوب المتعبة التي أضناها البعاد ... ولا حتى أجواء البيت بغرفتيه الصغيرتين ... الذي غص بزيارات الأصدقاء والمقربين للتهنئة بعودة الغائب الغالي ... لم تكن المرة الأولى التي يعود فيها ابراهيم من السفر ... ولكنها الأولى له كمغترب يحمل بعضاً من ثمار تعب وكفاح أسرة بكاملها ... معلناً بداية مرحلة جديدة ليس في حياته الشخصية فقط وإنما في حياة اخوته ووالديه ....

لم تكن الزيارة فقط لإطفاء نار الشوق والحنين بين ابن طال غيابه وأهله ومحبيه وإنما فرصة لإتخاذ ما قد يؤدي إلى تغيير جوهري في واقع وحياة الأسرة التي صبرت وكافحت سنوات طوال ... لقد بدأت مرحلة تحقيق بعض من التطلعات التي كانت حتى سنوات قليلة أحلاماً بعيدة المنال ... وأولها إنشاء بيت يليق بهذه الأسرة وصبرها الطويل ...

كان وقت الزيارة محدوداً وكان على إبراهيم أن يتحرك سريعاً بهذا الإتجاه ... كان التوجه صوب مناطق عمان حيث يقيم الأهل والأقرباء ... فقد كنا الأسرة الوحيدة التي بقيت مقيمة في وادي السير في حين انتقل الجميع تباعاً إلى عمان ... لم يطل البحث طويلاً فقد تم شراء قطعة أرض بمساحة (314) متراً مربعاً في حي نزال مُطِلَّةٍ على منطقة رأس العين التي كانت ذات يوم موقعاً للمحاجر والكسارات قريباً من التقاطع المؤدي إلى منطقة الوحدات ... بخمسة دنانير للمتر المربع الواحد وهو سعر لا يقل كثيراً عن أسعار الأراضي في بعض مناطق بيادر وادي السير في ذلك الوقت ... إلا أن الأسرة قد فضلت الإنتقال إلى حيث يقيم الأهل والأقرباء ....

انتهت إجازة إبراهيم وغادر عائداً إلى ليبيا على أن يقوم والدي بالشروع مباشرة في بناء البيت المنشود ... لم يمضي سوى أسبوعان أو ثلاثة أسابيع حتى كان والدي قد استكمل التحضيرات اللازمة للمباشرة بمشروع العمر .... فقد اتفق مع ابن اخت له يعمل في مجال المقاولات على تولي عملية البناء ...

تم التوجه لإنشاء مسكن مساحته قرابة المئة متر مربع وهي مساحة كانت مقبولة لا بل كبيرة في تلك الأيام فغالبية الأسر كانت تقيم في مساكن أصغر مساحة ... كانت قطعة الأرض صخرية وعرة شديدة الإنحدار مما استلزم إنشاء جدار استنادي كبير في أسفلها ... لم تستغرق عملية البناء وقتاً طويلاً حيث كان والدي أحد العمال الرئيسيين في الموقع ... لقد عمل والدي على مدى أكثر من عشر سنوات يحمل الباطون على كتفه لإنشاء مساكن الآخرين وها هو اليوم يحمله لبناء مسكنه ومسكن عائلته ... هي المرة الأولى التي لا يشعر بثقل التَنَكَةِ على كتفه ... ويخلط الباطون بكل همة ونشاط دون شعور بالتعب والإرهاق ... ويرفع صوته منشداً ومغنياً وهو يرتقي السلم لصب الأعمدة ... كان حريصاً يوم صب السقف على إحضار قطع أقمشة مختلفة الألوان رفعها على أطراف البناء كأعلام ورايات ترفرف ابتهاجاً واحتفالاً بالمناسبة .... وخلال التنفيذ لم يغب عن ذاكرته للحظة ما كابدته الأسرة في البيوت المستأجرة التي أقامت فيها خلال السنوات الماضية ... فقد أصر على إبن أخته أن تكون كافة الجدران الخارجية من الباطون دون وجود ضرورة إنشائية لذلك مستحضراً الجدران الطينية لمنزل "أم صالح" وأن يكون السقف مرتفعاً والغرف واسعة وفي مخيلته منزل "يوسف المفلح" ذو السقف المنخفض والغرف الضيقة ... وأن تكون الأرضيات من البلاط المجلي بشكل جيد هرباً من أرضيات الباطون الخشنة التي عانت الأسرة منها طويلاً ...

