كَرْتْ المُؤَن


كانت فرحتي بلا حدود لنجاحي في التوجيهي وللعلامة التي حصلت عليها ... فقد كنت أتوقع الأسوء في ضوء الحالة النفسية التي اجتاحتني عقب أداء الامتحان .... وقد ازددت فرحاً وسروراً عندما علمت بأنني قد حصلت على المرتبة الثانية على مديرية تربية ضواحي محافظة العاصمة والتي كانت تضم في ذلك الوقت مناطق وادي السير وصويلح وسحاب وناعور والموقر وخريبة السوق ... وقد دفعني الفضول لمحاولة معرفة ترتيبي على مستوى المملكة من بين أعداد الطلبة الناجحين في الفرع العلمي والذي بلغ في حينه خمسة آلاف وثمانية وثلاثين طالباً وطالبة ... فقمت بمراجعة علامات الناجحين والناجحات كما وردت في ملاحق صحف الرأي والدستور والشعب التي صدرت في ذلك اليوم لأجد أن بضعاً وثمانين طالباً وطالبة فقط هم من حصلوا على معدلات تجاوزت المعدل الذي حصلت عليه ....

كان فرح أفراد عائلتي لا يقل عن فرحي بما تحقق ... وقد سارعت بالإبراق إلى أخي في ليبيا أعلمه بالنتيجة ليرد علي ببرقية مماثلة عبر فيها عن فرح وسعادة غامرة مؤكداً لي دعمه المطلق وبلا حدود لإكمال دراستي في الجامعة التي اختارها وفي التخصص الذي أحب ...

أعلنت الجامعة الأردنية في أوائل شهر آب 1976 عن فتح باب تقديم طلبات الالتحاق بالجامعة .... في البداية عشت حالة من التردد والارتباك فيما يتعلق بالتخصصات التي سوف أضمنها طلب الالتحاق ... ما أن تناولت الطلب لتعبئته حتى عادت بي الذاكرة إلى الوراء نحو ستة أعوام عندما كنت في نهاية المرحلة الابتدائية وإلى حصة كان يُشْغِلُها الأستاذ عمر عيد الذي دَرَّسَنا الاجتماعيات ثم التربية الفنية لاحقاً ... يومها طلب الأستاذ أن يذكر كل طالب المهنة التي يتطلع إلى ممارستها مستقبلاً ... بادرت بالقول عندما جاء دوري أريد أن أصبح أديباً ... سألني الأستاذ وقتها انت عارف شو يعني أديب لأقول له اللي بيكتب قصص ... صحوت من تخيلاتي لأجد طلب الالتحاق فارغاَ أمامي ينتظر أن أملأه بالتخصصات المطلوبة ... حسمت أمري بسرعة وانْحَزْتُ للتخصصات العلمية التي تتناسب مع المعدل الذي حصلت عليه ... فكان الطب اولاً ثم الهندسة ثانياً ثم تخصصات كلية العلوم .... على الرغم من عدم توفر الحماس أو الشغف بأي منها ...

لم يمر سوى أيام قليلة على تقديمي طلب الالتحاق للجامعة .... حتى قرأت اسمي في الصحف ضمن مجموعة كبيرة من أوائل المحافظات والألوية دعتهم وزارة التربية والتعليم للحضور إلى معهد الأميرة عالية للمعلمات في جبل اللويبدة بهدف إيفادهم في بعثات دراسية.... ذهبت في الموعد المحدد مصطحباً معي الوثائق والشهادات اللازمة .... وعندما جاء دوري في المقابلة عرضوا عَلَيَّ أن أختار واحدة من أربع بعثات إما طب في رومانيا أو هندسة في روسيا أو طب أسنان في الباكستان أو صيدلة في سوريا .... فاخترت على الفور هندسة روسيا ...

اشْتَرَطَتْ اجراءات البعثة أن اجتاز الفحص الطبي وأن أقدم كفالة بقيمة ألفي دينار من تاجر أو شخص مليء مادياً ... فسارعت لإجراء الفحص الطبي في مختبرات وزارة الصحة في شارع السلط ... وقد قصدت أحد الأقرباء الذي عاد من السعودية بعد أن عمل معلماً هناك سنوات طوال لعمل الكفالة المطلوبة ... إلا أن قيام الجامعة الأردنية بإعلان أسماء المقبولين في كلياتها المختلفة ... قد جعلني أتريث قليلاً في استكمال هذه الإجراءات ... فقد تم قبولي في كلية الهندسة ... خبر استقبلته الأسرة بترحاب شديد ولسان حالها يقول إذا طِلْعِلْنا هندسه هون ليش نروح نتغرب في روسيا ... مش بكفينا غربة أخوك إبراهيم ... وعندما جادلت بأنها منحة مدفوعة بالكامل وأن الدراسة هنا ستكون على حسابنا ... جاء الرد بأن رسوم الجامعة قليلة ولا تكاد تتجاوز ثلاثين ديناراً في الفصل الواحد أي ستين ديناراً سنوياً ... خليك هون وبلاش هالغربة .... زي ما عَلَّمْنا أخوك بِنْعَلْمَك ...

أوقفت إجراءات البعثة وسجلت في الجامعة هندسة ودفعت الرسوم واستلمت الهوية الجامعية ... قرار اتخذته بنفسي وإن لاقى هوى وقبولاً حسناً لدى عائلتي ... لم أكن متحمساً كثيراً للدراسة في الدول الشرقية ... أما بالنسبة لتكاليف الدراسة فقد كنت قد قدمت لمنحة أعلنت عنها وكالة الغوث للطلبة من اللاجئين المقبولين في الجامعات الأردنية مقدارها (600) دينار سنوياً كحد أعلى بحيث يعتمد تحديد قيمة المنحة السنوية على قيمة دخل الأسرة ووضعها المعيشي ... كنت متفائلاً بالحصول على المنحة لانطباق كافة الشروط علي ولارتفاع معدلي في التوجيهي ولوضعنا المادي والمعيشي الصعب نسبياً ...

