غيبوبة جيل وضياع وطن!


جراسا -

يدخل اليمن مرحلة عبث جديدة، مع تدافع هدنات ترسّخ واقعاً للتمزق أكثر منها سنحة للسلام. فمع نجاح القوى الدولية والإقليمية بضغطها على مؤسسات الشرعية في اليمن بتمديد هدنة جديدة لشهرين آخرين، بدءاً من الثاني من حزيران (يونيو)، وعلى أن يكون محورها وأساس ثباتها فك الحصار عن تعز، إذ بميليشيات الحوثي، كما توقع معظم الشارع اليمني البسيط، ترفض ذلك، وتبدأ مسلسلاً من المراوغة التى لم يعد فيها شيء من ذكاء وتذاكٍ بقدر ما هو تعزيز لمسار يمزق الوطن اليمني، واستمرار لحرب المنتصر فيها مهزوم.

وأظهر تشدد الحوثي في رفضه فك الحصار عن تعز، ما حاولت الميليشيات أن تخفيه لسبع سنوات مضت، حول حرب استهدفت مؤسسات الدولة، وتشظي المجتمع واستحداث خطاب طائفي معمق. فقد بقي شعار ميليشيات الحوثي أن حربها هي ضد الاستعمار الأميركي والبريطاني، بينما تذهب في تعزيز خطاب طائفي وبناء ميليشيات على فكرة مذهبية موغلة في العداء تجاه الآخر. ومن المضحكات المبكيات أن ميليشيات الحوثي تقصف تعز، وهي عاصمة اليمن الثقافية، يومياً وتحاصرها منذ سبع سنوات بمجموعة ميليشيات مضللة تقول إن اقتحام تعز يقود إلى القدس جغرافياً، بل ذهب معظم وفد الحوثي من العسكريين الصغار، نهاية أيار (مايو) المنصرم إلى العاصمة الأردنية عمان ولقاء المبعوث الدولي الخاص باليمن والمقيم هناك، للمشاورات حول فك الحصار عن تعز، وهم لم يسبق لهم زيارة مدينة تعز التي يحاصرونها، بل ويقنعون الخبراء الدوليين في العاصمة الأردنية بأن تعز هذه على تخوم القدس المحتلة! مؤمنين بهذه الجغرافيا المتخيلة، وبأن خلف هذه المدينة القابعة وسط اليمن فلسطين! ( ولا أدري إذا صدقهم أحد المستمعين الدوليين!).

ذكرتُ هذه النكتة المبكية لندرك حجم كارثة التضليل الذى نعيشه، ومدى الجهالة التى يقع فيها جيل يذهب مع ريح التعصب المقيت، ويدفع بالآلاف من أبناء اليمن للموت في جزء من وطنهم وهم يرددون صرخة (الموت لأمريكا، الموت لإسرائيل) وبقناعة بأن هذه الجغرافيا التى يأتون لغزوها من قرى تبعد عنها نحو الستمئة كيلومتر هي في منطقة أعداء كفرة.

لذا لا غرابة في أن تجد منشداً في بلاد الشام تابعاً لـ"حزب الله" ينشد: "إسرائيل سوف نُبكيك و(تعز سوف نمحوك!!)". صعقني ذاك النشيد المتداول في وسائل التواصل الاجتماعي، والذى يظهر حجم التضليل الذي يتم. ولا يدرك المنشد الصغير أن المدينة اليمنية التي يريد أن يمحوها، لا تزال تعتمد توقيت القدس، وكل بيت فيها له ذكرى ما مع فلسطين وتضحياتها، والمدينة الوحيدة التي تسمى بناتها غزة ويافا!

ليس من السهل إسقاط هذه النظريات المتخيلة عن أعداء الوطن الذين تصورهم جماعة الحوثي، ومعها تيار يتوسع، لأنصارها، أعداءً متخيلين تقصد بهم على الأقل ثمانين في المئة من سكان اليمن وجغرافيته، الذين هم في نظرها أعداء الإمام الحاضر والغائب من صعدة إلى طهران، وبالتالي هم كفار ودواعش وأعداء الوطن، ويجب التعامل معهم بناءً على نظرية بقاء اليمن أرضاً بلا سكان. والمشكلة أن هؤلاء الذين تريد ميليشيات الحوثي أن تمحوهم، كما يقول منشدها، هم جل الشعب اليمني إن لم يكن كله.

