مقال: صفائح الجوع


تجاوزتْ درجةُ الحرارةِ في أوروبا حاجزَ ال 35 درجةٍ مئويةٍ، فبدأ الناسُ بالموتِ في الشوارعِ بسببِ الإجهادِ الحراريّ، وتناقصَ منسوبُ الأنهارِ حتى ظهرتْ حجارةُ الجوع؛ التي كتبَ عليها الناسُ في الماضي تحذيراتٍ من الجوعِ خلال موجاتِ الجفافِ السابقةِ، وأعلنتْ الدولُ حالات الطوارئ، وإشتعلتْ الحرائقُ في الغاباتِ، وتشرَّد عشراتُ الآلافِ من منازلهم.

أعتقدُ أنه من المناسبِ للأوروبيين أن يسترجلوا قليلاً، فحالةُ الفزعِ التي دبَّتْ في قلوبهم بسببِ إرتفاعِ الحرارةِ، وإنخفاضِ منسوبِ الأنهار، والحرائقِ المختلفةِ؛ لا تدعو الى كل تلك الدراما التي نُشاهدها اليوم، ولا تستحقُ نظراتِ الرعبِ التي نراها في عيونهم.

فهناك في أوطاني؛ تتجاوزُ الحرارةُ حاجزَ الخمسينْ، ولا يكفُّ عامل النظافة عن عمله تحتّ أشعةِ الشمسِ، وبإمكانكَ أن ترى عمّالَ البناءِ وهم يحملون الإسمنت والرمل على أكتافهم، وقطراتُ العرقِ تنسابُ عن جبينهم، ويبقى سائقو الحافلاتِ والسياراتِ متمترسونَ خلف عجلاتِ القيادةِ بحثاً عن لقمةِ العيش التي لنْ يجدوها لو آثروا الهروبَ من أشعةِ الشمسِ الحارقةِ الى منازلهم، وترى الأطفالَ وهمْ يتسابقون ويلعبون في الشوارع، كأن الشمس ولهيبها لا يعنيهم في شيء.

وهناك في أوطاني؛ إنخفضَ منسوبُ الأنهارِ منذُ مدةٍ طويلةٍ، فالفراتُ شارفَ على الجفافِ بسبب السدود التركية، وباتتْ حاضرةُ الرشيدِ ومدينة المليونِ نخلةٍ تشتكي العطشَ، ونهرُ الأردنِ تحوَّل من مصدرهِ الى بيَّارات المُحتل وحُقوله منذ مدةٍ طويلةٍ، لدرجةِ أن الجيل الحاليّ يعتقدُ بأن نهر الأردن هو عبارةٌ عن قناةٍ صغيرةٍ لا يتعدى عرضها المترين، وفي القارة السمراء؛ يهدد الأحباش إخواننا في السودان ومصر بالعطش، من خلالِ إقامةِ سدِّ النهضةِ على نهر النيل. وإذا ما سألتَ عن بقيةِ أوطاني فهي ولله الحمد دونَ أنهار منذُ خلقها الله عز وجل، وتعوَّدتْ على العطشِ كالإبلِ التي نُحبها وتُحبنا.

وهناك في أوطاني؛ لا تعنينا حجارةُ الجوعِ التي تقبعُ في قيعان الأنهار، لأننا لا نملكُ أنهاراً من الأساسِ، ولكن ظهور قيعانِ صفائح النفايات يعني لنا الكثير، فهو يعني أن غيرنا من الجائعينَ قد سبقنا في التنقيبِ، ولنْ نجدَ ما يسُد رمقَنا من هذه الصفيحة، لنبدأ في البحث عن صفيحةٍ جديدةٍ ربما تمنحنا وجبةً للعشاء.

