سنة أولى جامعة


بدأ العام الجامعي في أوائل تشرين أول ... كانت مشاعري مزيج من الزهو والسرور وأنا أبدأُ خطواتي الأولى في مرحلة جديدة من مراحل حياتي ... الأجواء مختلفة تماماً ... كل شيء يبعث على التفاؤل والبهجة ... الجامعة الأردنية مكان مميز وجميل سبق وأن زرته قبل عام مع معلم الكيمياء الأستاذ خليل كراجه ... ممرات أنيقة تحف بها أشجار جميلة ... مقاعد حجرية هنا وهناك ... حيث يجلس الشباب والصبايا ... يتحدثون يمرحون ... الوجوه نضرة جميلة ... وهناك شاب وصبية يجلسان بعيداً عن الجميع يتحدثان ...... الشاب يتكلم بشكل متواصل ... يداه لا تكفان عن الحركة وزميلته تستمع صامتة ثم تنفجر ضاحكة ... لم تبدأ السنة الدراسية بعد ... لا بد أنهما يتحدثان في شيء غير الدراسة ... ما هو يا ترى ....
لا أعرف أحداً بين كل هذه الجموع ... يبدو أنني الطالب الوحيد من مدرستي الذي قُبل في الجامعة هذا العام .... الجو يبدو ارستقراطياً إلى حد بعيد .... هي المرة الأولى التي سأختلط فيها بالفتيات ... ما هو الأسلوب الأمثل للتعامل معهن ... لم يخبرني أحد بذلك سابقاً ... كان عليهم أن يهيؤونا في المدرسة لمثل هذه المرحلة .... هل عَلَيَّ أن أبقى مبتسماً طوال الوقت وأن أبادر بإلقاء التحية عليهن ... ماذا عن لهجتي الفلاحية والكثيرون هنا يتحدثون باللهجة المدنية حيث القاف الصعبة القاسية تتحول إلى همزة لينة أنيقة .... لا ... لا أستطيع إجادة هذا الدور ... سأتحدث بلهجتي وليكن ما يكون .... متى ستصبح لدي رفيقة جميلة نجلس سوية بعيداً عن العيون مثل الكثيرين .... هل عَلَيَّ أن أبادر بالتعرف عليها أم انتظر أن تبادر هي أولاً ... لا لن أبادر كرامتي لا تسمح لي بذلك ... ماذا لو فعلت وتم صدي ... لا لن أفعلها أبداً ....
كنت ضمن قرابة مئة من المحظوظين الذين تم قبولهم في كلية الهندسة ذلك العام ... ترى هل كنا محظوظين فعلاً ... (16) من المقبولين كانوا من المقيمين غربي النهر كان ذلك قبل تطبيق قرار فك الإرتباط الإداري مع الضفة الغربية، إضافة إلى طالبين إثنين من الجمهورية اليمنية ... معظم الطلبة من المتفوقين وممن تجاوزت معدلاتهم في الثانوية العامة (92%) فلم تكن الاستثناءات جزءاً من نظام القبول الجامعي يومها ....
كلية الهندسة حديثة العهد جداً فقد أنشئت منذ عام واحد فقط وهي ما زالت في مرحلة التكوين ... ونحن نمثل الدفعة الثانية من الملتحقين بها ... لم يكن لها مبنى خاص بها بعد ... مركزها الرئيسي في الطابق الثاني من مبنى قسم الجيولوجيا .... وهو مبنى يرتفع في جزء منه على أعمدة دائرية ... حيث تم إبقاء قسم كبير من الطابق الأرضي مفتوحاً مع مقاعد حجرية لتوفير مكانٍ مناسبٍ لجلوس الطلبة وتَجَمُعِهم في ساعات الإستراحة أو أوقات انهمار المطر ... كما يشكل ممراً للطلبة المتوجهين إلى مبنى قسم البيولوجيا المجاور ...
كان علينا أن ندرس خمس سنوات كاملة .... الأولى منها سنة تحضيرية تشمل بشكل رئيسي مواد الرياضيات والفيزياء والكيمياء والجيولوجيا إضافة إلى مادة الرسم الهندسي ومادة المشغل اللتين يبدأ تدريسهما في النصف الثاني من السنة ... كانت أماكن المحاضرات تتوزع بين مدرج وصفي التل وقاعتي ج204 و ج206 في الطابق الأول من مبنى الجيولوجيا واللتان شهدتا الغالبية العظمى من محاضراتنا حتى نهاية السنة الخامسة ...
كانت الجامعة تحرص على الإرتقاء بمستوى الكلية الجديدة بتبنى أحدث ما هو مطبق في الجامعات العالمية سواء على مستوى المناهج أو الكتب الدراسية أو أساليب التدريس أو من خلال استقطاب أساتذة ومدرسين من ذوي الخبرة والكفاءة ... كان فيها العديد من الأساتذة المصريين وإستاذ هندي وآخر سوداني وآخرين من جنسيات مختلفة إضافة إلى أساتذة ومدرسين أردنيين ... ونظراً لعدم توفر مختبرات فنية متخصصة في ذلك الوقت فقد كانت بعض التجارب يتم إجراؤها والتدريب عليها في مختبرات الجمعية العلمية الملكية أو مختبرات معهد البولتكنيك وقد تمكنا في السنة الأخيرة من استعمال المختبرات التي تم تجهيزها ضمن مبنى الكلية الدائم الذي كان قيد الإستكمال في ذلك الوقت ...