والمعضلة الأكبر أن قدر تعز أن تكون بوابة لهذا الشعب، فالأمر يتجاوز مجرد فتح معابر وفك حصار مدينة، إلى تفكيك عقلية تزداد تصلباً في رؤيتها الفاشية المؤغلة باستلاب تاريخي مخيف، وإنهاء النظرة المذهبية التي تريد خلق ثأر لا يعرفه الناس ولكن يمكن صنعه لاستمرار مبررات الحرب واستمرار كل هذا الخراب. حتى وإن تم تصدير شائعات حول جغرافيا متخيلة مزيفة وليس فقط شائعات حول مرويات تاريخية لا صحة لها، مثل أن سكان هذه المدينة مسؤولون عن مقتل الحسين؟!!

وبعدما أسقط في أيدي ميليشيات الحوثي ولم يعد هناك قصف من التحالف العربي، وتحقق للميليشيات ما تريد من وقف كل الجبهات، والسماح لها بكل الدخل للنفط والغاز وموارد ميناء الحديدة ومناطق سيطرتها، والاعتراف بسيادتها على مطار صنعاء، كل ذلك من دون مقابل، غير العمل على إسقاط الحجج! وذهب الكل نحو السلام، وأعطيت الميليشيات الحوثية كل طلباتها، ها هي تريد تحرير فلسطين أولاً حتى نمضي بفك الحصار عن تعز! ليس في الأمر سخرية، بل هو الواقع الأكثر غرابة من كوميديا سوداء. حقاً هي سخرية تبعث على بكاء مر لضياع جيل كامل في غيبوبة تاريخية، جيل سُرق منا في لحظة صراعات لا معنى لها، وسيتطلب الأمر كفاحاً مريراً على جبهات الوعي أصعب من هذه التي نواجهها الآن عسكرياً مع ميليشيات متمردة وقتلة عابرين بين كلمات عابرة!

معركتنا أطول من مجرد تحقيق هدنة زائفة أو لحظة تصمت فيها المدافع، وأصعب من فك الحصار عن مدن، إلى حاجتنا إلى دك أسوار تعصب مخيف ووقف حالة تغييب لعقول جيل تسرب نحو احتراف القتل، ووقف تيار يريد أن يختطف حضارة ويفتت وطناً! نعم ذاك قدر بلد ملكة سبأ التي تباهى بها الأقدمون بأنها أرض الجنتين وأول مجالس الشورى! وتلك معركة اليمن الكبرى، الذي سيحتاج إلى بناء الإنسان وإعادة ترميم مجتمع بكامله وليس فقط بناء مدن دكّتها مدافع العبث.



تعليقات القراء

لا يوجد تعليقات


أكتب تعليقا

تنويه :
تتم مراجعة كافة التعليقات ،وتنشر في حال الموافقة عليها فقط.
ويحتفظ موقع وكالة جراسا الاخبارية بحق حذف أي تعليق في أي وقت ،ولأي سبب كان،ولن ينشر أي تعليق يتضمن اساءة أوخروجا عن الموضوع المطروح ،او ان يتضمن اسماء اية شخصيات او يتناول اثارة للنعرات الطائفية والمذهبية او العنصرية آملين التقيد بمستوى راقي بالتعليقات حيث انها تعبر عن مدى تقدم وثقافة زوار موقع وكالة جراسا الاخبارية علما ان التعليقات تعبر عن أصحابها فقط ولا تعبر عن رأي الموقع والقائمين عليه.

- يمكنك تسجيل اسمك المستعار الخاص بك لإستخدامه في تعليقاتك داخل الموقع
الاسم :
البريد الالكتروني :
اظهار البريد الالكتروني
التعليق :
رمز التحقق : تحديث الرمز
أكتب الرمز :

إقرأ أيضاً

رياضة وشباب

محليات