حاولْتُ المساعدةَ قدر الإمكان في الأعمال الخاصة بإنشاء البيت ... إلا أن دوامي المكثف والطويل في الجامعة خلال الفصل الصيفي قد صَعَّبَ المهمة كثيراً فلا وقت فراغ لدي سوى عطلة الجامعة الأسبوعية يومي الخميس والجمعة ...

تم استكمال بناء البيت ... ثلاث غرف واسعة وفرندة ومطبخ وحمام ... حلمٌ غالٍ اضطرت الأسرة للإستدانة من الآخرين لتحقيقه ... فما تبقى من المال بعد شراء الأرض لم يكفي لتغطية كافة النفقات لمنزل بهذه المساحة والمواصفات ... لذلك تم صرف النظر عن بعض الأعمال التي يمكن تأجيلها إلى مراحل لاحقة مثل طراشة الجدران ودهان الأبواب واستكمال السور الخارجي ...

أخيراً سيكون للأسرة منزلها الخاص ... وداعاً لمرحلة السكن في بيوت الآخرين والخضوع لتعليماتهم واشتراطاتهم والخوف من عدم القدرة على تدبير كامل الأجرة قبل نهاية الشهر ... المساحة هنا أوسع ولا ازدحام هنا .... وتستطيع أن تجد فيه ركناً أو زاوية خاصة بك ... لا قيود هنا على الأحلام والتَخَيُلات فالسقف مرتفع والجدران متباعدة وخلف المنزل مساحة واسعة يستطيع الكبار فيها والصغار على حد سواء ممارسة ما يشاؤون فيها من أنشطة مهمة أو غير مهمة ... إضافة إلى سطح فسيح يتسع إقامة سهرة عرس أو الدراسة تحضيراً لإمتحان مدرسي أو جامعي ... ليس هذا فقط فمجرد الإنتقال إلى مسكن كهذا هو إعلان عن الإنعتاق من وضع اجتماعي مقترن بالفقر والبؤس يثير التعاطف والشفقة إلى وضع مختلف لا يقل عن أوضاع الآخرين بل قد يفوق جزءاً كبيراً منها ...

كنت مبتهجاً مثل كل أفراد أسرتي بالمنزل الجديد وأريد للأيام أن تهرول مسرعة كي يحين موعد الإنتقال إليه ... لكن غُصَّةً في الحلق كانت تلازمني كنت أجْهَدُ في تجاهلها ما استطعت إلى ذلك سبيلا ... كيف لي أن أترك وادي السير ملعب الصبا وميدان الشقاوة والشباب فيها عَرَفْتُ الحياةَ وخَبِرْتُها وفي مدرستها نَضَجْتُ وتَفَوَقْتُ ووَجَدْتُ نفسي ... طُرُقاتها أزقتها ساحاتها تحفظ لي من الذكريات أجملها ... فيها عَرَفْتُ الأصدقاءَ والصحاب ... إن غادرتها فلن يغادرها قلبي الذي خفق فيها بالحب أول مرة ...... أَتْرُكُهُ وديعة لديك يا غالية ... فرفقاً بقلبي يا وادي السير ...

سلام عليكِ وعلى الفسيفساء الجميلة من أهلكِ الطيبين ... وستبقى لكِ ولهم المنزلةَ الأغلى في القلب والوجدان ما حييت .... وداعاً وادي السير ....



تعليقات القراء

لا يوجد تعليقات


أكتب تعليقا

تنويه :
تتم مراجعة كافة التعليقات ،وتنشر في حال الموافقة عليها فقط.
ويحتفظ موقع وكالة جراسا الاخبارية بحق حذف أي تعليق في أي وقت ،ولأي سبب كان،ولن ينشر أي تعليق يتضمن اساءة أوخروجا عن الموضوع المطروح ،او ان يتضمن اسماء اية شخصيات او يتناول اثارة للنعرات الطائفية والمذهبية او العنصرية آملين التقيد بمستوى راقي بالتعليقات حيث انها تعبر عن مدى تقدم وثقافة زوار موقع وكالة جراسا الاخبارية علما ان التعليقات تعبر عن أصحابها فقط ولا تعبر عن رأي الموقع والقائمين عليه.

- يمكنك تسجيل اسمك المستعار الخاص بك لإستخدامه في تعليقاتك داخل الموقع
الاسم :
البريد الالكتروني :
اظهار البريد الالكتروني
التعليق :
رمز التحقق : تحديث الرمز
أكتب الرمز :

إقرأ أيضاً

رياضة وشباب

محليات