كان طلاب الدفعة برغم عددهم القليل نسبياً يمثلون الفسيفساء الأردنية من حيث المناطق والشرائح والفئات الإجتماعية المختلفة ... وسط سيطرة ذكورية واضحة فالطالبات لا يشكلن إلا حوالي (20%) من إجمالي الطلبة وهي نسبة متدنية مقارنة بمعظم الكليات التي كانت النسبة تتجاوز فيها (50%) ... كانت نسبة لا بأس بها من الطلبة من أسر مرتاحة مادياً ومنفتحة اجتماعياً وهذه الفئة تضم الغالبية العظمى من الطالبات ... فيما نسبة آخرى لا بأس بها من الطلبة كانت من أسر محافظة وأقل دخلاً ... إلا أن ذلك لم يحل دون تحقيق درجة عالية من الإنسجام والتناغم بين مختلف طلاب وطالبات الدفعة ....
لم نشعر أننا قد دخلنا عالم الهندسة إلا مع بداية النصف الثاني من العام عندما بدأنا في دراسة مادة الرسم الهندسي والتي كانت تتطلب شراء "تي سكوير" وهي مسطرة عريضة شفافة يفوق طولها المتر الواحد ... لم يكن حملها والتنقل بها شديد اليُسْر خاصة عندما نركب تكسي السرفيس ولكنها كانت تُشعِرُنا بشيء من الزهو والخيلاء فهي تعلن للعموم أن حاملها طالب في كلية الهندسة ... في وقت كانت مهنة الهندسة في أوج ألقها ومجدها ...
لم تشكل تكاليف الدراسة في السنة الأولى عبئاً كبيراً على العائلة فوالدي يعمل في مهنته التي ألفها لسنوات طويلة ... وأخي لا يتأخر في تلبية كل ما أحتاجه وأطلبه ... فالأقساط الدراسية لم تتجاوز مبلغ الستين ديناراً فقط يضاف إليها أثمان الكتب ومستلزمات الدراسة وكلف المواصلات من الجامعة وإليها ... وخلال اليوم الجامعي الطويل لم أكن أصرف الكثير ... فلم أرتد مطعم الجامعة حيث كلفة الوجبة بحدود العشرين قرشاً سوى مرتين أو ثلاثة مرات ليس بداعي التوفير فقط وإنما لعدم استطابة ما كان يقدمه من طعام .... فقد وَعَيْتُ على الدنيا ومعي طَبْعٌ نادر لم أنجح في التخلص منه رغم محاولاتي المستمرة فأنا لا آكل الطعام إذا خالطه شيء من البصل أو الثوم أو أي نوع من التوابل أو البهارات ... طَبْعٌ سبب لي ولا يزال الكثير من الحرج والمعاناة ...
لم أواجه مشاكل جدية في الدراسة خلال سنتها الأولى فقد تمكنت من اجتياز كافة المواد دون كبير عناء ... إلا أنني لم استمتع بالدراسة ولم أجد نفسي فيها ... كما لم أحقق نتائج باهرة أو ملفتة بإستثناء نتيجة مادة الجيولوجيا التي دَرَّسَها لنا المرحوم د. أحمد كمال خضير ....
أما على الصعيد الإجتماعي فقد استطعت نسج علاقات زمالة وصداقة مع الغالبية العظمى من طلبة وطالبات الدفعة ... ألا أن أياً منها لم يرتقي إلى مستوى العلاقة المتينة أو الخاصة .... لم يكن لي شلة كما للكثيرين من الطلاب والطالبات ... علاقة مميزة واحدة كانت تربطني مع صديق قديم زاملني خلال المرحلة الإعدادية في مدرسة وادي السير ... رحل إلى مدينة الرصيفة .... التقينا ثانية في الجامعة حيث التحق هو بكلية العلوم .... فأعدنا أحياء ما مضى من وشائج الصحبة والرفقة القديمة ...
انتهت السنة التحضيرية وفي نهايتها يختار الطلاب التخصص الذي سيدرسه كل منهم ... طلبة الدفعة الأولى كان أمامهم الإختيار بين تخصصي الهندسة المدنية والهندسة المعمارية ... أما نحن فتم إضافة الهندسة الكهربائية لنا كتخصص ثالث ... قبيل دعوة الطلبة لإختيار التخصص المطلوب دعت الكلية واحداً من المهندسين المشهورين والمتميزين في كل تخصص من التخصصات الثلاثة ليقدم محاضرة يروج فيها للتخصص الذي يمثله ... ويحضرني في هذا المجال مضمون المحاضرة التي ألقاها المعماري المعروف د. وضاح العابدي ... حيث صَوَّرَ لنا الهندسة المعمارية على أنها أساس الهندسات وهي المجال الذي يتجلى فيه الإبتكار والإبداع أما بقية الهندسات فلا إبداع فيها ولا ابتكار ومهمتها فقط العمل على تنفيذ ما تجود به قرائح المعماريين من إبداعات ...
لم تفلح محاضرات الترويج والدعاية في تغيير قناعات الطلبة فكل منهم كان قد اختار التخصص الذي سيدرسه قبل ذلك بشهور ... كانت الحركة الإنشائية في تلك الفترة في أوجها وكان من الطبيعي أن يختار أكثر من ثلاثة أرباع الطلبة وأنا منهم فرع الهندسة المدنية....