حتى الحرائقُ لم تعد تُخيفنا كثيراً، فأوطاني تحترقُ منذ مدةٍ طويلةٍ، بنارها أو بنار غيرها، فأطفالُ غزة مُعتادونَ على الإستيقاظِ على أصواتِ الطائراتِ وإنفجاراتِ الصواريخِ وإنهيارِ المنازلِ وإحتراقها، والشامُ لم يعد فيها ما هو قابلٌ للإحتراق، بعد أن تسابقتْ الأطراف المختلفةُ الى إحراقِ البشرِ والشجرِ والحجر، وفي بلاد الرافدين ما زالتْ الإنفجاراتُ تتوالى، والحرائقُ تضربُ المنازل والسيارات بين الحين والآخر، وهناك في ليبيا، لا تكفي مياهُ البحرِ الأبيضِ المتوسطِ لإطفاءِ النار التي يُذكيها النفطُ الليبيّ، وتشتعلُ في أوطانهم وأجسادهم ومنازلهم وتاريخهم وديمقراطيتهم، واليمنُ السعيدُ قد فقدَ إبتسامته، وتاه خلال بحثه عنها، وغاص أبناءه في الدم والجوع حتى ركبهم.

لقد قدَّمتْ لنا أوروبا الكثير من العون؛ فقدّمتْ المعُونات خلال العقودِ الماضيةِ كالأرز والخيام للمُشردينَ من حروبٍ صنعتها بنفسها، وزرعتْ بين جنَباتنا بذرةَ الاحتلالِ الصهيونيّ، وقَّسمتْ وطني الواحد الكبير الى أوطانٍ كثيرةٍ، وساعدتنا في نثرِ بذور الفرقة والإقتتالِ والتنازعِ الداخلي، وإستعبدتْ من طالتهُ يدُها من إخواننا وأبناء جلدتنا، وحانَ الوقتُ لكي نردَّ لها الجميل.

نحن جاهزونَ لتعليمها كيفية إعادةِ تدويرِ النفايات، والبحثِ فيها عن بقايا وجبةٍ أو قطعةِ خضارٍ شبهُ صالحةٍ للأكل، أو قماشةٍ تصلحُ لأن تكون لباساً مدرسياً لأحد أبناءنا. ونحن مستعدُون لتعليمهم التوفير في إستخدامِ الماء لحدِّ الإكتفاء بمترٍ مُكعبٍ أو مترين خلال الإسبوعِ للأسرةِ المتوسطة، كما أننا جاهزون لتعويدهم على رؤيةِ الحرائق تضربُ أوطانهم دون أن تنزلِ دمعةٌ من عيونهم.

قد يعتقدُ البعضُ بأن التاريخ يُعيد نفسه كل ردح من الزمن، ولكنْ في الحقيقة نحنُ نُعيد التاريخ بأفعالنا، وما زَرَعتهُ أوروبا خلال العقودِ الماضيةِ قد أستوىْ على سوقهِ، وآن لها أن تحصُد الآنٍ.









تعليقات القراء

لا يوجد تعليقات


أكتب تعليقا

تنويه :
تتم مراجعة كافة التعليقات ،وتنشر في حال الموافقة عليها فقط.
ويحتفظ موقع وكالة جراسا الاخبارية بحق حذف أي تعليق في أي وقت ،ولأي سبب كان،ولن ينشر أي تعليق يتضمن اساءة أوخروجا عن الموضوع المطروح ،او ان يتضمن اسماء اية شخصيات او يتناول اثارة للنعرات الطائفية والمذهبية او العنصرية آملين التقيد بمستوى راقي بالتعليقات حيث انها تعبر عن مدى تقدم وثقافة زوار موقع وكالة جراسا الاخبارية علما ان التعليقات تعبر عن أصحابها فقط ولا تعبر عن رأي الموقع والقائمين عليه.

- يمكنك تسجيل اسمك المستعار الخاص بك لإستخدامه في تعليقاتك داخل الموقع
الاسم :
البريد الالكتروني :
اظهار البريد الالكتروني
التعليق :
رمز التحقق : تحديث الرمز
أكتب الرمز :

إقرأ أيضاً

رياضة وشباب

محليات