لم يبقى سوى أسبوعين للالتحاق بالجامعة وفي هذه الأثناء تواصل معي أخي إبراهيم برقياً عارضاً علي فكرة استغلال الفترة المتبقية في السفر إلى القاهرة ومقابلة معارف له هناك قد يستطيعوا توفير فرصة أفضل لي للدراسة في الجامعات المصرية ومن ثم متابعة السفر براً إلى طرابلس للقائه هناك وقضاء بعض الوقت فيها ....

لم أتردد في اتخاذ القرار كثيراً ... لأجد نفسي بعدها بيومين اثنين اجلس قرب النافذة في الطائرة المتجهة إلى القاهرة ... كانت المرة الأولى التي أركب فيها الطائرة ... كنت أراقب كتل الغيوم البيضاء التي تحلق الطائرة فوقها ... وفي نفسي شيء من القلق والرهبة ... فبعد قليل سوف تحط الطائرة في مكان لم يسبق لي أن زرته من قبل ... بدأت أشعر بتأنيب الضمير قليلاً لقد تسرعت بالموافقة على السفر .... فنحن في شهر رمضان وهو توقيت غير مناسب للسياحة والسفر ... ثم أنني قد قُبِلْتُ في الجامعة الأردنية وسجلت فيها وانتهى الأمر .... ماذا عساي أجد في الجامعات المصرية .... بدأت الطائرة في الهبوط التدريجي باتجاه مطار القاهرة وبدأت معالم المدينة بالظهور شيئاً فشيئاً ولم يقطع حبل أفكاري إلا صوت الشاب الجالس إلى جانبي وهو يشرئب برقبته باتجاه النافذة ويصرخ .... وحشتيني يا مصر ... وحشتيني يا مصر ... يا حبيبتي يا مصر ....

لم تكن الرحلة ممتعة على الإطلاق فالجو حار نسبياً على صائم مثلي ... كما لم تكن مفيدة أيضاً ... فلم أجد ميزة إضافية للدراسة في الجامعات المصرية عما هو متاح لي في الأردن ... وعندما حاولت السفر براً إلى ليبيا علمت بأن الحدود مغلقة بين البلدين بسبب الخلافات السياسية بينهما ... لأقرر العودة إلى عمان بعد قضاء ستة أيام في القاهرة ... لم أعد بخفي حنين فقد رافقتني هدية وحيدة اشتريتها من أحد أسواق القاهرة لوالدتي .... بابور كاز "بريموس" من الحجم الكبير سبق أن رأيت واحداً مثله ذات يوم عند احدى العائلات ....
تنفست الصعداء لدى وصولي إلى البيت أخيراً ... لأفاجىء بمن يخبرني بأن مسؤولين من وكالة الغوث قد حضروا إلى البيت للكشف على وضعنا الاقتصادي والمعيشي تمهيداً للمضي قدماً في إجراءات المنحة ... لِيَرُدُهم والدي على أعقابهم ... قائلاً بأن عادل قد سافر للدراسة في القاهرة بمنحة من الحكومة المصرية ... صعقت مما سمعت وكاد يغمى علي من الصدمة ... ما الذي فعلته يا والدي ... أعْلَمُ بأنك كنت تخشى أن يمسوا "كرت المؤن" بأي سوء ... أن يُوقِفوا الكرت أو يخفضوا عدد "الأنفار" إذا اكتشفوا أن أربعة من أنفاره الأحد عشر متوفيين ... وأعْلَمُ كم تشعر بالأمان والسكينة بوجود هذا "الكرت اللعين" .... ولكنه وَثَنٌ مؤقت ومزيف منحوه لنا وسرقوا وطن ... لقد أضَعْتَ عَلَيَّ منحةً لن تقل قيمتها عن خمسمائة دينار سنويا لمدة خمس سنوات مقابل كميات محدودة من الطحين والسكر والزيت إن استمرت هذه السنة فلن تستمر السنة التي بعدها ... لكنني أعْلَمُ في النهاية بأن قرارك سَيَمُر حتى لو كنت أنا موجوداً وقت حضورهم ... فلن أجرؤ على مخالفة رأيك أو الاقتراب مما تراه مقدساً ... سامحك الله يا أبي ...



تعليقات القراء

لا يوجد تعليقات


أكتب تعليقا

تنويه :
تتم مراجعة كافة التعليقات ،وتنشر في حال الموافقة عليها فقط.
ويحتفظ موقع وكالة جراسا الاخبارية بحق حذف أي تعليق في أي وقت ،ولأي سبب كان،ولن ينشر أي تعليق يتضمن اساءة أوخروجا عن الموضوع المطروح ،او ان يتضمن اسماء اية شخصيات او يتناول اثارة للنعرات الطائفية والمذهبية او العنصرية آملين التقيد بمستوى راقي بالتعليقات حيث انها تعبر عن مدى تقدم وثقافة زوار موقع وكالة جراسا الاخبارية علما ان التعليقات تعبر عن أصحابها فقط ولا تعبر عن رأي الموقع والقائمين عليه.

- يمكنك تسجيل اسمك المستعار الخاص بك لإستخدامه في تعليقاتك داخل الموقع
الاسم :
البريد الالكتروني :
اظهار البريد الالكتروني
التعليق :
رمز التحقق : تحديث الرمز
أكتب الرمز :

إقرأ أيضاً

رياضة وشباب

محليات