تعليقات القراء

السوسنة السوداء
مقالة رجعتنا لايام الجامعة الاردنية
ذكريات
ساق الله على ايام الدراسة بالجامعة
03-10-2022 09:37 PM

أكتب تعليقا

تنويه :
تتم مراجعة كافة التعليقات ،وتنشر في حال الموافقة عليها فقط.
ويحتفظ موقع وكالة جراسا الاخبارية بحق حذف أي تعليق في أي وقت ،ولأي سبب كان،ولن ينشر أي تعليق يتضمن اساءة أوخروجا عن الموضوع المطروح ،او ان يتضمن اسماء اية شخصيات او يتناول اثارة للنعرات الطائفية والمذهبية او العنصرية آملين التقيد بمستوى راقي بالتعليقات حيث انها تعبر عن مدى تقدم وثقافة زوار موقع وكالة جراسا الاخبارية علما ان التعليقات تعبر عن أصحابها فقط ولا تعبر عن رأي الموقع والقائمين عليه.

- يمكنك تسجيل اسمك المستعار الخاص بك لإستخدامه في تعليقاتك داخل الموقع
الاسم :
البريد الالكتروني :
اظهار البريد الالكتروني
التعليق :
رمز التحقق : تحديث الرمز
أكتب الرمز :

إقرأ أيضاً

رياضة وشباب

محليات